وصول قوّات الإحتلال الأميركي إلي الرئيس العراقي صدّام حسين، أخيراً، لم يأت كمفاجأة. فلا يتوقّع، بعد احتلال العراق بهذا العدد من الجيوش، وبعد كل الجهد والمال المنفق والمكافآت المعلنة للوشاة (الذين لا يجرؤون علي الإعلان عن أنفسهم أمام الشعب العراقي والأمّة العربيّة)، إلاّ أن تطاله، في النهاية، يد الإحتلال التي طالت كل ما هو مقدّس في العراق.. كلّنا كنّا نعرف هذا، كما عرفه صدّام حين رفض عروض التنحّي واللجوء، ومن قبلها عروض الخيانة. وقد يكون القبض عليه حيّاّ هو عنصر المفاجأة الوحيد في الحدث، وهو ما فسّرناه باحتمال استعمال غاز مخدّر، ممّا يمكن إطلاقه داخل ملجأه عبر حفرة التهوية التي استدل بها علي الملجأ.. لنتفاجأ بأنّ نظريّتنا صحيحة (إن صدقت امريكا) في كل شأن، سوي درجة الخوف العالية من صدّام ورجاله عند الأميركان (وبوش يمنّ علي العراقيين بطمأنتهم، بدل طمأنة نفسه من انّ صدّام لن يعود).. فقد تلت الأنباء، المغفلة عمداً عند إطلاق خبر الإعتقال بتلك الطريقة الدعائيّة المسيئة لكل العرب (أو لمن بقي عندهم إحساس بالكرامة منهم)، بأنّ منطقة واسعة تمّ رشّها بغاز مخدّر، وانّ صدّام صحا بعد نصف ساعة من اعتقاله وهب في وجه جنود الإحتلال ولم يكن متعاوناً ، كما ادّعوا، بل متحدّياً!!.
نعود ونقول، إن صدقت امريكا. فالدولة العظمي لها تاريخ طويل من الكذب والسيناريوهات المؤلّفة علي طريقة أفلام هوليوود، ولا يهمّها ولا تخجل بتاتاً من تكشّف كذبها فيما بعد.. المهم لن تقبض ثمن افلامها التي تسوّق علي عالمنا العربي بالذات.. ونذكر فيلم حاضنات الأطفال في الكويت ، وفيلم" أسلحة الدمار الشامل ، وحتّي فيلم تحرير الأسيرة الأميركيّة الذي اشترت هوليوود بالفعل حقوق تصويره وبيعه!!.. وغيرها العديد. ويبقي الزمن شاهد عدل يكشف كل الحقائق.
وحتّي ذلك الحين، ما نملكه من معلومات هو إعلان أميركا ذاتها عن استخدام غاز التخدير. ومع هذا تصر كل أذيال أميركا علي إغفال هذه الحقيقة، ويطلعون علي الفضائيّات ليتساءلوا لماذا لم يطلق صدّام رصاصة الرحمة علي نفسه؟؟ وردّنا هو أنّ القدر ربّما أراده ان يعيش ليطلق، علي امتداد محاكمته، وابلاً من رصاص حقائق عن مقترفي جرائم الخيانة والنهب وبيع الأوطان والشعوب.. وسنري إن كانت الشعوب سترحم حينها!!
في الأمر نوع، او بالأحري أنواع، من الحتميّة. جزء منها الحتميّة التراجيديّة التي لخّصها الإغريق بقولهم الشخصيّة تحدّد مصيرها ، أي عبر خياراتها المنسجمة مع ذاتها. وهذا بالطبع يستلزم وجود شخصيّة ، بل و شخصيّة مميّزة ليتأهل الإنسان لمصير البطل التراجيدي!! وهنالك حتمية تاريخيّة تتعلّق بالروّاد الأوائل في كل حقل نضالي، فهم يدفعون الثمن الأعلي قبل ان يؤتي النضال أُكله.. ولكن هنالك حتميّة تاريخيّة أخري تتعلّق بالمراحل التاريخيّة، وتختلف باختلافها. وإذا كان حرق المراحل صعب، فإن العودة بها إلي الوراء أقرب إلي المستحيل. وبعد أكثر من قرنين من النضال العالمي من أجل الديمقراطية، بدءاً بالثورة الفرنسيّة، وبعد العقدين الأخيرين من القرن العشرين، اللذين شهدا دمقرطة عشرات الدول في سلسلة تداعيات ما كان يمكن لأحد توقعها، لا يمكن إلاّ التسليم بأنّ العالم يعيش عصر الديمقراطيّة. وكل النزاعات الساخنة في العالم الآن تتلخّص في محاولة فرض الشعوب لإرادتها الحرّة، وما بقي فهو تفاصيل..
والآن، الكل - و في مقدّمتهم رجال حملة انتخابات بوش وبلير- يتسابق للإعلان أن دكتاتوراً قد وقع في الأسر، وأنّ محاكمته ستبدأ قريباً. ومعني هذا أن تبدأ مداولات عن ممارسات الدكتاتورية في التجاوز علي حقوق الإنسان. وسيبدأ تقديم شكاوي وعرض حالات من تلك التجاوزات. وحين تري الشعوب العربيّة هذا، ستتفتّح جراح وملفات أخري، لن تقف عند حدود ممارسات العدو الخارجي ، أي إسرائيل وحلفائها. فالمحاكمة هي من شعب لرئيس سابق، وهي بهذا سابقة لم يحسب الحكّام العرب حسابها ربّما حتّي هذه اللحظة.. فمن من الحكام العرب انتخبه الشعب كي يدّعي البراءة من تهمة الدكتاتوريّة، ومن منهم لا تحوي خزائنه هياكل عظميّة، بل كم منهم تحوي حديقة مزرعته التي أصبحت بمساحة الأوطان، مقابر جماعيّة وفرديّة لمعارضيهم؟؟
تنص الأديان السماوية علي أنّ الحسنات تمحو السيّئات. ولصدّام عند أمّته حسنات ندر من شاركه فيها. فهو، علي الأقل، بريء من خطيئة تورّط فيها العديد من الحكّام العرب تاريخياً، وهي التعاون مع إسرائيل، ومع من أوجد ودعم ويدعم إسرائيل، ممّا يعني المشاركة بالمسؤوليّة عن المجازر والمآسي التي تحل بالشعب الفلسطيني أوّلاً، والأمّة العربيّة من بعده، منذ أكثر من سبعين عاماً..
في عصر انتفاضة الشعوب لأجل الديمقراطيّة، يصبح غيابها كعب أخيل. ولقد نصحنا رؤوس القيادة العراقيّة مراراً بإصلاح حال ذاك الكعب. ولكن حين تسدّد رماح العالم كلّه إلي كعب رجل واحد، ما هي فرصة من تصل كعابهم إلي خصورهم أو أعناقهم، أو من هم كعاب فقط، دونما أيّة رؤوس تفكر وتختار، خطأ أو صواباً، لترقي بمصيرها التاريخي المحتوم إلي سويّة التراجيديا؟؟
كاتبة أردنية
التعليقات