الدكتور تيسير عبد الجبار الالوسي
&
&
&
في أية جيرة تنشأ علاقات متبادلة.. تتخذ أحيانا منحى سلمي إيجابي فيما تنحو منحى العنف والاحتكاك السلبي في أحيان أخرى انسجاما مع طبيعة أنظمة الحكم من جهة وطبيعة موضوعات الحوار بين أطراف الجوار من جهة ثانية. ولقد مرَّت العقود الأخيرة بين العراق وجيرانه بكثير من التوترات والاحتكاكات وصلت حدّ الحروب الدموية الشاملة في وقت اصطرع الجاران إيران والعراق لحلّ أزمة الحدود وتقسيم مياه الشطّ كما أعلنت وسائل إعلام طرفي الحرب فيما كانت الحقيقة تتعلق بأمور أخرى تماما..
واجتاحت قوات الدكتاتور العدواني دولة الكويت في ليلة ظلماء.. وسبق للطاغية أنْ ذبح زملاءه في قيادة الدولة عندما كادوا يزيحونه من هرم القيادة لو تمت الوحدة السورية العراقية.. واتجه في تدخلاته نحو دول من المنطقة ليست على تماس مباشر مع حدود البلاد.. وضلل بإعلاناته التي زعم فيها التعاضد محاولا إخفاء عدوانيته.. ولكنَّ جرائم الحرب المتوالية كانت واضحة مفضوحة أمام العامة..
إنَّ جود النُظُم العدوانية واحد من أسباب التقاطع والاحتراب بين الدول المتجاورة.. إذ ليس من مصلحة شعوب تلك الدول التي تعيش في إقليم واحد أنْ تتحارب حسما لقضايا الحوار فيما بينها. وليس من مصلحتها تصدير رؤاها ونمط عيشها وتصوراتها في معالجة الأمور والسياسات العامة عبر التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة وعبر أصابع الاستقطاب من منافذ علاقات المنظمات الجماهيرية التي يتم تشكيلها لأغراض ذاك التدخل..
إنَّ تعكّز جهة [أو دولة مجاورة] على أحقية جمهور فئة أو طائفة أو منظمة في العمل بحرية أمر لا ينمّ دائما عن حسن نية ومصداقية في العلاقات أو دعما لحقوق الإنسان بقدر ما يعكس أحيانا وسائل ملتوية للتدخل السلبي على المدى البعيد.. ويحصل مثل هذا اليوم في بلادنا..
ومدخل مناقشتنا ينطلق من إيمان بوجود مصالح مشتركة للبشرية جمعاء وهي تحيا في عالم واحد على كوكبنا فكيف بتلك المصالح إذا ما كانت لبلدان جوار من إقليم واحد؟ لكنَّنا نؤمن أيضا بأنَّ تلك المصالح منها الصالح ومنها الطالح! إذ من الصالح كلّ ما يقوم على الروح السلمي والتعايش المشترك من منطلق توزيع الثروات وتقاسم العيش على أساس من التعاضد والتعاون على أنَّ مَنْ يحدِّد هذا الصلاح ليس طرفا واحدا بل توافقا بين دول الجوار..
أما طالح المصالح فهو تلك المصالح التي تقوم على تصور طرف دون الآخر وعلى فرض وجهة النظر الأحادية بحسب منطق القوة وليس قوة المنطق.. وفي هذه الحالة وإنْ استجاب الموقف لمصالح نظام الحكم الذي أطلقه فإنَّه لن يستجيب بتلك المصالح المفروضة قسرا من طرف بعينه لمستهدفات شعب الدولة المعنية... هنا نقول عن عن المستهدفات المفروضة طالح المصالح ورديئها مما يعادي صالح المصالح المستجيبة للشعوب ومطامحها..
وبقراءة مباشرة للمصالح المنشودة بين عراق اليوم ودول الجوار نجد أنَّ عراق اليوم هو عراق السلام والتسامح لأنَّه عراق العودة للقوى الوطنية وهي تتجه به إلى مصالح الشعب وجعل قيادته تنبثق من صفوفه ومن مصالحه الحقيقية سواء باختيار ممثليه عبر أحزابه ذات الجذور الوطنية المعروفة أم بالانتخاب والتصويت الشعبي القادم غير بعيد..
ولكنَّنا بالقراءة نفسها نجد كثيرا من الثغرات التي حصلت نتيجة للفراغ الأمني الذي نجم عن إخلاء الميدان من قوات حرس الحدود وجيش وطني عراقي ومن قوات الأمن الوطني.. فهل كان هذا الفراغ مما أصاب طرف الحدود من الجهة الأخرى لدول مجاورة أم أنَّ الفرصة كانت مؤاتية للتدخل السافر البيِّن في أوضاع البلاد؟
وما طبيعة ذاك التدخل؟ وجوابنا سريعا يتكشّف في وقت لا نجد مَنْ يعبر الحدود غير قتلة وقطاع طرق من مدَّعي الإسلام السياسي ومدَّعي الأمر بــ (معروفهم) والنهي عن (منكرهم) وتكفير الشعب العراقي على وفق أهوائهم ومبادئهم وتصوراتهم. بمعنى فرض رؤية طرف بعينه أحادية المصدر والقراءة..
والتدخل بكل أشكاله مرفوض طالما وقف وانبنى على وجهة نظر أحادية.. وإذا أقنع طرف فئته أو شعبه أو جهته بأنَّه ينطلق من تحقيق مصالحه فإنَّه في الحقيقة على المدى البعيد لا يستطيع إقناع ذاك الطرف بمصالح جدية صحيحة إذ لابد لشعبنا من استتباب أمور أمنه وحماية حدوده قريبا وعندها سيكون الجواب قاسِ ِ على تلك القوى ولن يصبَّ الجواب في خدمة مصالح جهة تعتدي اليوم على مصالح شعب آمن مسالم كشعبنا العراقي...
ومن القدح بحق شعوب دول الجوار مثل هكذا تدخل قبل الشعب العراقي ومن الطالح تعقيد العلاقات بين الجيران ووضعها موضع التصادم والاحتكاك.. ولا عذر لفتح الحدود أمام تسلل العناصر الإجرامية كما يحصل مع بعض ِ ِ مجرمي القاعدة والوهابية وأنصار الإسلام وفئات متطرفة لا علاقة لها لا بالإسلام ولا بالديانات والرسالات السماوية كما أفتى أهل الحلّ والعقد من أصحاب الحكمة.. فكيف بسلطات رسمية وهي تسمح لهؤلاء في الظرف العراقي الدقيق للتجول بكل حرية عبر حدودها؟!
إنَّ تبادل صالح المصالح ينبغي أنْ يقوم على التبادلية والتماثل والتوافق.. وللعراقيين اليوم سلطة تمثلهم وليس من منطق الأمور التدخل السافر ليقول هذا الطرف أنَّه لا يعترف بغير الفئة العراقية الفلانية ممثلة للسلطة ويأتي طرف آخر ليعترف بفئة ثانية وجار ثالث لا يعترف بالاثنتين بل بفئة ثالثة وهكذا..
لقد وصل أمر التدخلات وضعا بتنا فيه نرى الجامعة العربية بكل عوامل ضعفها تستقوي على عراق اليوم حيث تستقبل أحزاب سياسية تنتمي لأمس العراق المظلم لاستطلاع موقف العلاقة مع العراق ويلتقي وفدها صبيان لم يستكملوا دراستهم ولم تعترف لهم حوزتهم بعد بشهادة، لاستبيان الوضع العراقي (وإذا كنّا لا نبخس حتى لصبية العراق حقهم في إبداء تصوراتهم الحياتية فإنَّ ذلك المنطق الديموقراطي الجديد في بلادنا وفيما يخصّ العلاقات الداخلية للشعب العراقي لايسمح في العلاقات الدولية والإقليمية لأي طرف كان أنْ يدسَّ أنفه عبر أية قوة عراقية أيا كان حجمها ومنطقها وسياستها.. وللذين لايعرفون منطق العلاقات الدبلوماسية أنْ يأخذوا الدرس العراقي إشارة كافية..
وللذين يرسمون تدخلاتهم عبر دعم قوى الإرهاب والتطرف أو عبر دعم الجبهات السياسية التي تقبل بيع خدماتها لجهة دولة جوار أنْ يتذكروا أنَّ القانون العراقي الأساس المنبثق من خطّ الشعب العراقي ومصالحه لن يترك هذه الجرائم من دون معالجة جدية في القريب العاجل.. كما أنَّ تلك القوى لن تحظى باحتضان شعبنا وصوته الانتخابي بل سيتمّ لفظها بحسابات القانون العراقي وشارعه (الشارع هنا لمن يجهل هو المشرّع الشعب العراقي)...
هذه القراءة تعنى اليوم بكشف أصابع التدخل سواء عبر استغلال قوى طائفية معلومة أو مجموعات قومية أو عرقية أثنية أو ما إلى ذلك بالتعويل على نفر ضال أو على التضليل والمخادعة وعلى انتهاز الفرص لاختراق الوضع والتأسيس لمواطئ قدم في مستقبل العراق القريب والبعيد.. وهي قراءة تدعو جهات الحكم المسؤولة للتنبه لمشكلات الاختراق من الداخل فهي قنابل موقوتة لمستقبلنا لمصلحة ديمومة عدم الاستقرار وإضعاف العراق لمآرب عند قوى إقليمية من هذه الدولة أو تلك..
وفي الوقت ذاته نؤكد للقوى الإقليمية ودول الجوار أنَّه بمقدار الوقوف الإيجابي اليوم مع العراق وشعبه سيكون لذلك وقعه الإيجابي الفاعل في المستقبلين القريب والبعيد وسينعكس في طبيعة العلاقات بيننا وبين تلك الأطراف إيجابيا وتكامليا وتبادليا بالمثل.. وإنَّ النظر إلى الأمور ينبغي أنْ يكون من منطلق التسامح وليس الانتقام ردّا على جرائم طاغية الأمس لأنَّ ارتكاب جريمة كجريمة الطاغية هي عملية توالد للجرائم الثأرية التي لا يد للشعوب فيها ولا مصلحة لها فيها..
إنَّ تحقيق السلام في المنطقة هو تطلّع الشعوب واللقاء الذي تترسم الخطى إليه.. وعلى النُظُم أنْ تأخذ الدرس في التوجه للتجمّع المناسب الذي يخدم الجميع من دون أنْ يكون على حساب طرف بعينه. والتجاوب مع مساعي السلطة العراقية الجديدة في التعاون وفي تبادل الثقة والعلاقة الطبيعية أمر سيجلب الخير للكافة. بينما الاعتقاد بانحناء نخلة العراق ومطواعيتها لفلسفات التدخل السلبي أمر لن يجلب لتلك القوى غير الخسارة الأكيدة والعزلة عن محيطها وعن شعبها..
فيما نحن متأكدون من التحول بمنطقتنا إلى مرحلة جديدة من العلاقات الإنسانية الصحية ونسير بها بالاتجاه الصحيح مع جميع الأطراف والدول المجاورة... على أساس من صالح المصالح المشتركة وسلوك التسامح ورفض طالحها وفرص العداء والاقتتال فهي ليست من مصلحة طرف سوى القوى التي لا يعنيها مصير الشعوب..


أكاديمي ومحلّل سياسي ناشط في حقوق الإنسان
2003 12 26
E-MAIL:
[email protected]