في أعقاب حوارات مكثفة في اليوم الأخير للقاء ممثلي المنظمات الفلسطينية في القاهرة برعاية رسمية مصرية، انتهى اللقاء دون صدور بيان ختامي، لعدم الاتفاق على مضمونه. ولقد تبادل ممثلا فتح وحماس الاتهامات حول المسؤولية عن ذلك. فيما تباينت وجهات نظر القادة الفلسطينيين الى حد التناقض في تقويم نتائج اللقاء، فأحمد قريع، رئيس وزراء حكومة السلطة، يرى ان اللقاء كان ناجحاً، إذ أمكن خلاله ان يتبادل المشاركون وجهات النظر حول رؤاهم لما يتوجب اتخاذه في الحاضر والمستقبل، واتفاقهم على متابعة حواراتهم وصولاً الى رؤية مشتركة للممكن والمتاح. وبالمقابل أعلن حاتم عبدالقادر، عضو المجلس التشريعي من فتح، ان اللقاء كان فاشلاً جداً. وحمل حماس المسؤولية عن ذلك. وعلى عكسه تماماً يقرر د. عبدالعزيز الرنتيسي ان اللقاء كان ناجحاً للغاية، وان حماس راضية عن نتائجه.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن في مواجهة هذا التناقض في التقويم: أي الثلاثة كان الأقدر على قراءة معطيات الواقع والأكثر موضوعية في تقويمه للقاء الذي انتهى دون بيان متفق عليه. وما دلالات عدم الاتفاق على بيان ختامي على الرغم من الاعتبار الذي يكنه المتحاورون جميعا للوساطة الرسمية المصرية واللواء عمر سليمان بصفة خاصة، كما يستدل على ذلك من استجابتهم جميعاً للدعوة وتيسير لقائهم في القاهرة؟
وبداية ألاحظ انهم ثلاثتهم في قراءتهم لمعطيات الواقع وتقويم نتائج اللقاء، وإن تباينت وجهات نظرهم الى حد التناقض، كانوا صادقين وصرحاء في التعبير عن قناعتهم، ولم يحاول أي منهم ان يعطي صورة مختلفة لما هو مؤمن بصحته وتوافقه مع رؤيته للصراع. فقريع كان محقاً تماماً باعتباره ان تبادل وجهات النظر فيما بين ممثلي منظمات المقاومة عمل ايجابي. ذلك لأن الافصاح في العمق عن دوافع وغايات صناع قرار الفصائل التي ينتمون إليها ما يتطلبه الحراك الوطني الفلسطيني، باعتبار ذلك في مقدمة ضرورات نجاح العمل المشترك. ثم ان وضوح المواقف وإن تباينت ما يسهم في اتخاذ القرارات التي تساعد على تصويب المسار، في حين ان الغموض وإظهار ما هو مخالف للنوايا الحقيقية كان ولا يزال علة العمل العربي على المستويين القومي والقطري.
وفي ضوء تجارب العمل العربي المشترك، والفلسطيني منه بصفة خاصة، يمكن القول ان الاختلاف مع وضوح المواقف خير ألف مرة من الاجماع على موقف واحد غير مؤسس على توافق رضائي، ولا هو يستهدف الوصول الى رؤية متكاملة. لا سيما والخلاف في الساحة الفلسطينية محكوم بكون التناقضات فيما بين مختلف المنظمات تظل ثانوية مهما تفاقمت حدتها قياساً بالتناقض العدائي القائم فيما بينها جميعاً وبين القوى الأشد تأثيراً في صناعة قرار التحالف الاستراتيجي الأمريكي& الصهيوني.
وحاتم عبدالقادر صادق تماماً عندما يقرر بأن اللقاء كان فاشلاً، لأنه إنما يعبر عن موقف جناح في فتح والسلطة لما يزل أسير نهج أوسلو. وهو النهج الذي يرى الملتزمون به ان الخلل الاستراتيجي في ميزان الامكانات والقدرات لمصلحة التحالف الأمريكي& الصهيوني يتطلب قدراً كبيراً من المرونة في إدارة الصراع، ولو اقتضى ذلك تقديم تنازلات مؤلمة. وتأسيساً على هذه القناعة صدم ممثلو هذا النهج في لقاء القاهرة عندما لم يستطيعوا ان يحملوا مشاركيهم من حماس والجهاد والجبهة الشعبية ورفاقهم على القبول بالهدنة من غير ضمانات أمريكية ومواقف اسرائيلية تنطوي على قدر من الايجابية، او تفويض الرئيس عرفات وحكومة قريع بالتفاوض والرضا بما يتوصلا إليه من نتائج.
والذي يبدو ان ما اعتبره حاتم عبدالقادر مؤشراً على فشل اللقاء، هو الذي جعل الدكتور الرنتيسي يرى فيه لقاء ناجحاً للغاية. أعني بذلك رفض القبول بالهدنة من غير ضمانات، والامتناع عن اعطاء موافقة مسبقة على ما قد تنتهي إليه مفاوضات حكومة قريع. والتباين الواضح بين الموقفين مؤسس على موقفين متمايزين كيفياً: الأول الاستناد الى الصلاحيات الدستورية للرئيس وحكومته، وما يمثلانه فلسطينياً وعربياً. والثاني الاحتكام للتجربة العملية، خاصة فيما له صلة بالتفاوض مع العدو الصهيوني.
الموقف الأول مؤسس على القول ان الرئيس عرفات منتخب في انتخابات غير مطعون فيها، ثم انه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني بإقرار عربي مجمع عليه، وباعتراف دولي غير محدود. ثم انها الاطار الذي يضم أغلبية الفصائل الفلسطينية وفضلاً عن ذلك فإن حكومة قريع مسؤولة دستورياً أمام المجلس التشريعي ، المنتخب بشكل أصولي، وقد نالت ثقته غداة تشكيلها استناداً الى البيان الوزاري المؤسس على الالتزام بالسلام كخيار استراتيجي، وهي بالتالي ملتزمة بالبيان الذي أقره المجلس التشريعي في المفاوضات التي تسعى إليها.
وبالمقابل لا ينكر أصحاب الموقف الثاني الصفة التمثيلية للرئيس وحكومته، ولم يصدر عنهم رفض مطلق للتوجه نحو السلام، وإن كانوا ملتزمين بالمقاومة خياراً استراتيجياً. ولكنهم يرون، وهم محقون تماماً، ان هناك ثوابت وطنية ما كان للرئيس ان يحتل موقعه القيادي لولا انه انطلق بداية على أساس الالتزام بها، وان أي رئيس دولة او حكومة لا يمكنه الخروج على الثوابت الوطنية. او العمل في تضاد معها. اما القول بضرورة التكيف مع أحكام الأمر الواقع، وتقديم التنازلات المؤلمة نتيجة الخلل في ميزان القدرات والأدوار فقول تصدق فيه مقولة كلمة حق يراد بها باطل . ذلك لأنه في كل معارك التحرر الوطني كان الخلل في ميزان القدرات والأدوار لمصلحة المستعمرين، فيما كانت إرادة المقاومة هي المعوض الموضوعي لحركات التحرر الوطني، التي بمقدار صلابة قادتها في الصراع بقدر ما حققت من نجاحات.
ويذهب أصحاب هذه الرؤية الى ان القراءة الموضوعية لمعطيات الواقع المعيش تدل دلالة واضحة على ان الانتفاضة، بما حفلت به من مقاومة وصمود وعطاء شعبي سخي، أدخلت التجمع الاستيطاني الصهيوني عامة، وحكومة شارون وجنرالات جيشه خاصة، في مأزق. فيما تواجه إدارة الرئيس بوش مؤشرات فيتنام جديدة في أرض العراق المحتل. وعليه يغدو تطوير في الموقف المقاوم وليس المضي قدماً في تقديم التنازلات، هو القرار الأكثر توافقاً مع معطيات الواقع، والأقدر على انتزاع الحقوق الوطنية.
وبقراءة تاريخ الصراع الذي فجره الوجود الصهيوني على التراب العربي في فلسطين يتضح انه في مواجهة نمو وتطور الحراك الوطني الفلسطيني توالى منذ عشرينات القرن الماضي طرح مشروعات ومبادرات التسوية، التي لم يخرج أي منها عن حدود الاستراتيجية الاستعمارية للمنطقة العربية. إذ كان كل منها يصب باتجاه تمكين المشروع الصهيوني، وتبديد قدرات قوى المقاومة العربية، ودائماً كانت غايتها اشعال الوسط العربي بجدل حاد حول قبولها ورفضها، وإثارة البلبلة في أوساط الجماهير العربية، وتوفير الأجواء التي يحتاجها التحالف المضاد لإحداث حقائق استيطانية على الأرض العربية.
وبالعودة لموضوعي الخلاف فيما بين الذين ينطق بلسانهم السيد حاتم عبدالقادر والذين يمثلهم د. عبدالعزيز الرنتيسي يتضح ان الخلاف لم يأت من فراغ، وإنما هو مؤسس على التجربة الميدانية. إذ سبق تعليق العمليات طوال واحد وخمسين يوماً دون ان يتوقف ارهاب الدولة الصهيوني. وأكثر من ذلك ليس في ممارسات وتصريحات شارون وأركان حكومته وجنرالات جيشه ما يدل أدنى دلالة على استعدادهم لتقديم الضمانات المطلوبة، والتي توفر الحد الأدنى للشعور بالالتزام المتبادل، وإنما هناك اصرار منهم على ان يسبق الهدوء التام أي اجراء يمكن ان تتخذه اسرائيل ، وبمعنى آخر انهم يريدون قبض الثمن مقدماً دون تعهد بتسليم المقابل.
ويعلمنا تاريخ حركات التحرر الوطني انه بمقدار ما تستطيع قوى المقاومة افشال مبادرات وطروحات قوى المساومة، بقدر ما تؤكد كفاءتها في إدارة الصراع، والتزامها بثوابته، وأصالتها كقوة مقاومة عصية إرادتها على الاستلاب. وفي ضوء هذه الحقيقة التاريخية يغدو منطقياً القول ان الفشل الذي شكا منه عضو المجلس التشريعي ممثل فتح حاتم عبدالقادر كان نجاحاً يحسب لممثلي القوى الملتزمة بالمقاومة خياراً استراتيجياً الذين نطق بلسانهم د. الرنتسي. ذلك بأنهم لم يضعفوا ولم يهنوا برغم ما تعرضوا له من ضغوط واغراءات. وفي هذا النجاح المؤكد مؤشر على مصداقية القول بأن المقاومة العربية للعدوان الصهيوني باتت وبحق الرقم الصعب المستحيل تجاوزه.
الخليج الإماراتية
التعليقات