عبدالله الحكيم
&
تضاربت الآراء وأختلفت الدوافع في حادثة قتل الراحلة ذكرى، فعبر كل فاصلة منذ الحادثة، تظهر رؤى جديدة وأفكار واحتمالات وملابسات حول دوافع التصفية التي لفت بردائها الأخير أطرافا متواجدين على مسرح الجناية. وفي الواقع أيا كانت الأسباب ومهما كانت الدوافع فالضغط النفسي ينشط الانفعال الانساني على كل مستوياته بدوافع متعددة ومتفاوتة، وبنفس حرارة التنشيط ، يعجز الانسان تكريس التراجع لوقف نزيف ربما كان المسؤول عنه يعرف أكثر من غيره بمدى خطورة الموقف الذي هو يتسلط عليه أثناء تنفيذه مشروعا للفكرة اللعينة.
اذا نظرت حولك، فسوف تجد أن ابسط الخلافات بين زوجين فقيرين مثلا في بيئة ساخنة صارت تحتمل قدح زناد الغضب نتيجة تفجر خلاف حول تباين الخيارات في كيفية التسوق مثلا، واذا ما أتيح لنا في الوقت نفسه رصد شرائح فقراء ومعدمي الشارع العادي ممن يرتبطون أحيانا بزمالات مهنية أو مكتبية، فسوف نجد أن أتفه قضايا الخلاف يمكن ان تفضي الى سخونة متواترة من الدوافع والاحتمالات.
أنظر الى الارتباك العنيف الذي أحدثه ذات مرة موظف لبناني في مقر للتعليم عندما سيطرت عليه فكرة الاحساس بالغبن نتيجة عدم قبوله بما يلقاه من استحقاقات مالية. لقد حمل سلاحه، وهو غير قادر على تفعيل فكرة التراجع عن مشروعه الذي أنفجر لحظة ضعف في نفسيته، وبدأ يطلق النار على أي موظف يصادفه في الدهاليز أو في مكاتب مجاوره للمعلمين. لقد كان يعتقد أن الآخرين يعيشون حالة تآمر ضده، وهكذا لجأ الى العنف باستخدام السلاح، دون التفكير للحظة واحدة بعواقب ما سوف تؤول اليه النتائج.
وحتى أولئك المضاربين في بورصة الأوراق المالية في جنوب شرق آسيا عندما خسروا ملايين الدولارات، حمل بعضهم سلاحه وبدأ يطلق النار على رأسه، لكي يتخلص فورا من عقدة الاحساس بالخسارة.
شخصيا بامكاني رواية عشرات الحوادث الى شخص آخر حول جنايات تحدث في البيئة الانسانية، الى أن تنتهي حدادات الحزن على ضحايا وعلى منتحرين وقتلى غيلة هكذا يغادورن فجأة دون أدنى تأكيد في تكريس التراجع عن مشروع الفكرة اللعينة، قبل دخولهم فضاءات التصفية، لاعتقاد الانسان منهم انه منح نفسه وعدا بضرورة تصفية الآخرين أو ربما نفسه ايضا، واحيانا بهما معا، ولا يفترض فيه تراجع او حتى ترجيح لاستئناف ارادة الانسجام مع خيار آخر غير التصفية بصوت عال ومسموع.
هؤلاء الناس يعلنون عن انفسهم بشراسة، وفي الوقت نفسه فهم ربما كانوا يعلنون في دواخل أنفسهم عن مدى الآمهم بمنتهى العجز والتراجع عن فتح خيارات أخرى.
الخيارات دائما موجودة ومتوافرة بسعة العالم، ولكن مشكلة الانسان العاشق أنه لا يرى غير أمرأة تسكنها ارادته، لأنه هكذ1 اقنع نفسه أو ربما تكون هي اقنعته انها خياره اليتيم، وهكذا يتزاوج العشق بالغيرة فيتسع خرق الوجع داخل الرجل واحيانا كثيرة أيضا داخل المرأة، فلا يرى كل منهما صاحبه من زاوية صحيحة.& وكذلك هو الغاضب ايضا، فهو أعمى، لأنه قد اتخذ قرارا منذ غضبه أنه لا يستطيع أن يرى خارج شهوة الغضب، وهو اذ يصر على ذلك فهو يعرف أنه لن يجن سوى ثمار الغضب في صيغة انتحار أو تصفية على مستوى شخصه وربما ضحايا يصادفهم أو هم يأتوا الى مأتم جماعي بأرجلهم وهم غير راغبين في الانضمام اليه.
ذات مرة حمل أحدهم على مقربة ثلاثة حوائط من غرفتي القديمة بحي شعبي مسدسا، وقال لمن حوله لماذا أعيش مغبونا هكذا واتألم، فيما يذلني آخرون بأعينهم لاستدانتي مبلغا تافها من المال. لقد اطلق النار على رأسه، ليس لكونه لا يستطيع لاحقا السداد، وأنما لأنه أراد التعبير بيأس وربما بمنتهى الاحتقار عن كراهيته لأعينهم وهم ياتون دوما اليه طلبا للسداد. لقد كان يؤمن من جانبه أن رصاصة واحدة بامكانها أن تضع حدا لمواجعه، لأنه حسب تفكيره لن يأتوا اليه، ولن تكون هناك لاحقا في حياته مواجع أخرى تطاله بألم.
هنا يمكنك ترحيل من هذه التراكمات الانسانية بموتيفات شعبية، وزخم طبقي الى شخصيات تقف في رأس قائمة الفن والثراء والشهرة. لاشك أن الفئة الاخيرة مسكونة بنفس مخاوف القلق ولكن بحجم الكبار وبمستوى يليق بما
يدخرونه في بيوتهم من البارود الذي يحدث فرقعة تتناسب مع ما وصلوا اليه من موقف اجتماعي ونجومية وشهرة.
يدخرونه في بيوتهم من البارود الذي يحدث فرقعة تتناسب مع ما وصلوا اليه من موقف اجتماعي ونجومية وشهرة.
غير أن للشهرة هاجس وللنجومية ثمن و للاحساس بالتألق ضريبة أيضا، فمع تصاعد القلق تتفاقم الانكسارات في حياة هؤلاء الناس أكثر من الاشخاص العاديين، وان كانت التصفيات في حالة كونها واردة، هي اساسا واحدة في كلا الحالتين.
في شخصيات درج الشارع العربي أن يسقط عليها هنا مثلا لفظة (الحوت) أو (الهوامير)، تتعاظم الاضطرابات النفسية لديهم اثناء الاحساس بالغبن او نوبات الغضب، سواءا بخمر أو على فنجان من القهوة، نتيجة الاحساس بصدمات الحياة التي ربما تكون تافهة أو بها قليلا بعض أوجه التورم، واحيانا يتفاعل الغضب نتيجة خوف مفاجئ غير معلن عنه من أن يتوقف بهم قطار الشهرة في منتصف الطريق فتنحسر عنهم الأضواء، أو تتقطع بهم السبل فيصيروا فقراء أو ربما يكون هناك عامل الخوف من ان تتمرد عليهم زوجات وعاشقات فيوؤلوا الى أخدان آخرين.
وهكذا تتضخم مواقفهم الاجتماعية حد التورم، ونتيجة لذلك تتضاعف أيضا من الناحية الأخرى حالات القلق في نفوس هؤلاء الناس. واذا ماتضاعف القلق في طريقه الى الذروة، فهو يفرز بتضاعفه حالة يأس وانتكاس لا تساعد ضحاياه في ترجيح التراجع عن تنفيذ الجانب اللعين من الفكرة.
أنها حالة اصرار على ان يروي الانسان الغاضب عطشه دون أقل درجة تفكير في الاحتمالات، فلعله بتنفيذه الفكرة اللعينة يوقف من داخله نزيف القلق، ولو كان ذلك على حساب خروجهم جميعا واحدا تلو الآخر من البوابة الخلفية بحب وكراهية وملل وقليل من الجروح التي ربما كانت تجرح كبرياء الانسان، ولكنها قطعا لا تؤثر في تداعيات النجومية وحقوق الشهرة.
&
&
التعليقات