الدكتور عبدالله إبراهيم


&&&&&&&& كيف يمكن كشف صورة التطابق التي تتصف بها الثقافة العربية الحديثة مع المركزيات الكبرى في عالمنا، أقصدُ المركزيات التي لها صلة مباشرة بثقافتنا: المركزية الغربية، والمركزية الإسلامية؟ يكمن الجواب في الفحص النقدي الدقيق والجريء لمعطيات تلك الثقافة، وذلك الفحص سيكشف معضلةً مكينةً تستوطن نسيجها الداخلي، ألا وهي«مماثلة»الثقافة الغربية، من جانب، و«مطابقة» تصورات الثقافة الدينية الموروثة، بطابعها السجالي وليس العقلي-الثقافي، من جانب آخر، فحيثما اتجهت تلك النظرة في حقول التفكير المتعدّدة، لا تجد أمامها-على مستوى الرؤى والمناهج والمفاهيم- سوى ضروب من «التماثل» و«التطابق»مع ثقافات استعيرت من مرجعيات مختلفة مكانيا وزمانيا، مرجعيات فرضت حضورها وهيمنتها في المعطى الثقافي الحديث مباشرة، وتجاوزت ذلك، إلى حدٍّ أصبحتْ فيه على صلة وثيقة بالتصورات التي تنتج ذلك المعطى، سواء تمّ الأمر استناداً إلى مبدأ القبول أو إلى مبدأ الرفض وردّ الفعل.
&&&& يعود ذلك، فيما يعود، إلى سببين رئيسين: أولهما يتصل بهيمنة «المركزيات الثقافية الكبرى» ومحدِّداتها الأيديولوجية، وهي تمارس اختزالاً لثقافتنا الحديثة، وثانيهما:الاستجابة السلبية لمعطيات تلك المركزيات، وعدم القدرة من التحرّر من فرضياتها الأساسية، والاختلاف المعرفي معها، وهو أمر يتعلّق بواقع الثقافة العربية الحديثة التي رهنتْ ذاتها بعلاقات امتثالية لتلك المركزيات، ولم تفلح في بلورة أطر عامة فاعلة تمكّنها من الحوار المتفاعل معها، فكانت تستعيد تصوراتها دون مراعاة التباعد المرجعي والزمني. وفيما ينبغي أن تُنقد المركزيات الثقافية الكبرى وتُفكّك، بهدف تحليل أسباب التمركز وممارساته الاقصائية بحقّ الثقافات والمجتمعات والعقائد المختلفة، فإنه-وهذا هو الأهم- ينبغي التدقيق في الأسباب التي جعلت الثقافة العربية الحديثة، تتصف بالاستجابة السلبية لكل ذلك، فتلك الاستجابة، بمظهرها السلبي الراهن، تشير إلى حالة ضمور خطيرة في مكوّناتاتها، بما يجعلها عاجزة عن التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى، وهو أمر يجعلها تندرج في علاقات ولاء وامتثال لغيرها، بعيداً عن واقعها التاريخي والاجتماعي الذي يُقصى ويُستبعد، وتحلّ مكانه سلسلة متّصلة من أفعال المحاكاة والتقليد، بما فيها تبنّي جملة من المفاهيم والمناهج والموضوعات المشروطة بأبعاد تاريخية مختلفة. النقد، ينبغي- في رأينا - أن ينصرف إلى هذين السببين، مع تأكيد صارم وعميق على الأخير؛ لأنه متصل مباشرة بالثقافة العربية؛ ولأن نقداً يتغيّا وضع فواصل رمزية بين الثقافات بهدف تفاعلها الخلاق والعميق، وليس إذعان بعضها لبعض، هو السبيل الذي يفضي إلى نوع من «الاختلاف» بدل «المطابقة» الثقافية.
&&&&&& ليس المقصود بـ«الاختلاف» هنا، الدعوة إلى «قطيعة» مع الآخر، ومع الماضي، والاستهانة بهما، واختزالهما إلى مكوِّن هامشي؛ ذلك أنّ القطيعة لن تحقّق إلاّ العزلة والانغلاق، والاعتصام بالذات ومطابقتها على نحو نرجسي مَرَضي لا يمكّنها أبداً من أن تتشكّل على نحو سليم ومتفاعل ومتطور. إنّ الأمر يوجب تنمية عوامل اختلاف جوهرية واعية وجديدة تعمل على تغذية «الذات الثقافية» بطابعها المنشغل بوقائعه وموضوعاته المتصلة بالبعد التاريخي لتلك الذات، وألاّ يصار إلى اختزال تلك الوقائع إلى مجرّد مفاهيم توافق رؤى ثقافية أخرى لها شروطها التاريخية المختلفة، نقصد بذلك، الاختلاف الذي يبحث بنفسه عن الحلول الممكنة للصعاب التي تواجه أسئلته الخاصة، ولكن في الوقت نفسه، الدخول في حوار متكافئ مع الآخر، كائنا ما كانت مرجعياته ومصادره، ومساءلته معرفياً ومنهجياً بغرض الإفادة منه، وليس الامتثال له، بما يحوّل ثقافاته إلى مكوِّن فاعل وليس إلى مكوِّن مهيمن، وعلى هذا فليس ثمة اختلاف، دون وعي أصيل بأهمية الاختلاف نفسه.
&&&&& إنّ اختلافاً مشروطاً بالوعي، يمكن أن يُسهم في تغذية الثقافة العربية الحديثة بوجهة نظر جدّية، وبمنظور يقوم على التواصل مع الثقافات الأخرى، من خلال إيجاد نسق يعين الثقافة العربية على فهم ذاتها وغيرها، بما يدفع للانتقال من واقع «المطابقة» إلى أفق «الاختلاف». وإذا كان واقع «المطابقة» يفضح تبعية الثقافة العربية وولائيتها،أكثر من انصرافها إلى واقعها، فإنّ أرضية«الاختلاف»غير ممهَّدة، وبحاجة إلى توافر أسباب كثيرة ليصبح «الاختلاف» أمراً مشروعاً وقائماً بالفعل، ومن ذلك نقد أنظمة التمركز الداخلية في الثقافة نفسها، بما فيها المفاهيم الخاصة بالمجتمع والسلطة والمعرفة والدين والفكر والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وغيرها. وبما أنّ «الاختلاف» ضرورة تتصل بدائرة التكوّن الثقافي العربي الحديث، فهو مشروط بمحدّدات تنظم أهدافه وغاياته، وفي مقدمة ذلك إعادة نظر نقدية بالعلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة، وبالثقافة الغربية من جهة ثانية، وتشكيل منطقة تفكير ثالثة تتركّب فيها الأفكار وتتفاعل بحرية حقيقية، ولا تتعارض وتتضارب وتتساجل، ويقوّض بعضها بعضا، بل تذوب مكوّناتها في مكونات غيرها على نحو سليم، وتتداخل رؤى هذه برؤى تلك، بما يجعل أثرها فاعلا ومفيدا، فالتهجين الثقافي ضرورة لازمة لأنه يحرّر الثقافات من حبستها ومركزيتها، ويغذّيها بعناصر جديدة، والأهم من ذلك أن تعلن الثقافة العربية عن أسئلتها الخاصة التي تترتّب مقدّماتها، وتحليلاتها، وبراهينها في ضوء حاجات الإنسان والواقع، وليس استجابة سلبية لمقترحات خاصة بأنساق ثقافية آتية من الماضي أو من الثقافات الأخرى.
&&&& الاختلاف المقصود هنا، يوفّر حرية نسبية في ممارسة التفكير دون شعور بإثم الانفصال عن الماضي، ولا خشية التناقض مع الآخر، فهذه المخاوف التأثيميّة والتوجّسات أنتجتها ثقافة المطابقة، وهي مخاوف وتوجّسات تنهار دفعة واحدة إذا انتظمت الثقافة على أسس نقدية واعية وواضحة. ومردّ الحاجة إلى «الاختلاف» رسوخ ثنائيات ضدية خطيرة في صلب الثقافة العربية الحديثة، منها على سبيل المثال: الأصالة والمعاصرة، الذات والآخر، الماضي والحاضر...الخ. وقد تركت تلك المفاهيم أثراً مباشراً في الفكر انقسم الوعي بسببه إلى شطرين متضادين ومتناحرين، بحيث أصبحت تلك المفاهيم بذاتها «مرجعيات» ثابتة ونهائية، توجّه عمل الفكر وتحدّد مجالاته، وتقوّم نتائجه، وكل منهما يعتصم بذاته في نسج براهين تؤكد صوابه، وتسفّه أمر المفهوم المضاد. انشطر الفكر العربي الحديث فعلاً إلى تيارين يقصي أحدهما الآخر، ويدَّعي احتكار الحقيقة، ويؤصّل ذاته بمرجعية لا علاقة مباشرة له بها، مستخدماً الحجج السجالية في إثبات دعواه وإبطال دعوى غيره، فثمة تيار يذهب إلى أنه لا سبيل أمامنا إلاّ الاندماج التام والكلّي في ثقافة الآخر، وثمة تيار يقول إنه لا سبيل إلاّ الاعتصام بالذات والاصطدام بالآخر. التيار الأول يدعو إلى الذوبان في الغرب، بحيث نصبح جزءاً منه «لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً»، وبحيث نُشعر الغربي، بأننا«نرى الأشياء كما يراها، ونقوِّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها». وهذا تيار واسع له أنصاره ومفاهيمه ورؤاه، وقد شاع في الثقافة العربية وعُرف منذ مطلع القرن العشرين، وسعى بدعواه العقلانية إلى مطابقة الآخر رافعاً شعار التنوير على غرار ما حصل في الغرب في العصر الحديث، وذلك في نوع من «المطابقة»لا يخفى. أما التيار الثاني، فيعلن أنّ هدفه هو إيجاد هوية ثقافية صافية ونقية، تنهل عناصرها من الماضي، الذي هو بالنسبة له، ذخيرة المعرفة الحقيقية، ومورد اليقين الذي لا ينضب، والمجال الذي ينبغي أن يتأصّل فيه كلّ شيء، ومن أجل إنجاز هذه المهمة، فلا بد من القيام بعمل مزدوج، من جهة ينبغي بعث الموروث وإحياء مكوِّناته، ومن جهة أخرى الاصطدام بالآخر، وفك العقدة التاريخية بين الأنا والآخر، وقلب الموازين وتبادل الأدوار. ذلك هو السبيل لإنشاء كيان ذاتي أصيل، وهويّة خاصة محدّدة الأبعاد. وإذا كان التيار الأول يرهن عملية تحديث الفكر العربي في الاندماج بالغرب، والتماهي معه بوصفه مصدراً مشعّاً للحقيقة النهائية المطلقة، دون الأخذ بالاعتبار اختلاف السياقات الثقافية والتاريخية، التي تميّز حاضر الغرب عن حاضر سواه، فإنّ التيار الثاني يبحث عن الصفاء المطلق الذي يستعير مكوِّناته من الماضي شرط الإجهاز على الآخر.
&&&&&& إذا أخذنا في تحليل الأمر تحليلا معرفيا، فلا خلاف بين التيارين من حيث النتائج النهائية للأهداف والمقاصد التي يعلنانها؛ فالذات الآنيّة كائن هلامي، وأمشاج متناثرة، لا تتبلور وتتكوّن إلاّ من خلال الاندماج في الآخر بالنسبة للتيار الأول، وهي بالصفات نفسها لا قيمة لها، إن لم تُبعث فيها عناصر محتجبة في التاريخ البعيد، بانتظار أن تحقن بها، وذلك يقتضي إزالة الآخر؛ لأنه يحول دون الاتصال الحي بذلك النسغ الأصيل. وعلى هذا، فالتيار الأول يعتبر الثقافة الغربية الجوهر الوحيد في العالم، وكل الثقافات أعراض، فيما يقرر الثاني أنّ الجوهر الوحيد هو ثقافة الأصول وكل ما عداها أعراض؛ لأنها ثقافة جذب واستقطاب، فيما ثقافة الآخر ثقافة طرد واستبعاد وإقصاء. التيار الأول يتطابق مع الآخر ويفكر فيه وبه، وينسب إلى نفسه إشكاليات الآخر الثقافية، ويتبنّى مقولاته ومفاهيمه، ووجهات نظره في كلّ شيء، فيما يتطابق التيار الثاني مع ماضيه ضمن تجربة خاصّة تخطّاها التاريخ، ويعتصم بذاته في نوع من التجريد المطلق، الذي تجاوز راهنية الحياة؛ سعياً وراء لاهوت جديد تتطابق فيه المقدمات مع النتائج بمعزل عن المتغيرات التي لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال.
&&&& أردنا- ونحن نضع تحت الأنظار موقفين متباينين فيما يخص واقع ثقافة المطابقة- أن نؤكد على طبيعة النتائج التي ستتمخّض عنها تلك المواقف، في واقع ثقافي تمور فيه التناقضات بكل أشكالها، فالأخذ بالخيار الأول هو تقويض لنسق ثقافي محمّل بجملة من الشحنات الوجدانية والدينيّة والنفسية والفكرية والاجتماعية بما يستبدل به مجموعة من الأنساق الثقافية التي لها محمولاتها الخاصة ورهن ذاك بهذا، وهو خيار وإن ادّعى التحديث فإنه لا يسهم فيه كطرف فاعل إنما كطرف منفعل، يتلقّى ما يصل إليه دون إمكانية تمثّل حقيقي له.أما الأخذ بالثاني فهو تكريس الحاضر من أجل بنية ثقافية تتصل بنموذج فكري تجاوزه الواقع نفسه، فتحوّل ذلك النموذج إلى سلسلة مفاهيم تمارس سلطتها في الذهن التقليدي، ولا تجد في الواقع القائم الآن& إمكانية حقيقية لتطبيق النموذج، ولهذا فإنّ هذا التيار يرهن الحاضر بالمفهوم الذي جرّده الزمن من زخمه، فيصادر ذلك الواقع من أجل البرهنة على صواب المفهوم. ومهما يكن، فلا بد من التأكيد على أنّ الاعتصام بالذات والتطابق معها، لا يقل خطراً عن التماهي بالآخر والتطابق معه. إنّ الأول مبعثه التعصب والانغلاق، والثاني الحيرة والضياع، وكلّ منهما موقف ولائي وامتثالي وغير نقدي، ولن يفضي إلاّ إلى مزيد من العزلة عن الآخر أو الذوبان فيه. وسط تنازع هذين الموقفين اللذين يشطران واقع الثقافة العربية الحديثة، يظهر «الاختلاف» الذي كان مغيَّباً، على أنه الوسيلة لتعميق الرؤى الذاتية من جانب، والحوار مع الآخر، والتفاعل معه من جانب آخر، وجعل الحاضر موجّهاً ومنطلقاً للتصورات الفكرية وموضوعاً للبحث والتحليل، وتجاوز السجال إلى الحوار، ونقد الذات الامتثالية، والدعوة إلى ذات هي مجموع ذوات كفؤة، وقادرة على إنتاج الفعل والتفاعل مع الآخر على نفس المستوى من المقدرة والإمكانية.
&&&&&&&& إنّ تدشين أرضية صالحة للاختلاف في الرؤية والمنهج، توجب بطبيعة الحال، استئناف النظر مجدّداً، اعتماداً على وعي نقدي، بكلّ طبقات الثقافة العربية التي تراكمت خلال العصور التي مرت عليها، وإلى جانب ذلك استئناف النظر أيضاً بمعطيات الثقافة المعاصرة، بمصادرها الكثيرة، والغربية منها على الخصوص، وبدون منظور نقدي-حواري، يصعب تصوّر ظهور اختلاف حقيقي، فالاختلاف انفصال إجرائي عن الآخر، بما يمكّن من رؤيته بوضوح كافٍ، وانفصال رمزي عن الذات بما يجعل مراقبة أفعالها ممكنة. والنقد هو الممارسة التي يمكن اعتبارها دعامة الاختلاف الشرعية، وهو نقد لا يعني بأي شكل من الأشكال إصدار حكم قيمة بحق ظواهر ثقافية لها شروطها العامة، ولا يدّعي تقديم بدائل جاهزة، وليس في مقدوره استبدال معطىً بآخر بسهولة، لأنه نقد لا يقرّ بالمفاضلة، إنما هو ممارسة فكرية تحليلية كشفيّة استنطاقية، غايتها توفير سياقات تمكّن من إظهار تناقضات الفكر المتمركز حول نفسه، وإبراز تعارضاته الداخلية، ومصادراته، واختزالاته للثقافات الأخرى.
&&&&&& تنبغي الإشارة أيضاً إلى أن النقد هنا، لا يؤمن بتغليب مرجعية على أخرى، وهو لا يدعي القدرة على الإجهاز فوراً على كتلة ضخمة ومتصلّبة من الممارسات المتمركزة على نفسها سواء أكان ذلك على مستوى العلاقات الواقعية أم العلاقات الخطابية. فالنقد أبعد ما يكون عن كل هذا، فلا يصار أبداً الإجهاز على ظاهرة من خلال إبداء الرغبة في ذلك، فـ«التفكير الرغبوي»تفكير انفصالي، بطبيعته عن موضوعاته؛ لأنه يكيّف نظرياً مسار الوقائع للرغبة دون الأخذ بالاعتبار الهوّة التي تفصل الرغبة عن موضوعها، إنما يريد النقد أن يمارس فعله عبر الدخول إلى صلب ظاهرة ثقافية كبيرة، والتفكير فيها، ولكن ليس التفكير بها. هو نوع من العمل المنهجي الذي يتّصل بموضوعه، وينفصل عنه في الوقت نفسه. إنه يتصل بالمركزيات الثقافية على مستوى اشتغال مفاهيمها، وفروضها، وقضاياها، وإشكالياتها بهدف استكناه طبيعتها الداخلية، وخلق «ألفة» نقدية من التواصل مع ركائزها وآلية عملها، ولكنه انفصال واضح عنها؛ لأنه يهدف إلى ضبط مصادراتها وإقصاءاتها، وإبراز تناقضاتها الضمنيّة. بعبارة أخرى، النقد هنا، لا يقبل لنفسه، بوصفه ممارسة واعية، أن يتهرّب من الاقتراب الحقيقي إلى الظاهرة التي يدرسها، إنما هو مدفوع للوقوف تفصيلاً على التشكّلات الداخلية لتلك الظاهرة، والارتباطات الخفيّة بين المفاهيم المكوّنة لظاهرة التمركز، ووصف شُحن الغلواء التي تمورُ بها، دون أن يعني ذلك- بأي شكل من الأشكال- انتقال تلك الشُحن إليه هو. إنه يريد أن يتجاوز التذلّل والولاء، فيُدخل موضوعه في سياق نقدي شامل، دون ادعاء أية حقيقة وأي يقين، كما أنه لا يصدر عن مرجعيات تجريدية ثابتة ترتبط بهذه الثقافة أو تلك.
&&&& هذا النقد ممارسة معرفية واعية تنتمي إلى ذاتها، تتوغل في تلافيف الظاهرة الثقافية، وتضيء الأنوار في العتمة الداخلية لها، لتكشف أمام الأنظار طبيعة الظاهرة، وآلية الممارسات التي تقوم بها، سواء في إنتاج ذات تدّعي النقاء، أو في اختزال الآخر إلى نمط يوافق منظورها. والهدف من ذلك، توسيع مديات الوعي فيما يخص طبيعة الظواهر الثقافية القائمة في عالمنا المعاصر، وتخصيب تشعَّباته، وإعطاء أهمية للبعد التاريخي للثقافات دون أسرها في نطاق النزعات التاريخية. إنه ممارسة تعي شرط حريتها، وتفكير في موضوع التمركز، من أجل إبطال نزعة التمركز وتكسير مقوماتها الداخلية، وفصل الوقائع المُختلطة ببعضها، والمنتجة في ظروف تاريخية متصلة بـ«الذات» و«الآخر».هو نقد لا يتقصّد إيجاد قطيعة بين الاثنين، إنما ترتيب العلاقة بينهما على وفق أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية؛ بهدف إيجاد معرفة جديدة تقوم على مبدأ الاختلاف الرمزي عن الذات المتمركزة وخرافاتها، والآخر المتمركز ومصادراته. ولا يمكن أن تكون معرفة «الآخر» مفيدة إلاّ إذا تمّ التفكير فيها نقدياً، والاشتغال بها بعيداً عن سيطرة مفاهيم الإذعان والولاء والتبعية، وبعيداً أيضاً عن أحاسيس الطهرانية الذاتية وتقديس الأنا.
&&&&&& أخيراً فإنّ من الأهداف الأساسية لهذا النقد، تغيير مسار التلقّي، الذي نقصد به الطريق الذي تأخذه الأفكار الأخرى للدخول في وعي الذات، فتتشكّل ضمنها، وهي حاملة معها دلالاتها، دون أن تخضع لمراجعة، بحيث تحتفظ بمحمولاتها وسياقاتها الأصلية، وهو ما يحدث انقساماً شديداً في الذات الثقافية؛ لأنها لم تُكيّف تلك العناصر، بسبب غياب الإطار المنظّم والمكيّف القادر على إعادة إنتاج تلك العناصر، بما يجعلها مكوِّنات في هذه الذات، وليس جزءا غريبا عنها، مهيمنا عليها، وما يحصل أنّ تلك العناصر، ستمارس أفعالها كأنها ضمن نسقها الثقافي الأصلي، وهذا يقود إلى تعريض مكوِّنات الذات إلى انهيارات داخلية؛ لأن تلك العناصر نُضّدت جنباً إلى جنب،ولم تركّب محمولاتها وفقاً للشروط التاريخية للذات الثقافية. وظيفة النقد المعرفي أن يسهم في تغيير مسارات التلقّي، ويقترح كيفيات لاندراج عناصر الثقافات الأخرى في الذات الثقافية؛ فالثقافة العربية أصبحت حقل صدامات لا نهائية بين المفاهيم والمقولات والرؤى والتصورات المستعارة، وذلك سببه، فيما نرى، عدم الاهتمام بمسار تلقّي الأفكار الذي يؤدي إلى أن تحافظ المكونات الغريبة على نفسها دون الانصهار في نسق الثقافة الجديد الذي يحتضنها. وهذا الأمر يتصل بموضوع التمركز، فالأفكار تمارس أفعالها المتمركزة إذا لم تندمج في أطر الثقافة الأخرى على أنها مكوِّنات فاعلة فيها. وبالنظر إلى أن التمركز ظاهرة ثقافية-باعتبار التمايز بين الطبيعي والثقافي- فإنّ كل خروج على ما هو طبيعي يندرج في مجال الثقافي، وعلى هذا ينبغي استبعاد العامل الطبيعي من شبكة التمركز؛ لأن التمركز متصل بالمنظور الثقافي للإنسان في رؤيته لذاته ولغيره. التمركز نسق ثقافي محمّل بمعانٍ ثقافية (دينية، فكرية، عرقية) تكوّنت تحت شروط تاريخية معينة، إلاّ أن ذلك النسق سرعان ما تعالى على بعدهِ التاريخي، فاختزل أصوله ومقوّماته إلى مجموعة من المفاهيم المجرّدة التي تتجاوز ذلك البعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي، وهو تكثّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدّد، يؤدّي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة، التي تنتج الذات، ومعطياتها الثقافية، على أنها الأفضل، استناداً إلى معنى محدد للهوية، قوامه الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل، سواء في استكشاف نفسها أو في معرفة الآخر، ويشمل ذلك الذات المفكّرة الواعية لذاتها أو تلك الذات غير الواعية التي تقيم تصوراتها على نوع من المخيال المنتج للصور النمطية لها ولغيرها.
&&&&& لا يقتصر الأمر في التمركز على إنتاج ذات مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب التاريخية، إنما- وهذا هو الوجه الآخر لكلّ تمركز-لا بد أن يتأدّى عن ذلك تركيب صورة مشوّهة للآخر. وبين الذات الصافية التي تدّعي النقاء المطلق، والآخر الملتبس بالتشوه الثقافي (=الديني، والفكري، والعرقي) ينتج التمركز أيديولوجيا إقصائية استبعادية ضد الآخر، وأيديولوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات؛ فينقسم الوعي معرفياً على ذاته، لكنّه أيديولوجيّاً يمارس فعله المزدوج بوصفه كتلة متجانسة لها منظور واحد. إنّ النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها، وهو الذي يدفع بها إلى أن تُفصح عن مضمراتها؛ لأنه يتتبّع بدقّة الممارسات الملتوية والملتبسة للمفاهيم التي تكوّنها، ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز، إنما يهيّئ لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحوّل، ومتجدّد، ومتشعّب الموارد من المنظورات والمكوِّنات الثقافية المنتجة، أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط التاريخية للذات الثقافية. وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجردة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارّة وكونية في آن واحد، فإنّ الهوية الثقافية التي تقوم على الاختلاف لا تقرّ بالثبات، ولا الشمول، وتحرص على بعدها التاريخي، وفيما تصطنع هوية الثقافة المتمركزة أصولاً عرقية، ودينية، وفكرية توافق مضمونها، فإنّ هوية الاختلاف المركّبة من موارد عدّة، تتجنّب إنتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز؛ فاتصالها بالركائز المذكورة اتصال تاريخي طبيعي ليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية المختلق، الذي يفترض الصفاء المطلق والديمومة. هوية التمركز تدّعي الصفاء المطلق، فيما هوية الاختلاف رمادية، تمتزج فيها بتفاعل تام الأطياف المتنوعة، والمؤثرات المتعدّدة. وفيما تقوم هوية الثقافة المتمركزة بطمس كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية كما أنتجتها تلك الثقافة واستبعادها، بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات التاريخية، فإنّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكوِّنات فاعلة فيها، وهي تمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها وغيرها.
&&&& نقد الذات ونقد الآخر ممارسة توسّع من مجال الاختلاف، وتوفّر إمكانية تتجاوز بها الثقافة العربية الحديثة ضروب التماثل والتطابق التي تعيق حركتها، وتبطل فعاليتها، بعد أن انقسمت إلى تيارات متضادّة لاتتشارك في المفاهيم والتصورات الأساسية، وكل هذا يسهم في إضفاء نوع من العدميّة على ثقافة تعجز عن مناقشة إشكالياتها الخاصة. التنوّع الخلاّق لمكوّنات الهوية هنا له دلالته لأنه يركّب تصوراته بمقدار ما يسعى لأن يتفاعل مع الثقافات الأخرى، ويختلف عنها في الوقت نفسه، ضمن إطار عام له قدرة على التعدّد والحوار والتواصل بما يغني فروضه، ويخصّب من إمكانات التجدّد فيه؛ وذلك بهدف أن تكون ثقافة لها أثرها في عالم تشكّل الثقافات المتنوّعة فيه عنصراً أساسياً من عناصر الوجود.

&