محمد عبدالله ناب
هاجمَ مجموعة من الفلسطينيين وزير الخارجية المصري وهو يدخلُ إلى المسجد الأقصى في القدس ومنعوه من أداء الصلاة، بعد أن ناله منهم بعض اللكمات والكدمات، مما اضطره إلى مغادرة المسجد وهو في حالة إغماء. هذا الهجوم أعاد إلى ذهني رؤيةً مازلتُ مقتنعاً بها، وتترسخُ هذه القناعة مع مرور الزمن، مُؤداها أن أكبر أعداء الفلسطينيين هم الفلسطينيون أنفسهم وليس شارون. وليت الأمر يتوقف عند هؤلاء الغوغاء الذين زعمت السلطة الفلسطينية أنهم هم الذين قاموا بالاعتداء على وزير الخارجية المصري، وهو يدخلُ بيتاً من بيوت الله، ليؤدي فرضاً دينياً، ولكنه يمتد ليشمل بمنتهى الصراحة حتى النخب الفلسطينية، أو بلغة أدق من يُفترض أنهم النخب، والذين اضطلعوا بتحمل مسؤولية قضيتهم، بمن فيهم رئيسهم "الختيار" المحاصر منذ سنتين. فهم الذين أشاعوا ورسخوا مثل هذه الثقافة، وهم المسؤولون تاريخياً عن هذا الفكر الغوغائي الديماغوجي الذي أفرز مثلَ هذه الممارسات. هذه الحادثة أشعلت ضدهم الشارع المصري، وأحرجت القيادة المصرية، التي تولت مهمة إنقاذهم من تشرذمهم، وإنشقاقات فصائلهم، وسخرت دبلوماسيتها لتوحيد صفوفهم، وبذل كل مامن شأنه الضغط على إسرائيل في المحافل الدولية خدمة لقضيتهم، رغم ما خسرته مصر نتيجة لانتهاجها هذه السياسة في علاقاتها مع أمريكا، التي حاولت لمرات عدة لي ذراع المصريين بطرق مشروعة وغير مشروعة بسبب مواقفها الموالية للفلسطينيين؛ ومع ذلك قاومت مصر الضغوط، وبقيت على موقفها المناصر والمآزر للفلسطينيين وخدمة قضيتهم، وفي النهاية يُمارسُ الفلسطينيون معهم مثل هذا الفعل المشين، وفي بيتٍ من بيوت الله.
وأنا هنا سأكتفي بالإشارة إلى تاريخ الفلسطينيين، وتخبطات قياداتهم، ونخبهم، منذ حرب 48 التي كلفت مصر، ناهيك عن بقية العرب، من الدماء و الرجال والأموال ومقتضيات التنمية ما هو معروف لدى الجميع، ثم حرب 67 التي فقدت فيها مصر صحراء سيناء بكاملها بسبب اندفاع عبدالناصر لحربٍ كان الفلسطينيون هم أول المحرضين عليها. وكذلك& حربهم مع السلطة الأردنية فيما سُميَ آنذاك بحرب أيلول الأسود. أضافة إلى ممارساتهم التسلطية وعنجهيات قياداتهم وفصائلهم التي رَحلت أو رُحلت من الأردن إلى لبنان، والتي أدخلت لبنان بعد ذلك وبسببهم في حربٍ أهلية لمدة زادت عن السبعة عشر عاماً، وأدت بهم في النهاية إلى التشتت والتشرذم بين تونس، والسودان، واليمن. وأخيراً تفريطهم بعرض باراك رئيس وزراء إسرائيل السابق إبان مؤتمر كامب ديفيد الأخير في عهد الرئيس كلينتون، والذي طرق بابهم فيه "الحظ" للمرة الأولى، ولا أراه سيطرقه ثانية، فالحظ لا يطرق بابك مرتين. وليس موقف قيادتهم السياسية المائع من غزو صدام للكويت، إلا ضرباً من ضروب هذه السياسة الرعناء التي لا تعرفُ للحصافة والكياسة وقراءة المستقبل أي معنى. ولن ننسى نحن السعوديون وبقية شعوب دول الخليج تلك الجموع الغفيرة التي كانت تملأ شوارع غزة على مرأى ومسمع من الزعيم "الختيار" مؤيدة لغزو الكويت، وتهديد السعودية، وهي تردد : بالكيماوي يا صدام!. ولا يُحرك الزعيم المنتخب أمام هذه التظاهرات ساكناً.
لكني سأركز هنا عن موقف جديد تؤكدُ دلالاته على أن القوم في غيهم سادرون، وفي الوقت نفسه يُشير إلى مدى "تخلف" النخب الفلسطينية، وعدم قدرتها على فهم الواقع، والتعامل معه، ومع موازين القوى، والظرف التاريخي الذي يمرُ به العالم اليوم، بموضوعية، وحسبَ ما تمليه مقتضيات مصلحة صراعهم السياسي& مع إسرائيل. على اعتبار أن السياسة ـ لمن يعرفونها ـ هي فن الممكن، وليسَ اللعب على الشعارات التي لم تقتل ذبابة قط.
ففي الأردن، يُشكل الأردنيون من ذوي الأصول الفلسطينية ما نسبته ثلاثة أرباع السكان. والفلسطينيون بمختلف أطيافهم السياسية هُم مَن يسيطرون على قرارات مؤسسات المجتمع المدني هناك، وبالذات النقابات.
نقابة المحامين الأردنيين، أو إن شئت الفلسطينيين، وبدوافع عاطفية وعروبية بحتة، قررت مؤخراً أن تنتدبَ مجموعة من محاميها للدفاع عن صدام. وقد سبقَ الاجتماع الذي نتج عنه هذا القرار خطباً نارية، واستعراضات عنترية، ومقالات صحفية، وشعارات أكل عليها الدهر وشرب،& كلها تقوم على تحدي أمريكا، وتتلمس الأعذار لصدام، وترى أن الدفاع عنه واجبٌ قومي، من لم يقم به، أو يتخاذل عنه، فهو خائنٌ لأمته ودينه وشرفه. أما جرائم صدام، أما تاريخ صدام، أما المقابر الجماعية، أما موقفُ أغلب العراقيين من ذلك المستبد المجرم، فتلك أمور لا تعنيهم. المهم أنهم سيقفون بغباء مع صدام، ربما لا حباً بصدام أو العراق، وإنما كرهاً لأمريكا.& تماماً كما وقفوا معه أبان حرب الخليج.
ورغم أنني أعتبرُ أن الدفاع عن أي متهم، حتى وإن كان صدام، هو حق مشروعٌ، ويجب أن يُكفل من قبل أي محكمة عادلة، إلا أن الدفاع عن صدام هنا هو موقفٌ سياسي وليس قانونياُ أوحقوقياً البتة. وقد أقبلُ ـ جدلاً ـ مثلَ هذا الموقف المتعاطف من نقابة المحامين الأردنيين، لو أنهم أدانوا ممارسات صدام في السابق، ولو أنهم تبنوا مهمة الدفاع عن ضحايا "حلبجة" مثلاً، لكان هناك ما يُبرر أخلاقياً دفاعهم عن صدام ؛ أما أن ينسوا كل مواقفهم المتخاذلة تجاه الشعب العراقي، ومن جرائم صدام الموثقة، ومن تاريخه الدامي، ومن مقابره الجماعية، ثم يأتون اليوم ليدافعوا عن صدام، فهذا لا يمكن قبوله وتبريره بأي وجه من الوجوه.
الدفاع عن صدام، وبهذا الحماس المنقطع النظير، وهذه الرؤية التي لا تحملُ إلا العواطف الجياشة، والتي لا تمت للموضوعية، ناهيك عن العدالة والحصافة، بل وعن مصالح قضيتهم الفلسطينية، بأي صلة، هي في واقعها وحقيقتها تصبُ في نفس الاتجاه، إنها المأساة الفلسطينية التي نراها تتكرر منذ حرب 48، وحتى اليوم. البعد عن الواقعية، وعن قضيتهم المصيرية، والبحث عن "ساحات أخرى" للصراع، هم فيها أضعف الأطراف، فضلاً عن أنها تنسفُ كل مصالح قضيتهم، وتدخلها في دهاليزٍ من الضعف والمساومات والتنازلات والخنوع والإستسلام في المحصلة النهائية؛ وفي النتيجة لا هُم الذين خدموا قضيتهم الأولى، ولا هم الذين سيخرجون منتصرين حتماً من قضاياهم الجديدة التي لا يمكن الفوز بها إطلاقاً، لأن أدلتها الجنائية قطعية وثابتة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.& فلماذا تأبى النخب الفلسطينية إلا الرهان على الجواد الخاسر ؟.
&
فإذا كان من اعتدوا على وزير الخارجية المصري هم من الرعاع والدهماء فأضروا بقضيتهم بدلاً من أن ينفعوها، فماذا نقولُ عن هذه "النخبة" الفلسطينية في موقفهم هذا، هل هم ـ أيضاً ـ من الرعاع و الدهماء يا أستاذ أحمد قريع ؟..& والسؤال : إلى متى والنخب الفلسطينية تخطأ، وتمارس هواياتها في الإبحار ضد التيار، بل والانتحار الجماعي كالحيتان، ونحن في النهاية من يدفع الثمن ؟.&
&
فإذا كان من اعتدوا على وزير الخارجية المصري هم من الرعاع والدهماء فأضروا بقضيتهم بدلاً من أن ينفعوها، فماذا نقولُ عن هذه "النخبة" الفلسطينية في موقفهم هذا، هل هم ـ أيضاً ـ من الرعاع و الدهماء يا أستاذ أحمد قريع ؟..& والسؤال : إلى متى والنخب الفلسطينية تخطأ، وتمارس هواياتها في الإبحار ضد التيار، بل والانتحار الجماعي كالحيتان، ونحن في النهاية من يدفع الثمن ؟.&
التعليقات