نبيل شـرف الدين من القاهرة:استقبل المصريون بمشاعر تفاوتت بين الغضب والسخرية، نبأ اعتقال الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، ففي الوقت الذي أبدت فيه الدوائر الرسمية ارتياحاً مشوباً بقدر واضح من التحفظ لسقوط صدام حسين، وهو ما عبر عنه أحمد ماهر وزير الخارجية المصري بقوله، إن "سقوط هذا النظام كان أمراً متوقعاً، لأنه نظام أضر بالموقف العربي، وبالشعب العراقي، وأدخل المنطقة العربية في زوابع كثيرة"، على حد تعبير الوزير المصري.
نقابة المناضلين
لكن على الجانب الآخر من المشهد الحكومي، كان هناك آخرون يبدون أسفهم "لأن أحد رموز التحدي العربي للولايات المتحدة اصبح وراء القضبان"، إذ أصاب الذهول حشداً من الناصريين والإسلاميين وبضع معارضين غربيين الذين يجتمعون في مقر نقابة الصحافيين المصرية تحت لافتة "مؤتمر القاهرة لدعم المقاومة العربية"، والذين شككوا في البداية بصدق النبأ، وحين تأكد الأمر، ذهبوا جميعاً إلى القول إن الرهان أصبح الآن معلقاً على استمرار عمليات المقاومة ضد قوات التحالف في العراق، بل ذهب أحد المصريين الذين يحملون جنسية أميركية، وكان يعمل من قبل في برنامج (النفط مقابل الغذاء)، إلى حد من التأثر كاد يبكي معه لسقوط صدام.
ومن بين الأسماء التي احتشدت في مقر نقابة الصحافيين التي تحولت ـ كما كان متوقعاًـ إلى "قلعة مناضلين"، بفضل مجلسها الذي يضم أغلبية من الناصريين والإسلاميين، شاركوا في التنديد بالولايات المتحدة والعولمة وإسرائيل كان هناك وزير العدل الأميركي الأسبق رامزي كلارك والبرلماني البريطاني جورج غالاوي، والقومي معن بشور، وعبدالحميد المهري، وجون ريس رئيس تجمع الاشتراكيين ضد العولمة ببريطانيا، ودينيس هاليداي المنسق السابق لبرنامج المساعدات الإنسانية للعراق، وسامح عاشور نقيب المحامين المصريين، وضياء الدين داود رئيس الحزب الناصري، ومأمون الهضيبي المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم.
الشارع والتلفزيون
أما في الشارع المصري فقد تعاطى مع الأمر كالعادة بروح السخرية وراحوا يتبادلون التعليقات الحريفة وقضى كثير من القاهريين ليلتهم أمام شاشات التلفزيون في المنازل وعلى المقاهي، يتابعون تغطيات فضائيات العربية والجزيرة وأبو ظبي وغيرها، بينما أهملوا محطات التلفزة الحكومية والفضائية المصرية، التي كانت ـ كالعادة أيضاً ـ تغطياتها بالغة التواضع والنمطية، ولا يتجاوز ما تبثه صوراً منقولة عن الوكالات، أو "منقولة" عن الفضائيات الأخرى، التي يعلق عليها الضيوف المستديمون المعبرون عادة عن وجهات النظر الحكومية، ليس في هذه المسألة فحسب، بل في كل القضايا، بما في ذلك المحسوبون على المعارضة منهم، أو حتى الموسومين بأنهم مستقلون، وفق التصنيفات الشائعة في الوسط الإعلامي المصري.
ونبقى مع الشارع، إذ عبر سائق عجوز لإحدى سيارات الأجرة عن استيائه من طريقة سقوط صدام حسين، من دون أي مقاومة، ومن هنا صب عليه جام غضبه، ونعته بالخائن والجبان، وقال "ماذا تبقى في الحياة لرجل فقد ملكه وسلطته واستقلال بلده، وشاهد ولديه وحفيده مذبوحين كالخراف أمام عينيه، ماذا تبقى له ليخاف عليه في هذه الدنيا، وما قيمة الحياة بعد كل هذا؟"، وتساءل بغضب ممزوج بالمرارة: "لماذا لم ينتحر هذا الجبان ؟، ألم يكن هذا أشرف له ولنا؟"، وهو نفسه ما ذهب إليه "أمجد"، وهو معلم مصري شاب في إحدى المدارس الثانوية بالقاهرة، الذي اعتبر أن ولدي صدام حسين، كانا أكثر شرفاً منه في نهايتهما، إذ انه بحسب المعلم "لم يقاوم كما فعل نجلاه عدي وقصي وحفيده الذين ماتوا كمقاتلين في معركة استمرت ساعات، ولم يسقطوا في قبضة الخصم إلا جثثاً هامدة، بينما بدا صدام الذي طالما تحدث عن الشجاعة ذليلاً منكسراً".
براغماتية الإخوان
أتي إلى الإخوان المسلمين، الذين تعاطوا مع الأمر بروح البراغماتية التي يتسم بها سلوكهم السياسي في مثل هذه المواقف، إذ أنه رغم تأييدهم لصدام حسين في حرب الخليج الثانية، مالبثوا أن عادوا وأدانوه حين أدركوا أن نهايته باتت وشيكة، والآن وبعد سقوطه في قبضة القوات الأميركية، فقد اعتبروا أن الله "سلط ظالمين على ظالمين آخرين"، ومع ذلك عجت مواقعهم عبر شبكة الإنترنت بعدة أنباء ـ انفردت بها جماعة الإخوان على ما يبدو ـ مفادها أنهم تلقوا عبر ما يسمى بوكالة الأنباء الإسلامية أول تعليقٍ على "أسْر" الرئيس العراقي السابق صدام حسين، من المقاومة العراقية، التي توعدت بتصعيد عملياتها على جميع الجبهات، مشيرةً إلى أن "الجميع سيتأكد الآن أن المقاومة ليست من أجل كرسي الحكم، وأنها ستستمر مهما كانت التضحيات حتى خروج آخر مجرم كافر من العراق"، على حد تعبيرهم.
ورأى البيان الذي نشره موقع "إخوان أون لاين" في اعتقال "صدام" وعرض صوره بهذه الطريقة مجردَ حادثةٍ مرتبة للاستخدام الانتخابي للرئيس الأمريكي "جورج بوش" لا أكثر ولا أقل، وأضاف البيان أن " مَن يخشون صدام وبرروا قبولهم بالعدو الأميركي والبريطاني عليهم أن يبدأوا المقاومة فورًا وإلا أصبحوا مجرد خونة"، على حد وصف البيان الذي نسبه موقع الإخوان لمن أطلق عليهم وصف المقاومين العراقيين، دون تحديد هوية هذه المقاومة أو اسم الجهة أو المنظمة أو الحزب الذي يقود صفوفها.
الأرامل والمارينز
هناك مقهى شهير يقع في شارع قصر النيل في قلب القاهرة، اسمه (الجريون)، يلتقي فيه عادة المثقفون المصريون وأشباههم، وكذا نفر من الكتاب والأدباء والفنانين والأدعياء، ومن كل لون، ولو قدر لعابر سبيل أن دخل المقهى الذي يمتلكه ويديره عراقي مقيم في مصر منذ سنوات طويلة، لاستمع إلى أحدهم وهو يكاد يهتف من فرط الحماس ليصف خصومه قائلاً : "هناك حملة مشبوهة ايشارك فيها تجار الكتابة في الصحف العربية والأجنبية، وهم في حقيقة الأمر من الأوغاد والمرتزقة العلوج كما اسماهم سعيد الصحاف وزير الإعلام العراقي "المخلوع"، إضافة إلى مسؤولين يسمونهم بالوزراء ورؤساء وقادة، والله وحده يعلم قدراتهم وما يمتلكونه من مقومات القيادة وعندنا نسميهم بمرشدي المباحث وان تبوأوا نفس المكانة عند أبناء العم سام".
ثم يختتم حديثه حين يختصر أو يختزل آخر من رفاقه وصف هؤلاء "الكتاب العلوج"، بأنهم "كتاب المارينز"، ويعود كل من الجالسين إلى كأسه، والمزات المكونة عادة من الفول السوداني والترمس والخس والجرجير.
في الجانب الآخر من المشهد هناك تجمعات أخرى صغيرة في فنادق وسط المدينة وحي الزمالك يمكن للمرء إن قادته الأقدار أو المصادفات التاريخية إليها سوف يسمع حواراً يكاد يشبه الهمس بين اثنين أو ثلاثة من الليبراليين المصريين يطالب فيه أحدهم بضرورة "التنقيب وراء كشوف البركة الصدامية"، التي كان يتقاضى بموجبها مثقفو الفضائيات، وباعة الشعارات من "أرامل صدام"، الذين يولولون ليل نهار على رحيل "بعلهم" التكريتي، الذي كان كريماً معهم أكثر مما يتصور الكثيرون، إذ أنه ـ ومازال الكلام لأصدقائنا الليبراليين ـ كان أكرم معهم من كرمه مع الشعب العراقي، الذي لم ينل سوى تقطيع الألسنة والآذان والمقابر الجماعية، بينما حصل "أرامل صدام"، على أموال كانت كافية لتأسيس صحف، وإنشاء مسارح، وإقامة مراكز، وغيرها.
حالة استقطاب
إذن يبدو المشهد متنافراً إلى حد الاستقطاب، ومن حسن الحظ أنه لا توجد فعاليات يضطر فيها المناضلون إلى الجلوس على مائدة واحدة مع الليبراليين، وإلا لتحول الأمر إلى مذبحة أخرى قد تتجاوز بشاعتها مذبحة ذكرى.
ومازال الجدل مستمراً، بل ومرشحاً لمزيد من الاشتعال والاقتتال عبر صفحات الرأي في الصحف المحلية، طبعاً غير الحكومية وغير الرصينة، التي لا تسمح بمثل هذا النوع من المعارك والجدل، باعتباره "رجساً" قد يخرج بالصحيفة "القومية" عن وقارها، أو أهدافها العليا، التي هي بالتأكيد أكبر من الصحافة والصحافيين، وبالطبع من القراء الذين لا ينبغي إفسادهم بنشر مثل هذا النوع من "الملاسنات والمهاترات"، على حد تعبير أحد رجال الحرس القديم للصحافة "القومية"، وما أكثرهم في شارع الصحافة المصرية الشائخة، الذين تمكنوا من طرد الشباب والمتميزين إلى الخارج، بينما تربعوا هم على عروشها، وألحقوا الأبناء والأصهار، لكن هذه قصة أخرى ربما نعود إليها يوماً بعد أن تنتهي زفة "سي صدام".
التعليقات