محمد حسن الخالصي
&
&
لن أنسى ذلك الوجه المكفهر لطارق زياد المسؤول البعثي في قسم الكهرباء في كلية الهندسة بجامعة بغداد ربيع العام 1979 وهو يصرخ بوجهي بعد مناقشة حول كتاب المدرسة الإسلامية للشهيد الصدر الأول مع بعض الأصدقاء بشكل شخصي، حين سكت الجميع عند قدومه تكفيا لشره، فصم قبضته بوجهي وقال : ( نحن حزب علماني ولن يسير القسم حسب أفكاركم البالية، ومن يقف بوجهنا "نمرده مرد مثل الطماطة"(( أي نسحقه سحقا كالطماطم))، ولم يكذب الرجل، فحزب البعث نموذج صادق لما يمكن أن تصل إليه العلمانية حين يراد فرضها على المجتمع فرضا، ومحاولة تسميتها عبر مقالات وأدبيات تشبه (في سبيل البعث) بالعلمانية العربية هي محاولة بائسة حقا، فهي كمن يسوق لي ميشال عفلق مرة أخرى، وفي العراق!!، ولكن تحت اسم جديد.
يجري تدليس اسم العلمانية بتلفظها بكسر العين كي تربط بالعلم، وهو ما يقدسه كل ذي عقل وبصيرة. فهذه الكلمة أخذت من الإنجليزية أو الفرنسية وهي ليست عربية ولا علاقة لها بالعلم ومحتواه السامي، فهي بالإنجليزية : Secularism وبالفرنسية:Secularite
&وفي اللغتين تعني اللادينية أو الدنيوية، وقد وردت في دائرة المعارف البريطانية باعتبارها حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن أمور الدين إلى الدنيا، وقد برعت الأحزاب العربية على مدى القرن الماضي في استخدامها باعتبارها مذهبا اجتماعيا معلنا تارة ومخفي تارة أخرى.
قرأت سلسلة مقالات للدكتور (شاكر النابلسي) عن العلمانية العربية التي قال أنها تختلف عن علمانية أتاتورك الذي وصفه بأنه شيوعي!!! وليس علمانيا، كي ينأى بعلمانيته العربية المبشرة عن السيرة الظالمة والدموية لذلك الدكتاتور.
&والحقيقة أني دهشت لإلغاء الحقائق التاريخية الثابتة، باستخدام أدوات النفي اللغوية فقط (مثل لا وليس ولم)، فعلى سبيل المثال: أتاتورك ليس علمانيا!! هكذا ودون اعتبار للتاريخ القريب، وحزب البعث لم يكن علمانيا أيضا، ودون مراعاة لأدبياته وسيرته، ويكفينا استخدام أدوات النفي دليلا.
بمراجعة بسيطة يمكن أن يقوم بها أي شخص سيعرف الكثير عن مصطفى كمال أتاتورك وعن الفترة الصاخبة التي عاش فيها وأسس تركيا العلمانية بمساعدة حزبه أثناءها، وارتكب كل ما ارتكبه طاغية العراق بحق شعبه، فهل تكفي أداة النفي لإلغاء علمانية أتاتورك؟
&لم تكن المشكلة في أتاتورك فقط، بل في كل حزب الاتحاد والترقي، صاحب العقلية العلمانية القومية المتعصبة، ألم تستمر سيرة أتاتورك من بعده؟ ألم تصبح المبادئ العلمانية التي جاء بها تمنع نائبة منتخبة من قبل الشعب من دخول البرلمان التركي على أبواب القرن الحادي والعشرين، لا لشيء سوى أنها تغطي رأسها نتيجة معتقد ديني، وأتاتورك ليس في الوجود؟
&فما أتاتورك إلا صنيعة هذه الحركة، تماما كما أن صدام حسين هو وليد البعث العفلقي العلماني.
راجع السيرة الذاتية لمصطفى كمال، راجع أبسطها وأكثرها شيوعا مثل كتابات مصطفى طوران عنه وعن أصوله، ولن أطيل في ذلك، ولكني سأتطرق باختصار إلى الحركة التي ولدته،( واستمرت بعده حتى يومنا هذا بمجموعة من الأحزاب العلمانية والمؤسسة العسكرية الحاكمة فعلا) وهي الاتحاد والترقي، واباء الحركة العلمانية الذين سبقوا أتاتورك، بل جاءوا به، وهم الثلاثي أنور وطلعت وجاويد باشا اضافة الى عمانؤيل قرصو تلميذ تيودور هرتزل.
&ولن أنقل هنا مقولات الكتاب المسلمين أوالشرقيين، بل سأكتفي بنقل ما قاله غربيون يؤمنون حتى العظم بمبادئ العلمانية:
يقول هنري مورغنتو السفير الأمريكي في الاستانة عاصمة الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين عن حزب الاتحاد والترقي ما يلي:
&( انهم لم يكونوا دولة بالمعنى الصحيح، بل كانوا حزبا غير مسؤول أو نوعا من الجمعيات السرية التي تسلمت الوظائف الحكومية العالية عن طريق الدسائس و الترويع والاغتيال)( راجع د. زين الزين- نشوء القومية العربية)
ويقول عنهم المؤرخ ستون وتسون: ( إن أصحاب العقول المحركة وراء الحركة كانوا يهودا أو مسلمين من أصل يهودي، وأما العون المالي فكان يجيئهم عن طريق ( الدونمة) ويهود سالونيكا الأثرياء، كما أنه كانت تأتيهم معونات مالية من الرأسمالية الدولية أو الشبيهة بالدولية- من فيينا وبودابست و برلين وروما وربما باريس ولندن) ويقول كذلك: ( إن الحقيقة البارزة في تكوين جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية، فمنذ تأسيسها لم يظهر بين زعمائها وقادتها عضو واحد من أصل تركي صاف، فأنور باشا مثلا هو ابن رجل بولندي، وكان جاويد باشا من الطائفة اليهودية المعروفة بالدونمة و عمانوئيل قره صو كان من اليهود الاسبان القاطنين في مدينة سالونيكا، وطلعت باشا بلغاريا من أصل غجري) ( راجع ستون وتسون - النهضة الوطنية في البلقان)
ويقول عنهم الباحث التاريخي هيربرت ابري: ( كان يهود سالونيكا، ويعرفون بالدونمة ( أي المرتدون) شركاء الثورة التركية الحقيقيين، وفي تلك الفترة التي نحن بصددها لم يعرف أحد من الناس شيئا عنهم سوى قلة من العلماء المختصين بدراسة الشرق الأدنى ولم يكن أحد من الناس يجرأ أن يتنبأ أن هذه الفئة اليهودية المغمورة من المعروفة بالدونمة ستلعب دورا رئيسيا في ثورة كان لها نتائج خطيرة في سير التاريخ( ويقصد هنا انقلاب 1908 الذي جاء بهم إلى الأستانة) ( راجع ما ترجمه زين الزين عن المؤرخ هيربرت ابري- نشوء القومية العربية).
&
هؤلاء من جاء بمصطفى كمال أتاتورك، ولا دخل له بالشيوعية، بل أراد تطبيق العلمانية حسب الطريقة الأوربية، وابتدأ بشكل ببغاوي بمحاولة حل مشاكل مفترضة في المجتمع الأوربي ولا وجود لها في بلاده، بل اصطدم بواقعية الدين الإسلامي في معالجة مستجدات الأمور، وعندما سقط في يديه محاكات مشاكل كنيسة أوربا في تركية، أضطر لإظهار عداءه بالشكل السافر الذي نعرفه جميعا.
كيف بامكان أي شخص أن يتعرف على علمانية حزب ما من عدمها، أليست الأدبيات هي أول ما يتبادر إلى الذهن؟ ثم الممارسة العملية في القوانين.
كل أدبيات حزب البعث تتحدث عن علمانيته وفصله الدين عن بناء الدولة، بل هو أصدق من مارسها عملا وليس قولا. أما كيل المديح بشكل منافق للدين ( ونلاحظ هنا أن كل مبشري العلمانية يقولون الدين والدولة الدينية ولا يقولون الإسلام والدولة الإسلامية) باعتباره حاجة إنسانية شخصية والعلمانية العربية تحترم ذلك وووووو، وقد شبعنا منه أيام البعث المقبور، فكل هذه المعزوفات القديمة و المكررة موجودة وربما بأسلوب أكثر نفاقا في كتاب ذكرى الرسول العربي لمؤلفه ميشال عفلق، فما الجديد في هذه الكتابات المتجددة على المواقع العربية وهي تحاول أن تحي وتسوق جثة هامدة اسمها العلمانية العربية؟
أما على صعيد القوانين، فمنذ متى كانت قوانين العراق تحت حكومة البعث العربي العلماني إسلامية؟
فما خلا بعض قانون الأحوال الشخصية، فلن تجد القوانين المعمول بها مأخوذة من الشريعة الإسلامية وهذا هو عين ما يطالب به العلمانيون. ولا أحسب أن الحملة الإيمانية المدعاة تنطلي على أحد بعد أن فقد طاغية العراق كل وشائج العلاقة مع أوربا وأمريكا فلم يعد أمامه إلا أن يركب موجة ما، أية موجة كي يحيط نفسه بمن يمكن أن يدافع عنه. وكان استشهاد الصدر الثاني على يد طغمة البعث العفلقي العلماني، و في خضم الحملة الإيمانية المزعومة أكبر دليل على كذبها وخوائها.
لقد كان البعث العربي الاشتراكي علمانيا بامتياز، فكرا وسلوكا، بل هو أصدق من تنطبق عليه العلمانية.
فاذا كانت هذه الكتابات الجديدة هي مجرد محاولة لتسويق (عفلق) لنا من جديد، فما هي إلا صيحة في واد أو نفخة في رماد كما يقولون.
وأما إذا كانت من أجل تعريفنا بالعلمانية باعتبارها قادم يفترض أنه جديد؟ فنحن نعرفها جيدا، شاهدناها تطبق أمام أعيننا، وكنا مادتها و ضحاياها، على مذبحها قتل علمائنا، وتحت راياتها اعدم شبابنا، ومن أجل تطبيقها هدمت بلادنا، ومن أجل خنق صوت معارضيها شرد مواطنينا.
&فهل أصدق سطور الحالمين، أم سياط الجلادين؟
كي يرى الدكتور النابلسي أثر العلمانية العربية المفروضة بفكر البعث العربي الاشتراكي، فليزر بلادنا، ليزر أبا الخصيب والهارثة و القرنة والبصرة، ليزر السلمان والناصرية والسماوة والديوانية، ليزر المجر والعمارة والحي والصويرة، ليزر كربلاء والنجف والمحاويل، وليزر مندلي وزرباطية وخانقين وطوز خرماتو، ليزر حلبجة ... نعم حلبجة وشهداءها ومجازرها، ليزر بنجوين والطويلة و أحمد اوه، ليزر بلادنا من أقصاها إلى أقصاها، في مدنها وقراها، ليرى كيف أخذ هذا الوطن في سبيل البعث العلماني العربي، وأي تنمية وجنة خلق لنا بمنهجه وحوله إلى بقايا دولة وحطام وطن.
وحتى أتمكن من دخول بعض البلدان العربية لن أغامر في اخذ الدكتور النابلسي في سفر مخيف و مروع عن ممارسات الأنظمة العلمانية العربية، الواحد تلو الآخر، من المحيط إلى الخليج.
&ولا بد أن يأتي من يقول أن هذه ليست علمانيات، فما أدراني ما ستفعل علمانيتك؟ وهل سأكون وأبناء جلدتي مرة أخرى، مادة لتجربة اجتماعية جديدة، بضحايا جدد، وخمسة وثلاثين سنة أخرى؟
لقد كانت كلمات ديفيد بروكس في مقاله الشهير ( الاقلاع عن العادة العلمانية في ست خطوات) ونشره مشكورا موقع العراق للجميع، كانت كلماته في غاية السخرية وهو يقول في لهجة بينة الصدق: ((إن العلمانية ليست هي المستقبل؛ إنها رؤية الأمس الخاطئة للمستقبل. هذا الإدراك يدفع بنا نحن العلمانيين في طور التعافي إلى محلات بيع الكتب، أو المكتبات العامة، في محاولة يائسة لاكتشاف ما الذي يحدث في العالم. إنني أشك أني الوحيد، الذي وجد نفسه بعد الحادي عشر من سبتمبر يقرأ طبعة ورقية (غيرمجلدة) من القرآن، والتي كانت قد أُحضرتْ من بضع سنين خلت، في تلائم مع سمو المبدأ، ولكنها في الحقيقة لم تُفتح قط))
لن نخدع مرة أخرى، فكلهم طغاة وعلمانيون، رغم نفي الدكتور النابلسي، أتاتورك، ورضا شاه، وميشال عفلق وتلامذته، وكل حكامنا من المحيط إلى الخليج.
والله غلب أمره