كريم عبد&
&
&
&
إذا كان للعصر الحديث تسميات عديدة، كأن يقال عصر التكنولوجيا أو عصر غزو الفضاء، فهو أيضاً عصر الإعلام، خاصة بعد أن أخذت وسائل الإعلام طابعاً كونياً لناحية سرعة الانتشار. وأصبح من الواضح أن للإعلام وطرق إدارته تأثيراً حاسماً على توجهات الرأي العام لاسيما بعد أن حسمت الفضائيات الأمر لصالحها.
ولذلك أصبحت قضية المسؤولية الأخلاقية حاسمة بدورها في كل ما تبثه وسائل الإعلام وفي المقدمة منها الفضائيات، وهي حاسمة فقط عند من يقيم للأخلاق وزناً واعتباراً. ولأن الفضائيات المصرية ذات صفة رسمية، يصبح الالتزام الأخلاقي بالنسبة لها أمراً واجباً وليس مستحباً فقط. لأن عدم الالتزام الأخلاقي هنا يعني، بالإضافة للأضرار السياسية والثقافية البالغة التي يتركها على الرأي العام، مغامرةً بسمعة الجهة المعنية ومصداقيتها أمام الجمهور، فالحقائق لا بد أن تتكشف عاجلاً أم آجلاً.
الإعلام المصري الرسمي ( موجّه ) أي أنه موجود أساساً لخدمة مصر ومصالحها، والدولة تتحمل المسؤولية بـهذا الشأن سلباً أو إيجاباً. وهذا ربما يخفف من مسؤولية أهل الإعلام من مذيعين ومقدمي برامج، لأنهم يخضعون لتعليمات الجهات الرسمية، لكنه لا يبرر الحماسة المفرطة عند بعضهم لتلك التعليمات دون تأمل أو تمحيص، لأن الإعلامي امرأة أم رجل يفترض أن يكون إنساناً مثقفاً، أي يعي ما يقول ويعرف اتجاه وتأثير القول.
وفي التفاصيل: صباح يوم 22 11 2003 تصدرت نشرات الأخبار جريمتان جديدتان لعصابات الجريمة والإرهاب الصدامية، ذهب ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من المدنيين بينهم طفلة وامرأة عجوز ورجال شرطة عراقيين في ( بعقوبة ) و (خان بني سعد ) حيث تم تفجير سيارتين مفخختين استهدفتا مزيداً من سفك الدماء وإمعاناً في إثارة الرعب في صفوف المواطنين.
وفي حين نقلت الخبر غالبية الفضائيات العربية بحيادية أو بشيء من الاستنكار، كانت الفضائية المصرية تتحدث عن عمليات جديدة ل ( المقاومة العراقية ) باثةً الخبر بحماس مفرط كما لو كان قتل العراقيين نصراً مبيناً!! حيث تبنت وجهة نظر عصابات الجريمة والإرهاب الصدامية التي تعتبر ( مراكز الشرطة العراقية أهدافاً مشروعة للمقاومة )!! دون أن تبدي أية ملاحظة حول قتل المدنيين!!
إن جميع الأعراف القانونية والأخلاقية في كافة بلدان العالم تعتبر الاعتداء على مراكز الشرطة أو أية مؤسسات رسمية اعتداءً على أمن الدولة والمجتمع أما قتل المدنيين وبهذه الطريقة الوحشية هي جرائم إرهابية لا يمكن التهاون معها أو التقليل من خطورتها بأية حال. أما كيف يمكن لإعلام دولة كبيرة مثل مصر أن يفرط بالمسؤولية الأخلاقية إزاء أرواح الأبرياء وبهذا الطريقة الغريبة؟! فهو أمر محير لكنه ليس جديداً!! لأن الإعلام المصرية ظل يرحب بالأعمال الإجرامية والإرهابية لعصابات صدام حسين منذ بداية محنة الاحتلال الأمريكي للعراق حيث قرر غالبية العراقيين والقوى الوطنية العراقية في ( مجلس الحكم ) وخارجه، مقاومة الاحتلال بالطرق السلمية. ومن المعروف أن المقاومة السلمية لا يمكن أن تكون فاعلة ومؤثرة إلا إذا تمت إعادة بناء الدولة العراقية لتصبح أداة وحجة في نفي مبررات وجود قوات الاحتلال. في حين أن هدف عصابات الجريمة والإرهاب هو إعاقة وتأخير مشروع إعادة بناء الدولة وإلحاق مزيد من الأضرار بالعراقيين في كافة المناطق. وإذا كانت الحركة الوطنية العراقية بأحزابـها المعروفة تتبنى شعار المقاومة السلمية للاحتلال وهي وصلت إلى نتيجة مهمة تمثلت بالاتفاقية الأخيرة مع الإدارة المدنية للاحتلال، لتسليم السلطة للعراقيين بحلول حزيران (يونيو ) المقبل، فمن هي الجهات الوطنية التي تقف وراء عصابات الجريمة والإرهاب هذه؟! وهل هناك مقاومة وطنية حقيقية في أي بلد تم احتلاله، تبقى مجهولة الهوية والانتماء، وهدفها تدمير المنشآت العامة وقتل الشرطة والمدنيين؟! أين هو المنطق وأين هي المصداقية إذن في نهج الإعلام الرسمي في مصر الذي يسمي الجريمة مقاومة؟! والمثير للحيرة أيضاً هو أن هذه المساندة المصرية لعمليات الجريمة والإرهاب، تتزامن مع تصاعد العمليات الإرهابية في المملكة العربية السعودية وتركيا، مما يعطي دفعاً وتأييداً للإرهابيين هنا وهناك. وهذا هو التأثير الضمني للإعلام الذي لا يستند لمعايير سياسية واضحة والتزامات أخلاقية تحسب وتتحسب لمثل هذه التأثيرات السلبية التي لا يمكن أن يتغافل عنها أي إعلامي يعتد بمهنته وطابعها الحساس. فعندما تؤيد أعمال الجريمة والإرهاب في بلد معين إنما تعطي مزيداً من التأييد والذرائع للإرهابيين ولثقافة الإرهاب في مختلف بلدان العالم.
وبدل أن يضع الإعلام المصري حداً لهذه المفارقة الغريبة، حوّل معادة الشعب العراقي إلى نهج ثابت في توجهاته، ففي صبيحة يوم الجرائم المذكورة نفسه، بثت الفضائية المصرية لقاءً مع رئيس تحرير جريدة الوفد، وبعد تشريق وتغريب في الشأن العراقي وبنفس الطريقة الثقيلة الوطأة على مشاعر العراقيين، أختتم رئيس تحرير الوفد تعلقه بالقول ( ولكن علينا أن ننتبه بأن أخطر شيء الآن هو ترجيح كفة الشيعة في العراق، إنـها قنبلة موقوتة ) ليكرر مقدم ومقدمة البرنامج نفس العبارة وببلادة غريبة حقاً لأنها غير مألوفة عند الإنسان المصري الذي عُرف بفطنته وذكائه. ويأتي العزف على وتر الفتنة الطائفية في الإعلام المصري في وقت بدأت أصوت المواطنين العراقيين في المدن السنية في العراق برفض مقولة ( المثلث السني ) وربطه بأعمال الجريمة والإرهاب، لا سيما وأن ضحايا جريمتي بعقوبة وخان بني سعد، الشرطة والمدنيين، هم من المسلمين السنة، فأية ( مقاومة ) هذه وعن أية ( قنبلة موقوتة ) يتحدث هؤلاء الإعلاميون؟!
وكان من بين أوضح التعبيرات بهذا الشأن تصريح أحد شيوخ الدين الأجلاء قبل أسابيع وفي أحد مساجد مدينة الفلوجة بعد صلاة الجمعة، والذي نقلته بعض الفضائيات العربية، حيث قال: ( نحن نرفض هذه العمليات المسلحة لأنها تشوه سمعة مدينة الفلوجة وتظهرنا بمظهر المدينة البعثية والصدامية أمام بقية العراقيين ).
هذه ليست أو مرة يتم فيها التعريض الطائفي بالمسلمين الشيعة في العراق من قبل بعض الكتاب والإعلاميين المصريين وغير المصريين، دون أن يكون للشيعة ذنب أو خطأ بحق أحد!! ومن حسن الحظ أن من تصدى لهم أكثر من مرة، هو الكاتب المصري النبيل فهمي هويدي وبيـّن إلى أي مدى تبدو مثل هذه الحملات الطائفية البغيضة مجحفة بحق العراقيين ومنافية للحقيقة، وكذلك الأستاذ محمد عمارة الذي يرفض دائماً جر المسلمين إلى الأحقاد والفتن الطائفية، وقبل ذلك الدور الإيجابي الكبير الذي يقوم به العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في إسقاط ذرائع الفتنة الطائفية في العراق وغيره، هؤلاء المثقفون الشرفاء الذين لا يمكن شراء ضمائرهم هم الذين يمثلون الوجه الحقيقي للقيم الإنسانية الأصيلة في المجتمع المصري والثقافة المصرية.
وخدمة لضحايا التوجه الإعلامي الرسمي الخطير في البلاد العربية، لا بد من تبيان بعض الحقائق عن المسلمين الشيعة في العراق، فالحملات المعادية ركزت دائماً على اتهامهم بكونهم ليسوا عرباً، في حين أن كل من يعرف بأنساب العرب يعرف بأن الشيعة الذين يسكنون المنطقة الممتدة من البصرة إلى بغداد ينتمون إلى قبائل العرب العاربة، وهم يشكلون أكبر كتلة بشرية في العراق، وفي مدنهم تأسست غالبية الأحزاب والحركات السياسية والثقافية العراقية، وتحتوى هذه المنطقة على ثمانين بالمائة من خيرات العراق البترولية والزراعية، في حين لا تنفق الدولة منذ تأسيسها، على هذه المنطقة أكثر من عشرين بالمائة من الموازنة، علماً بأن هذه الدولة تأسست نتيجة لثورة 1920 التي قادها علماء المسلمين الشيعة ضد الاستعمار البريطاني، ودفعت المنطقة ثمنها غالياً عبر عشرات آلاف الشهداء، لكن هذه المناطق ظلت دائماً عرضة للحيف والاضطهاد من قبل حكومات الاستبداد التي تناوبت على حكم العراق وأوصلته إلى الخراب والدمار الذي هو عليه الآن. علماً بأن أكثرية سكان المناطق السنية ظلت تعني من نفس عوامل الحيف والتخلف، ولم يكن مستفيداً من خيرات العراق سوى طغمة الحكام وأعوانهم. إن اضطهاد الأكثرية ليس ظاهرة خاصة بالعراق بل هي ظاهرة موجودة في غالبية البلدان العربية دون أن يكون فيها شيعة بالضرورة، لأن الاستبداد لا هوية مذهبية أو دينية له، كما أن تعدد مذاهب المسلمين لا يقتصر على المجتمع العراقي وحده، ولكن وراء الأكمة ما وراءها، وإلا كيف يفسر الإعلام المصري هذا الإيغال في تأجيج الفتنة الطائفية في العراق، ولمصلحة من يتم تحويل القتلة والمجرمين إلى أبطال ومقاومين وطنيين؟! وأية مشاعر يخلفها هذا الموقف المصري في نفوس العراقيين؟! وهل توجهات الإعلام الرسمي هذه تخدم مصالح الشعب المصري حقاً؟!
إن الإعلام المصري يلحق أكبر الضرر بمصالح المصريين، بالإضافة إلى الضرر الشعوري والثقافي الذي يتسرب لعقول ومشاعر الإعلاميين المصريين أنفسهم جراء التعود على قلب الحقائق وتبرير الأكاذيب، مما يخلق فئة جاهزة دائماً لتشويه سمعة أي شعب عربي بمجرد صدور التعليمات!! إن الإعلام المصري يراهن على ورقة خاسرة، لأن شعب العراق بمختلف قومياته ومذاهبه واتجاهاته السياسية، ذاق الأمرين من أنظمة الاستبداد التي توالت على حكم العراق وأضرت جميع العراقيين دون أن يربح أحد، لأن الاستبداد شر مستطير يلحق الأذى بالضحية والجلاد معاً. وقد أختار العراقيون دولة القانون والنظام الديمقراطي الذي يضمن العدالة للجميع. هذا هو بديل العراقيين، فما هو بديل الإعلام المصري؟! هل هو عودة القتلة والمجرين لحكم العراق من جديد؟!
على بعض العراقيين الذين يطلون من الفضائيات المصرية وغير المصرية، أن يدركوا بأنهم مجرد لعبة بيد أعداء العراق وهذا ما سوّد وجوههم أمام الشعب العراقي. فالحقائق أصبحت واضحة والوقائع ملطخة بدماء الضحايا الأبرياء. ف( المقاومة ) التي يتبناها الإعلام المصري توّجت أعمالها بتفجير مبني الأمم المتحدة لتحرم العراقيين من مساعدات هذه المنظمة الدولية في تحقيق الاستقلال حيث كان لها أدوار مشرفة في العديد من بلدان العالم، وتفجير مكاتب الصليب الأحمر لحرمان العراقيين من المعونات الإنسانية التي هم بأمس الحاجة إليها، بعد أن حول ( البطل القومي ) العراق من بلد غني إلى أفقر بلد في العالم. وماذا يعني تفجير سيارات الإسعاف ونثر جثث ودماء العراقيين في شوارع بغداد وتهديد أطفال العراق كي لا يذهبوا إلى المدارس؟! هل هذه الجرائم تسمى مقاومة؟! وبعد الجريمة المروعة في مسجد الأمام علي بن أبي طالب التي ذهب ضحيتها مئات العراقيين وهم خارجين من صلاة الجمعة، بعد هذه الجريمة بثلاثة أيام توجهت ( مقاومة الإعلام المصري ) إلى مسجد للمسلمين السنّة ببغداد لتطلق النار وتقتل المصلين الآمنين. فهل هناك مخطط مشبوه لإشعال الفتنة الطائفية في العراق أكثر وضوحاً من هذا؟! وإذا أحترق العراق وشعبه المظلوم بنيران الحرب الأهلية لا قدر الله، فمن يمنع امتدادها إلى بلدان عربية مجاورة وهي تعاني من مشاكل مشابـهة؟! وهل صحيح أن الإعلام المصري لا يُدرك حساسية الأوضاع في المنطقة، وخطورة دور الإعلام في دفع دول المنطقة إلى أتون جهنم؟! وأين هي مصلحة مصر والشعب المصري من مثل هذه التوجهات التي تبدو في الظاهر وطنية وقومية وهي في الحقيقة لا تخدم إلا أعداء الدول العربية وشعوبـها؟!
وأخيراً إلا تستحق دماء الضحايا التي أغرقت بلاد الرافدين ووطن إبراهيم الخليل أبو الأنبياء في شهر رمضان الفضيل، ألا تستحق وقفة ضمير ومراجعة من قبل المسؤولين عن الإعلامي الرسمي في مصر؟! وهل يحق لنا أن نتساءل عن موقف ( نقابة الصحفيين ) و (اتحاد الكتاب ) في مصر مما يدبر لشعب العراق من مآسٍ وويلات على أيدي عصابات الجريمة والإرهاب الصدامية وتلك الدوائر المشبوهة التي تقف وراءهم وتلك الجهات التي تساندهم علانية ومنها الإعلام الرسمي في مصر؟!
التعليقات