نضال حمد
&
&

ربما يكون السلام بين الإسرائيليين الذين يحتلون أرض فلسطين الكاملة و الفلسطينيين الذين يخضعون لحالة حصار وعزل شاملة قد وصل إلى الطريق المسدود، وربما يقول البعض أن السبب في ذلك يعود لتسليح الانتفاضة وللمقاومة الفلسطينية التي تبنت نهج العمليات الاستشهادية، وربما يقول البعض الآخر أن السبب في هذا يعود لتعنت إسرائيل وعدم نضج المجتمع الإسرائيلي وانغلاقه الفكري والسياسي، وتقوقعه في عزلة مختارة وبإرادة المجتمع المذكور نفسه. وربما يأتي آخر ويعطي تفسيرا آخرا، مغايرا لهذا وذاك، لكن الحقيقة الوحيدة التي تبقى غير قابلة للتغيير، هي طبيعة العداء المستحكم بين الطرفين، وطبيعة التركيبة الصهيونية العنصرية للمجتمع الإسرائيلي. فلا الانتفاضة وسلاحها الشرعي الأقوى المقاومة هما السبب، ولا تقصير وعجز أهل أوسلو الفلسطينيين عن تلبية شروط السلام التي وضعها الجانب الإسرائيلي كما رآها مناسبة لمصلحته، وأجبر الطرف الفلسطيني الأضعف على القبول بها، وقد قبلها الأخير لأنه لم يكن ضالعا في الإسرائيليات والعقلية الإسرائيلية بالرغم من تبجحه بذلك. وهكذا فرضت عليه شروط تعجيزية لم يستطع الوفاء بها، مع العلم أن إسرائيل نفسها عجزت عن تحقيقها يوم كانت تخضع كل فلسطين ومناطق السلطة الفلسطينية لاحتلالها. الذي أفشل السلام حقيقة هو عجز المجتمع الصهيوني في إسرائيل عن استيعاب السلام وفهمه فهما حقيقا، فقد كانوا يظنون أن السلام يعني إقامة سلطة فلسطينية في بعض مناطق الضفة والقطاع تكون كقوات لحد في جنوب لبنان المحتل سابقا,تقوم بالأعمال التي كانوا هم كقوة احتلال يقومون بها. يعني سلام مقابل لا شيء، سلام مقابل عودة البعض الفلسطيني بشروط إسرائيلية محرجة ودقيقة، لذا فشل السلام الذي جاء من أوسلو لأنه لم يكن سلاما حقيقا بل اصطناعيا فرض على الفلسطينيين في ظروف صعبة ومعقدة ودقيقة، فرضت نفسها على المنطقة والعالم منذ ما بعد حرب الخليج الأولى.
استمرت حالة التراجع الفلسطيني منذ حرب الخليج الأولى واحتلال الكويت وهزيمة العراق في تلك الحرب، مما أفقد الطرف الفلسطيني حلفاء أساسيين في الخليج العربي وفي العالم. فقد خسروا العراق كقوة إقليمية عربية ذات جيش قوي مجهز بقوة صاروخية وقدرات دفاعية جيدة، كانت تشكل نقطة خوف وتحسب لدى الطرف الإسرائيلي، كما كانت تقف عائقا في وجه الترسانة العسكرية الصهيونية الضخمة بغض النظر عن طبيعة ونوعية الحكم العراقي السابق، وكذلك بالرغم من الفارق الكبير بين القوتين. كان العراق من الدول التي ساعدت منظمة التحرير الفلسطينية ماديا، ماليا ولوجستيا، ومن الدول العربية التي تؤمن بفكرة الوحدة العربية وقومية العرب، مما يعني أن فلسطين وقضيتها من صلب وجود النظام الحاكم واستمراره وعقيدته، وأن أي شيء يستبعد الحقوق الفلسطينية سيواجه من قبل الأنظمة القومية. وقد طبق هذا الأمر بأشكال مختلفة ومنوعة كانت تلبي طموحات ومصالح وشعارات الأنظمة أكثر مما تلبي مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ورغم ذلك كان الأمر مع تلك الأنظمة أفضل منه مع أنظمة هذه الأيام، لأن أنظمة هذا الزمان نزعت حتى ورقة التوت.
كما فقد الفلسطينيون بعد حرب الكويت أهم مراكز التمويل والدعم والمال، حيث تخلت عنهم دول الخليج كافة، كما أوقفت عنهم المساعدات وإيصال و تسليم الضرائب التي كانت تقتطع من مخصصات ورواتب أبناء الشعب الفلسطيني الذين كانوا يعملون في تلك الدول، وهم بالآلاف. بالإضافة لامتناع تلك الدول عن تقديم أية مساعدة للطرف الفلسطيني بسبب موقفه المعروف من حرب الخليج الأولى. وهذه المقاطعة أثرت كثيرا على تركيبة وحياة منظمة التحرير الفلسطينية والشعب الفلسطيني بشكل عام. وأخذت بعدها تضيق المساحة الموجودة أمام الفلسطينيين وأمام العرب الذين كانوا يقفون ضد المشاريع الأمريكية الصهيونية الطامحة لوضع البلاد العربية تحت السيطرة الأمريكية الإسرائيلية المباشرة، لكن احتلال الكويت عراقيا ومن ثم احتلالها أمريكيا بعد حرب تحريرها من الأشقاء العراقيين، وخروج إسرائيل منتصرة من تلك الحرب التي خاضتها نيابة عنها أكثر من 36 دولة عربية وعالمية، ساهم في تعزيز موقفها وازدياد قوتها على حساب ضعف العرب وتشرذم قوتهم. إذن أمريكا أصبحت في قلب الوطن العربي بجيوشها وأساطيلها وطائراتها، وهذا بحد ذاته عجل في مجيء و عقد مؤتمر مدريد للسلام وبالشروط التي أرادتها الإدارة الأمريكية.
ذهب الوفد الفلسطيني إلى المؤتمر تحت مظلة الوفد الأردني، حيث كان الوفد مشتركا بناء على إصرار الأمريكان والإسرائيليين بقيادة اسحق شامير، وقال هذا الأخير معلقا على المفاوضات مع الفلسطينيين أنه كان سيتركها تستمر لعشر سنوات قادمة، وهذا ما حصل بالفعل لاحقا، إذ أن المفاوضات مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استمرت عشر سنوات ولازالت جارية لكن بلا نتائج عملية كبيرة. فهل كان شامير يعي ما يقوله ويعني ما قاله ؟ الجواب أنه كان يعي ويعني ما قاله ولم يكن وحده يعي ويعني ذلك، فقد اثبت الأيام والسنوات التي تلت سلام اوسلو أن الطرف الإسرائيلي لا يريد السلام بل يريد ترك المفاوضات كما هي بلا تقدم حقيقي وتحقيق إنجازات، وفي المقابل يستمر في نهب الأرض وتهويدها واستيطانها ومصادرتها بطرق وبحجج مختلفة ومنوعة. مما يضيق على الفلسطينيين أكثر وأكثر ويتركهم عرضة للنهش، وهذا بحد ذاته جعل الجماهير الفلسطينية تعجل في تفجير الانتفاضة الثانية التي جاءت لتعيد ترتيب البيت الفلسطيني من جديد، ولتقول للعالم أجمع أن القضية الفلسطينية لازالت بلا حل، رغم أن كل قضايا العالم حلت بطرق مختلفة، وأن الفلسطيني بحاجة للحل وللسلام وللأمن والهدوء والحياة كباقي الناس في العالم الحر.
أظهرت الانتفاضة هشاشة السلام الاصطناعي الذي أريد عبره تجميل وجوه الذين أخرجوه ومثلوه في مسيرتهم السلمية الطويلة، من اوسلو حتى آخر لقاء لهؤلاء في قمتي شرم الشيخ و العقبة، فقد بينت الانتفاضة أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام مع جيش الاحتلال ولا مع الاستيطان والمستوطنات والمستوطنين. وأن الشعب الفلسطيني يجب أن يكون سيد نفسه لأن أي تبعية للغير سوف تكلفه الكثير، والعبرة موجودة في الحصار وحالة العزل التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في كافة مدن وقرى ومخيمات ومناطق الضفة والقطاع، وذلك منذ اندلاع الانتفاضة المباركة.
من هنا يجب أن يكون الفلسطيني سيدا في بلده وعلى أرضه، لا تابعا أو خادما لسلطة الاحتلال، ولا بديلا عن الاحتلال يقوم بما كان يقوم به هذا الاحتلال السيئ الصيت والسمعة. ويجب أن يتوفر له الأمن، وتتوفر له أيضا ضمانات الحياة الحرة والكريمة، ضمانات الأمن والسيادة والدفاع عن النفس والحرية والاستقلال والدولة الحقيقة فعلا لا قولا، دولة على أرضه التي هي ارض آباءه وأجداده، لا على 45% من 21 % أقرتها اتفاقيات أوسلو، فالمناطق الفلسطينية التي شملها قرار التقسيم أكبر بكثير من المناطق التي شملها القراران 242 و338 اللذان ينصان على العودة لخطوط الخامس من حزيران 1967. المهم أن السيادة والدولة والاستقلال شعار يجب الحفاظ عليه والعمل من اجل تحقيقه بكل السبل والطرق، فقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ليس مرهونا بكلام من الرئيس الأمريكي جورج بوش ولا من مجلس أمنه القومي وكونغرسه المتصهين مع علمنا المسبق بأن أمريكا أقوى دولة في العالم، وأن يدها طوية كما ألسنة قادتها، لكن هذه الأمريكا كانت أيضا صغيرة في تجربة فيتنام وستصغر أكثر وأكثر في العراق.
الدولة الفلسطينية ستقوم لأن وراءها شعب يقيم الدنيا ولم يقعدها منذ نكبته، وسيقيمها مادام خارج دائرة الحرية والاستقلال والسيادة، والشعب الفلسطيني هو الذي يختار قيادته ورئيسه وطريقة حياته ودستوره ووجهته، ما عدا ذلك لا يعني الشعب الفلسطيني، وإذا كان لبوش رؤية أخرى فهذه مشكلته، فرؤية الفلسطيني واضحة ومعروفة، الحرية، الاستقلال، السيادة، الدولة الحقيقية، استئصال الاستيطان، زوال الاحتلال وعودة اللاجئين الى ديارهم وتعويضهم عما لحق بهم من أذى.