سعد الله خليل حرب
&
&
&(حليب التيس علاج المرأة العاقر والرجل العقيم والعصبي والربو والضعف وجميع الأمراض المزمنة)
هذا ليس إعلانا أو دعاية لترغيب الناس بحليب التيوس، أو عنوانا مثيرا مخادعا للفت انتباه القراء وجذبهم والإيقاع بهم.
&إنها واقعة حقيقية حدثت في المنطقة الشرقية من بلاد الشام في الربع الأخير من القرن العشرين أي بعد أن وطئت قدما (آرمسترونغ) سطح القمر بأكثر من عشرين عاما، ففي أواسط الثمانينات أعلن أحد الأشخاص (أترك للمهتمين بعلم النفس تحليل شخصيته) فقد يكون أحد الساعين للكسب والتكسب قاس عقل الناس على مقاس عقله أو لعله أحد الخبثاء الذين أرادوا التندر أو واحد من الساخطين على اتساع مساحة الجهل والغيبية والخرافة والتخلف الذي يتردى فيه الناس، وتنامي عدد الجهلة والمتخلفين، الأمر الذي يعتبره ( بعضهم ) نعمة من الله يعمل على زيادة مساحتها لتمرير طروحاته وخرافاته واتساع نفوذه وتحقيق أهدافه.
ففي أواسط عام 1986 أعلن رجل من سكان المنطقة المذكورة أعلاه: أن (معجزة) حدثت بين دوابه، قد تكون رحمة للناس وإنقاذا لهم من بلاويهم وأوجاعهم وأمراضهم، فقد وُلد له في القطيع (تيسٌ) يدرُّ الحليب، وأن حليب هذا التيـس بعد أن أُجريت عليه العديد من التجارب الموثقة يشفي من جميع الأمراض والعاهات الحديثة والمعاصرة والمخضرمة والمزمنة، ويشفي خاصة من أمراض الضعف الجنسي وعدم الإنجاب عند الرجال والنساء، وأن (فنصة بنت عويّد) قد حملت إثر تناولها كأسين من حليب ذلك (التيـس المعجزة ) بعد عقم دام أكثر من ثلاثة عشر عاما، وأن (جروة بنت فديعان) قد حملت هي الأخرى بعد شربها من حليب التيس المذكور، وكانت قد يئست من نفسها ويئس ذووها منها بعد أن أمضت خمسة عشر عاما من العذاب والحسرة والألم. وأن (فحصة بنت سويلك) قد عاد إليها الطمث بكأس حليب واحد بعد انقطاع دام ست سنوات. وأن (مزعل بن بطيحان) تزوج بأربع نساء ولم يُرزق بطفل أو طفلة، لكنه ما إن شرب من حليب التيس حتى حملت نساءه الأربعة في شهر واحد. وأن (باير بن جربوع) المعروف برخاوته وهشاشته قد تزوج الآن ثلاث نساء بعد تناوله حليب التيس. وأن (عويّجْ) الذي بالكاد كانت تحمله قدماه صار يجري كالغزال، وقد فاز مؤخرا بقصب السبق. وأن.. وأن.. وأن.
والتيس لمن لا يعرف هو ذكر الماعز وكان معروفا وموصوفا لدى العرب والأعراب بالقوة والشدة والبأس:
قال الشاعر البدوي يمدح أحد الخلفاء :
&أنت كالكلب في حفظك للود..... وكالتيس في قراع الخطوب
وتحضرني الآن بهذه المناسبة قصة صديقين سأستطرد قليلا لأرويها :
&(جعيط) و(معيط) صديقان منذ زمن، اشتريا (بطة) لعشائهما وشرب كأسين من حليب السباع على شرفها ولحمها.
قال جعيط لمعيط: خذ (البطة). اذبحها وانتفها وانزع أحشاءها وتبّلها وضعها في الفرن ثم جهّز ما يلزم بينما أقضي بعض الحاجات وألحق بك، لعلنا ننسى همومنا وتعب أيامنا هذه الليلة.
ذبح معيط (البطة) ونتفها ونزع أحشاءها وتبّلها بالزيت والثوم والخل والبهارات ووضعها بالفرن، لكن رائحة الشواء زكمت خياشيمه وأثارت شهيته وأسالت لعابه، فلم يستطع صبرا، ولم يطق انتظارا، وكانت قد استوت ونضجت فأخرجها من الفرن وصب لنفسه قدحا.. ولهطها...
لحق جعيط بصديقه معيط بعد أن قضى حاجاته، لكنه وجد طعاما آخر من حواضر البيت غير (البطة). سأل صديقه عن (البطة) فجاءه الجواب غريبا مدهشا. قال معيط : (البطة طارت يا صاحبي)... . لم يستوعب كلامه في البداية، ظنه يمزح، كرر السؤال مرة أخرى فجاءه الجواب نفسه. قال : ألم تذبحها؟ أجاب : بلى. ذبحتها ونتفتها ونزعت أحشاءها وتبّلتها ووضعتها في الفرن. فصاح جعيط غاضبا : كيف إذن كيف؟ بطة مذبوحة ومنتوفة ومنزوعة أحشاءها وموضوعة في الفرن تطير ؟ قال معيط : اهدأ يا صاحبي اهدأ. ألا تؤمن بالله ؟ أجاب جعيط : نعم. قال : أليس الله على كل شيء قدير؟ أجاب : نعم. قال: ألا يحيي العظام وهي رميم ؟ أجاب : نعم.. ولكن.. ولكن..!! نهره معيط قائلا : صه، لا تكمل، لا تكفر، لقد اكتست البطة بالريش ودبت فيها الروح وفتحت باب الفرن وصفقت بجناحيها وطارت. صه، وإياك ثم إياك أن تكرر هذا الكفر ثانية فيسمعك أحد، لأنه دليل دامغ على ضعف ثقتك وقلة إيمانك وكفرك بقدرته عز وجل. بل قل : سبحان من يحيي العظام وهي رميم.
سكت جعيط حانقاً مختنقاً باعتراضاته، مغلوبا على أمره، وقد صدت نفسه عن الطعام والشراب، لكن شفتاه ظلتا تتحركان وتتمتمان أحرفا مبهمة غير مفهومة. ومعيط يكرر : كُلْ.. كُلْ. وإياك ثم إياك أن تكفر ثانية يا صاحبي. بل ردد دائما : سبحان من يحيي العظام وهي رميم. نعم قول حق، لكن معيط الذي لهط البطة والتهمها أراد به باطلا.
نعود الآن لقصة ذلك التيس، فقد ذاع صيته وانتشر خبره، فتقاطرت الناس من جميع المحافظات والبلدات والأرياف، أصحاء ومرضى وذوي عاهات، لمشاهدته والتمتع بهيبته وشرب شيء من حليبه، يحمل كل منهم أكبر كأس استطاع الحصول عليها ليشرب ويرتوي من حليب التيس الخارق علَّ آلامه وأمراضه ومصائبه تزول.
وقد حاول فريق من تلفزيون حكومي تصوير الحدث الجلل (التيس وهو يُحلب) لكن الحظ لم يواتيه، ولم يتمكن من التصوير، ربما خاف أصحاب التيس أن تطير معجزته أو (بركته).
وكانت شدة الازدحام تجبر الناس على النوم في العراء يومين أو ثلاثة بانتظار دورهم ليكحلوا عيونهم بطلّة التيس البهية، ويشربوا من حليبه الشافي الواقي، مما جعل أجرة فراش النوم في الليلة الواحدة وتحت قبة السماء الصافية المقمرة يفوق ضعفي ثمنه بكثير، إضافة لمبلغ مماثل ثمنا لكأس الحليب المنتظر.
صحيح أن السلطات قد حاصرت هذه المهزلة وطوقتها كما حاصرت وطوقت غيرها، وصحيح أن بعض الناس بعد أن تختبر هذه (المعجزات) وتكتشف أنها فنٌ من فنون النصب، وبابٌ من أبواب الاحتيال يعتمد على استغباء الناس والاستهتار بعقولهم، تستحي وتخجل من نفسها، لكن قسما منهم يتأزم ويستشيط غضبا على خيبته وهبله وعبطه، فيكيل الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال، ويصنّف هذه المصائب والبلاوي تحت بند المؤامرة، لكن التحقيقات التي أجريت لم تثبت أبدا أي صلة للإمبريالية والاستعمار بهذه القضية، اللهم إلا الاستعمار الفكري الموروث الذي يستوطن الأدمغة والعقول والأفئدة منذ قرون وقرون.
لقد راجت في تلك الفترة أقاويل وأكاذيب كثيرة عن عجائب هنا ومعجزات هناك، لكن معجزة (التيس) كانت أكثرها طرافة وأشدها إيلاما. ولا يخفى على أحد أن كلمة (معجزة) مشتقة من الفعل الثلاثي (عَجزَ). والعاجزون الذين يبحثون عن المعجزات وينتظرونها لتأخذ بأيديهم وتنتشلهم من أمراضهم وأوجاعهم (العقلية والنفسية والعضوية) إنما هم جماعات خاملة اتكالية كسولة يعشش فيهم الجهل وتستبد بهم الخرافة يسيرون في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ والبشر وحركة التقدم والتطور.













التعليقات