د. ليلى احمد الاحدب
&
&
&
&
بعد تجاوزي لمرحلة المراهقة والتي تمثل مرحلة البحث عن الذات, بدأت أبحث في المجتمع, فوصلت إلى نتيجة مفادها أنه إذا كنا نعتقد أن المجتمعات الغربية كافرة, فلا يحق لنا أن نفتخر عليها, لأن مجتمعاتنا سمتها الغالبة هي النفاق, والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.&
كان لدي حساسية عالية من الكذب والتمثيل وقتها, وقد رويت ذات مرة حادثة جعلت هذه الحساسية واضحة عندي أعيد ذكرها هنا على سبيل الطرفة, فقد حصلت حين كنت طفلة بعمر 5 سنوات عندما خطب أخي العائد من أوروبا إحدى الفتيات استجابة لرغبة والدتي دون اقتناع منه بالفتاة، وبينما أصرّ هو أنه لن يشتري سوى الخاتم؛ لأنه يريد أن يعرف الفتاة أكثر، ألحّ أهلها الحريصون على أخي لأخلاقه وسمعته أن يأتوا له بالهدايا كي يقدمها لابنتهم على "عيون الناس", وهذه العبارة لم أكن أفهمها بداية الأمر؛ لكنه لم يقتنع بالفتاة, لأنه تعلم في بلاد الغرب أن الفتاة ليست خصرًا نحيلاً أو وجهًا جميلاً فحسب، بل هي عقل وفكر وثقافة وشخصية، ولما لم يجد شيئًا من هذا عند تلك الفتاة أظهر رغبته بفسخ الخطبة، فوافق أهلها على مضض وأعادوا له الخاتم، ولم يعيدوا الهدايا، وبما أن الله حباني بملكة حب الاستطلاع منذ صغري، فقد سألت: لماذا لم يعيدوا باقي الهدايا وقد قدمها أخي؟ فقيل لي: لا.. هذه هم أتوا بها لكن قدمها أخوك على "عيون الناس"؛ ومنذ ذلك الحين لديّ عقدة اسمها "عيون الناس".. أقصد لديّ عقدة من النفاق والكذب والتمثيل والدجل!
ربما زادت هذه الحساسية مع تقدم السن, لدرجة أنني أجد نفسي غير قادرة على متابعة أي مسلسل أو فيلم من إنتاج عربي, بينما أستطيع ذلك أحيانا بالنسبة للمسلسلات والأفلام الأجنبية, وقد يكون السبب هو المقدرة العالية للمخرج الغربي الذي يستحوذ على المشاهد فيأخذه إلى دنيا الخيال السينمائي أو التلفزيوني التي تشبه الواقع إلى حد بعيد, كما قد يعود السبب أيضا إلى شخصيتي التي باتت تكره العيش في الخيالات والأحلام والأوهام بعد أن أدركت إلى أي حد مسفّ وصلت أمتنا العربية المسلمة بسبب النوم والعواطف واللاعقلانية التي كانت ديدننا عبر عقود طويلة من الجهل والتخلف والظلم والظلام.
أتذكر كل هذا الآن, وأنا أرى وأسمع هذه الضجة التي قامت بعد أن أعلن الرئيس الفرنسي شيراك منعه للحجاب في الحياة العامة بفرنسا؛ ويجب أن أذكر أولا أني محجبة عن اقتناع بأن حجاب المرأة لا يتعدى ستر ما تستره في صلاتها من جسدها بالكيفية التي تتماشى مع شخصيتها وعملها وثقافتها, لكنني لا أحبذ فرضه على أحد حتى لو كانت ابنتي, ولذلك لا أوافق بعض معارضي الحجاب تعميمهم الخاطئ حين يعتقدون أن الحجاب رمز سياسي أكثر منه ديني, دون أن أنكر أن هذا يحدث أحيانا لأن الدين كله يجيّش لصالح السياسة في مرات كثيرة, فلماذا لا يكون الحجاب كذلك؟ إذا كان تاريخنا يعج بويلات هذا التجييش كما حصل عندما رفعت الفئة الباغية المصاحف على السيوف كدليل أنها تريد الاحتكام إلى القرآن, ثم ما كان منها إلا أن احتكمت لمصالحها وليس لمصاحفها, فليس ببعيد أن يعتبر الحجاب رمزا سياسيا لدى بعض الجماعات الإسلامية؛ لكن ليس من الإنصاف أن تعتبر كل امرأة محجبة ذات غرض سياسي, أو أن حجابها أداة في يد الإسلام المسيَّس, إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
وقد بينت سبب قناعتي بالحجاب ( في تعليقي على الحوار الذي أجري مع د. نوال السعداوي ونشرته إيلاف سابقا ) وهو اختلاف فطرة الذكر عن الأنثى, والشيء الذي يمكن أن أضيفه هنا كرد على بعض مقالات وردت في إيلاف مؤخرا, هو أن الحجاب من الناحية الدينية فرض على المرأة المسلمة بأكثر من نص قرآني, بتسمية غطاء الشعر بالخمار كما في سورة النور (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن), وبتسمية ثوب المرأة الذي يستر جسدها بالجلباب كما في سورة الأحزاب:(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما). ومن الآية الأولى يتبين خطأ الفكرة القائلة بأن الحجاب فرض على الإسلام والإسلام لم يفرض الحجاب, ويستدل أصحاب هذه الفكرة بوجود غطاء الرأس في المجتمعات القديمة قبل الإسلام, وأن الإسلام أمر بتغطية أعلى الصدر فقط (وليضربن بخمرهن على جيوبهن ), أي أن تغطي المرأة نحرها التي كانت تبديه في الجاهلية مع جذور ثدييها, فهذا فهم مخلّ للآية لأن الإسلام عندما جاء كانت هناك ممارسات خاطئة لشعائر دينية مثل الطواف حيث كانوا يطوفون عرايا فيطوف الرجال نهارا والنساء ليلا, فأمر الإسلام بلباس الإحرام للرجل والمرأة على السواء, وبذلك حافظ على الشعيرة وهي الطواف ولكنه صحح من طريقة أدائها, كما صحح من وضع الخمار أو غطاء الرأس بأن يستر الشعر والنحر والمفاتن الأخرى أي كل ما يميز المرأة كأنثى, وليس في وجه المرأة الخالي من المكياج والمساحيق أي فتنة إلا ما ندر, لذلك فغطاء الوجه هو تقليد قبلي لم يأمر به الإسلام. أما الآية الأخرى فالخطأ الذي يقع به بعضهم هو فهمهم أن المقصود من تغطية مفاتن المرأة كان للتفريق بين الأمة والحرة, وبما أننا لم نعد في عصر الجواري فمعنى هذا أن حكم الحجاب بات منفيا من أصله؛ وقد فات هؤلاء أن الآية واضحة الدلالة (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين), والعبرة بعمومية المعنى لا بخصوصية السبب,& أي أن تعرف المرأة المتأدبة بهذا الزي من تلك التي شاءت أن لا تلبسه فجلبت لنفسها العنت من نظرات بعض الرجال الخبيثة أو كلماتهم المؤذية أو تصرفاتهم الماكرة؛ وأؤكد هنا أنه ليس كل امرأة محجبة هي محتشمة وكذلك ليست كل غير محجبة هي مبتذلة, لأن الحجاب ليس أكثر من مظهر قد يدل على الجوهر, وقد لا يدل عليه, ولكن كونه أمر من رب العالمين فيجب على المرأة المسلمة أن تطيع هذا الأمر الإلهي, ولا فائدة منه إذا لم يترافق مع حجاب التقوى؛ ولا أزال أذكر منظر تلك الفتاة التي غطت شعرها بإيشارب بينما ربطت خصرها بإيشارب آخر وأخذت ترقص على "الواحدة ونص" في قارب نهري في إحدى البلاد العربية, فهذه بالطبع لم تفقه الغاية من الحجاب. فغاية الحجاب تتبين في أنه لا بد لتلاقي الرجل مع المرأة في أي عمل إنساني أو اجتماعي أو حضاري أن لا يشوش دور المرأة كأنثى على هذا التلاقي, وهذا لا يكون إلا بفرض الحجاب الشرعي الذي يبرز مهمته وغايته, بأن يخفي مظاهر الفتنة المعبرة عن أنوثتها, ومن الطبيعي أن ما يدخل في معنى إبراز المفاتن أمر نسبي وله درجات متفاوتة, كما أن ما يدخل في معنى الافتتان بهذه المفاتن أمر نسبي أيضا, لأن طبائع الرجال تختلف وظروفهم التي تبعث على التأثـر وعدمه متنوعة, ونظرا لهذه الحقيقة التي لا مجال لنكرانها تضع الشريعة الإسلامية أحكامها لمعالجة الوقائع والكليات دون النظر إلى الفوارق النسبية في الجزئيات, وصفة كل القوانين هي الشمول والعموم, فمن أجل ذلك كان لا بد للشارع من أن يضع حدا لمعنى الحشمة المقبولة طبق الغاية التي شرعت من أجلها, ألا وهي أن تختفي المفاتن الغريزية عن أبصار الناظرين من الرجال فلا يستثيرهم شيء منها إلى تحرش أو إيذاء, ولا يبصروا من المرأة إلا ندا لهم في الخدمة الإنسانية وشريكا لهم في الجهود الاجتماعية.
بعد كل هذا الشرح الذي رأيت أنه ضروري في موضوع هام ومثير للجدل مثل موضوع الحجاب, لا بد أن القارئ يتساءل: ما العلاقة بين كل هذا وبين ما بدأت به المقال عن النفاق؟ العلاقة هي أني أرى في الأمر نفاقا واضحا في الحالة الفرنسية ويتضح أكثر في الحالة اليعربية؛ فبالنسبة لفرنسا يبدو جليا أنها حظرت الحجاب بعذر مواجهة التطرف, رغم مخالفة ذلك لحرية الإنسان التي قامت عليها الثورة الفرنسية لذلك أخطأت فرنسا بهذا القرار لأنه يطعن الديموقراطية في الصميم, ولا يتماشى مع مفهوم العلمانية التي تجعل الناس أحرارا في دينهم دون أن يدخلوه في سياسات الدولة, وقد عزا ستانلي كوهين اليهودي الأمريكي المدافع عن حقوق الإنسان هذا القرار إلى تأثير إسرائيل عليها؛ وأتفق مع أحد كتاب إيلاف الذي امتدح الفتيات الفرنسيات بخروجهن في مظاهرة ضد هذا القرار وكذلك النساء الأوربيات المسلمات وغير المسلمات بدفاعهن عن حق المرأة في اتخاذ اللباس الذي تريده, لكن السؤال المطروح: ما دخل بني يعرب في هذا الأمر؟ ولماذا وقف بعضهم ضد قرار شيراك ولم أسمع واحدا منهم وقف نفس الموقف من تونس مثلا؟ أليست تونس بلدا عربيا إسلاميا؟ فلماذا نعترض على فرنسا المسيحية وننسى تونس المسلمة؟ هل تاريخ فرنسا يحتضن آثار الحضارة الإسلامية أم هو تاريخ تونس؟ وهل فرنسا جغرافياً تمتد في خارطة بلاد الإسلام - رغم تاريخية المصطلح- أم هي تونس؟ و هل يوجد في فرنسا جامع القيروان الذي كان مركز إشعاع علمي وديني لقرون خلت أم هو في تونس؟ فلماذا حلال في تونس أن تُجبر النساء على خلع الحجاب بينما هو حرام في فرنسا؟!!
في تونس أجبرت طالبات ومعلمات وموظفات على خلع الحجاب بالقوة, واقتيد بعضهن إلى مديريات الأمن, وعوملن بقسوة, وأخذت عليهن التعهدات بعدم ارتداء الحجاب إذا أردن الاحتفاظ بمقاعدهن أو بوظائفهن, وفي بعض الإدارات التعليمية حولت الطالبات إلى مجالس تأديب تحت زعم أنهن يرتدين "الزي الطائفي" وتم تنفيذ التعليمات التي تنص على "العمل بكل حزم وصرامة على تطبيق التدابير لمنع ارتداء الأزياء ذات الإيحاءات الطائفية", مما دعا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن تصف في أحد بياناتها هذه الإجراءات بالتعسفية وطالب رئيسها مختار الطريفي بأن تكف السلطات عن إجراءاتها تجاه النساء المحجبات واحترام الحريات الشخصية, وضرورة إلغاء المنشور الإلزامي الصادر عن وزير التعليم العالي بمنع الحجاب في الجامعات والمعاهد.
فأي الفريقين أحق أن ينصح بالتراجع عن قراراته: فرنسا أم تونس؟ لذلك يحسب هذه المرة لشيخ الأزهر تصريحه بأن الحجاب في فرنسا أمر داخلي, ويبدو أنه تعلم من خطئه عندما خرج أحد "مشايخته" بفتوى أن مجلس الحكم الانتقالي في العراق غير شرعي, لأنه معين من أمريكا, ولذلك لا يجب دعوته إلى الجامعة العربية, ثم تم التراجع عن هذا القرار في اليوم التالي؛ فقد كان مجلس الحكم الانتقالي برأي الأزهر غير شرعي أما حكوماتنا العربية والتي تنجح فيها الانتخابات بنسبة 99.9999999% فهي شرعية, والحمد لله أن عادت للمجلس شرعيته بعد أن زار العراقَ وفدُ الجامعة العربية, ونأمل أن يعود بعض الغواة إلى رشدهم, وهم أولئك الذين يجعلون من هوان صدام وهيئته الذليلة دليل على إذلال الأمة العربية متناسين أن الأمة العربية لم تكن ذليلة إلا على يد الجلادين من أمثال صدام, فهل ما يزال نفاق بعضهم مستمرا رغم سقوط الأصنام وتحطم الأوهام؟ أم أن في الأمر سذاجة بالغة؟
محزن حقا أن بعض طيبي القلوب تخفى عليهم هذه الألاعيب, فتتصاغر كل المصائب والويلات التي جرها صدام على شعبه وجيرانه في أعينهم أمام ما يرونه من أفعال للقوات الأمريكية في العراق, ومن ذلك ما أرسله أحدهم إلى بريدي الالكتروني وكان عنوان رسالته: هل يوجد ذلّ أكثر من هذا؟ وكانت الرسالة تحتوي صورة جندي أمريكي مدجج بسلاحه يطأ بقدمه محراب أحد المساجد في العراق, لكن السؤال: كيف غاب عن هذا الأخ المرسل أن الكعبة نفسها ليست أكرم عند الله من دم امرئ مؤمن؟ أم حلال على صدام أن يذبح شعبه وحرام على جندي أمريكي يرى أنه حرر هذا الشعب من ويلات صدام أن يطأ المسجد ليحرسه من بقايا وفلول صدام؟
ثم كيف يمكن أن نقنع الأمريكي المحرر أن مساجدنا حرام عليه, بينما هو قد رأى بأم عينه كيف استباح حاكم مثل صدام دماءنا وأبناءنا ورجالنا ونساءنا ومعابدنا ومساجدنا؟!
كان لدي حساسية عالية من الكذب والتمثيل وقتها, وقد رويت ذات مرة حادثة جعلت هذه الحساسية واضحة عندي أعيد ذكرها هنا على سبيل الطرفة, فقد حصلت حين كنت طفلة بعمر 5 سنوات عندما خطب أخي العائد من أوروبا إحدى الفتيات استجابة لرغبة والدتي دون اقتناع منه بالفتاة، وبينما أصرّ هو أنه لن يشتري سوى الخاتم؛ لأنه يريد أن يعرف الفتاة أكثر، ألحّ أهلها الحريصون على أخي لأخلاقه وسمعته أن يأتوا له بالهدايا كي يقدمها لابنتهم على "عيون الناس", وهذه العبارة لم أكن أفهمها بداية الأمر؛ لكنه لم يقتنع بالفتاة, لأنه تعلم في بلاد الغرب أن الفتاة ليست خصرًا نحيلاً أو وجهًا جميلاً فحسب، بل هي عقل وفكر وثقافة وشخصية، ولما لم يجد شيئًا من هذا عند تلك الفتاة أظهر رغبته بفسخ الخطبة، فوافق أهلها على مضض وأعادوا له الخاتم، ولم يعيدوا الهدايا، وبما أن الله حباني بملكة حب الاستطلاع منذ صغري، فقد سألت: لماذا لم يعيدوا باقي الهدايا وقد قدمها أخي؟ فقيل لي: لا.. هذه هم أتوا بها لكن قدمها أخوك على "عيون الناس"؛ ومنذ ذلك الحين لديّ عقدة اسمها "عيون الناس".. أقصد لديّ عقدة من النفاق والكذب والتمثيل والدجل!
ربما زادت هذه الحساسية مع تقدم السن, لدرجة أنني أجد نفسي غير قادرة على متابعة أي مسلسل أو فيلم من إنتاج عربي, بينما أستطيع ذلك أحيانا بالنسبة للمسلسلات والأفلام الأجنبية, وقد يكون السبب هو المقدرة العالية للمخرج الغربي الذي يستحوذ على المشاهد فيأخذه إلى دنيا الخيال السينمائي أو التلفزيوني التي تشبه الواقع إلى حد بعيد, كما قد يعود السبب أيضا إلى شخصيتي التي باتت تكره العيش في الخيالات والأحلام والأوهام بعد أن أدركت إلى أي حد مسفّ وصلت أمتنا العربية المسلمة بسبب النوم والعواطف واللاعقلانية التي كانت ديدننا عبر عقود طويلة من الجهل والتخلف والظلم والظلام.
أتذكر كل هذا الآن, وأنا أرى وأسمع هذه الضجة التي قامت بعد أن أعلن الرئيس الفرنسي شيراك منعه للحجاب في الحياة العامة بفرنسا؛ ويجب أن أذكر أولا أني محجبة عن اقتناع بأن حجاب المرأة لا يتعدى ستر ما تستره في صلاتها من جسدها بالكيفية التي تتماشى مع شخصيتها وعملها وثقافتها, لكنني لا أحبذ فرضه على أحد حتى لو كانت ابنتي, ولذلك لا أوافق بعض معارضي الحجاب تعميمهم الخاطئ حين يعتقدون أن الحجاب رمز سياسي أكثر منه ديني, دون أن أنكر أن هذا يحدث أحيانا لأن الدين كله يجيّش لصالح السياسة في مرات كثيرة, فلماذا لا يكون الحجاب كذلك؟ إذا كان تاريخنا يعج بويلات هذا التجييش كما حصل عندما رفعت الفئة الباغية المصاحف على السيوف كدليل أنها تريد الاحتكام إلى القرآن, ثم ما كان منها إلا أن احتكمت لمصالحها وليس لمصاحفها, فليس ببعيد أن يعتبر الحجاب رمزا سياسيا لدى بعض الجماعات الإسلامية؛ لكن ليس من الإنصاف أن تعتبر كل امرأة محجبة ذات غرض سياسي, أو أن حجابها أداة في يد الإسلام المسيَّس, إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
وقد بينت سبب قناعتي بالحجاب ( في تعليقي على الحوار الذي أجري مع د. نوال السعداوي ونشرته إيلاف سابقا ) وهو اختلاف فطرة الذكر عن الأنثى, والشيء الذي يمكن أن أضيفه هنا كرد على بعض مقالات وردت في إيلاف مؤخرا, هو أن الحجاب من الناحية الدينية فرض على المرأة المسلمة بأكثر من نص قرآني, بتسمية غطاء الشعر بالخمار كما في سورة النور (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن), وبتسمية ثوب المرأة الذي يستر جسدها بالجلباب كما في سورة الأحزاب:(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما). ومن الآية الأولى يتبين خطأ الفكرة القائلة بأن الحجاب فرض على الإسلام والإسلام لم يفرض الحجاب, ويستدل أصحاب هذه الفكرة بوجود غطاء الرأس في المجتمعات القديمة قبل الإسلام, وأن الإسلام أمر بتغطية أعلى الصدر فقط (وليضربن بخمرهن على جيوبهن ), أي أن تغطي المرأة نحرها التي كانت تبديه في الجاهلية مع جذور ثدييها, فهذا فهم مخلّ للآية لأن الإسلام عندما جاء كانت هناك ممارسات خاطئة لشعائر دينية مثل الطواف حيث كانوا يطوفون عرايا فيطوف الرجال نهارا والنساء ليلا, فأمر الإسلام بلباس الإحرام للرجل والمرأة على السواء, وبذلك حافظ على الشعيرة وهي الطواف ولكنه صحح من طريقة أدائها, كما صحح من وضع الخمار أو غطاء الرأس بأن يستر الشعر والنحر والمفاتن الأخرى أي كل ما يميز المرأة كأنثى, وليس في وجه المرأة الخالي من المكياج والمساحيق أي فتنة إلا ما ندر, لذلك فغطاء الوجه هو تقليد قبلي لم يأمر به الإسلام. أما الآية الأخرى فالخطأ الذي يقع به بعضهم هو فهمهم أن المقصود من تغطية مفاتن المرأة كان للتفريق بين الأمة والحرة, وبما أننا لم نعد في عصر الجواري فمعنى هذا أن حكم الحجاب بات منفيا من أصله؛ وقد فات هؤلاء أن الآية واضحة الدلالة (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين), والعبرة بعمومية المعنى لا بخصوصية السبب,& أي أن تعرف المرأة المتأدبة بهذا الزي من تلك التي شاءت أن لا تلبسه فجلبت لنفسها العنت من نظرات بعض الرجال الخبيثة أو كلماتهم المؤذية أو تصرفاتهم الماكرة؛ وأؤكد هنا أنه ليس كل امرأة محجبة هي محتشمة وكذلك ليست كل غير محجبة هي مبتذلة, لأن الحجاب ليس أكثر من مظهر قد يدل على الجوهر, وقد لا يدل عليه, ولكن كونه أمر من رب العالمين فيجب على المرأة المسلمة أن تطيع هذا الأمر الإلهي, ولا فائدة منه إذا لم يترافق مع حجاب التقوى؛ ولا أزال أذكر منظر تلك الفتاة التي غطت شعرها بإيشارب بينما ربطت خصرها بإيشارب آخر وأخذت ترقص على "الواحدة ونص" في قارب نهري في إحدى البلاد العربية, فهذه بالطبع لم تفقه الغاية من الحجاب. فغاية الحجاب تتبين في أنه لا بد لتلاقي الرجل مع المرأة في أي عمل إنساني أو اجتماعي أو حضاري أن لا يشوش دور المرأة كأنثى على هذا التلاقي, وهذا لا يكون إلا بفرض الحجاب الشرعي الذي يبرز مهمته وغايته, بأن يخفي مظاهر الفتنة المعبرة عن أنوثتها, ومن الطبيعي أن ما يدخل في معنى إبراز المفاتن أمر نسبي وله درجات متفاوتة, كما أن ما يدخل في معنى الافتتان بهذه المفاتن أمر نسبي أيضا, لأن طبائع الرجال تختلف وظروفهم التي تبعث على التأثـر وعدمه متنوعة, ونظرا لهذه الحقيقة التي لا مجال لنكرانها تضع الشريعة الإسلامية أحكامها لمعالجة الوقائع والكليات دون النظر إلى الفوارق النسبية في الجزئيات, وصفة كل القوانين هي الشمول والعموم, فمن أجل ذلك كان لا بد للشارع من أن يضع حدا لمعنى الحشمة المقبولة طبق الغاية التي شرعت من أجلها, ألا وهي أن تختفي المفاتن الغريزية عن أبصار الناظرين من الرجال فلا يستثيرهم شيء منها إلى تحرش أو إيذاء, ولا يبصروا من المرأة إلا ندا لهم في الخدمة الإنسانية وشريكا لهم في الجهود الاجتماعية.
بعد كل هذا الشرح الذي رأيت أنه ضروري في موضوع هام ومثير للجدل مثل موضوع الحجاب, لا بد أن القارئ يتساءل: ما العلاقة بين كل هذا وبين ما بدأت به المقال عن النفاق؟ العلاقة هي أني أرى في الأمر نفاقا واضحا في الحالة الفرنسية ويتضح أكثر في الحالة اليعربية؛ فبالنسبة لفرنسا يبدو جليا أنها حظرت الحجاب بعذر مواجهة التطرف, رغم مخالفة ذلك لحرية الإنسان التي قامت عليها الثورة الفرنسية لذلك أخطأت فرنسا بهذا القرار لأنه يطعن الديموقراطية في الصميم, ولا يتماشى مع مفهوم العلمانية التي تجعل الناس أحرارا في دينهم دون أن يدخلوه في سياسات الدولة, وقد عزا ستانلي كوهين اليهودي الأمريكي المدافع عن حقوق الإنسان هذا القرار إلى تأثير إسرائيل عليها؛ وأتفق مع أحد كتاب إيلاف الذي امتدح الفتيات الفرنسيات بخروجهن في مظاهرة ضد هذا القرار وكذلك النساء الأوربيات المسلمات وغير المسلمات بدفاعهن عن حق المرأة في اتخاذ اللباس الذي تريده, لكن السؤال المطروح: ما دخل بني يعرب في هذا الأمر؟ ولماذا وقف بعضهم ضد قرار شيراك ولم أسمع واحدا منهم وقف نفس الموقف من تونس مثلا؟ أليست تونس بلدا عربيا إسلاميا؟ فلماذا نعترض على فرنسا المسيحية وننسى تونس المسلمة؟ هل تاريخ فرنسا يحتضن آثار الحضارة الإسلامية أم هو تاريخ تونس؟ وهل فرنسا جغرافياً تمتد في خارطة بلاد الإسلام - رغم تاريخية المصطلح- أم هي تونس؟ و هل يوجد في فرنسا جامع القيروان الذي كان مركز إشعاع علمي وديني لقرون خلت أم هو في تونس؟ فلماذا حلال في تونس أن تُجبر النساء على خلع الحجاب بينما هو حرام في فرنسا؟!!
في تونس أجبرت طالبات ومعلمات وموظفات على خلع الحجاب بالقوة, واقتيد بعضهن إلى مديريات الأمن, وعوملن بقسوة, وأخذت عليهن التعهدات بعدم ارتداء الحجاب إذا أردن الاحتفاظ بمقاعدهن أو بوظائفهن, وفي بعض الإدارات التعليمية حولت الطالبات إلى مجالس تأديب تحت زعم أنهن يرتدين "الزي الطائفي" وتم تنفيذ التعليمات التي تنص على "العمل بكل حزم وصرامة على تطبيق التدابير لمنع ارتداء الأزياء ذات الإيحاءات الطائفية", مما دعا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن تصف في أحد بياناتها هذه الإجراءات بالتعسفية وطالب رئيسها مختار الطريفي بأن تكف السلطات عن إجراءاتها تجاه النساء المحجبات واحترام الحريات الشخصية, وضرورة إلغاء المنشور الإلزامي الصادر عن وزير التعليم العالي بمنع الحجاب في الجامعات والمعاهد.
فأي الفريقين أحق أن ينصح بالتراجع عن قراراته: فرنسا أم تونس؟ لذلك يحسب هذه المرة لشيخ الأزهر تصريحه بأن الحجاب في فرنسا أمر داخلي, ويبدو أنه تعلم من خطئه عندما خرج أحد "مشايخته" بفتوى أن مجلس الحكم الانتقالي في العراق غير شرعي, لأنه معين من أمريكا, ولذلك لا يجب دعوته إلى الجامعة العربية, ثم تم التراجع عن هذا القرار في اليوم التالي؛ فقد كان مجلس الحكم الانتقالي برأي الأزهر غير شرعي أما حكوماتنا العربية والتي تنجح فيها الانتخابات بنسبة 99.9999999% فهي شرعية, والحمد لله أن عادت للمجلس شرعيته بعد أن زار العراقَ وفدُ الجامعة العربية, ونأمل أن يعود بعض الغواة إلى رشدهم, وهم أولئك الذين يجعلون من هوان صدام وهيئته الذليلة دليل على إذلال الأمة العربية متناسين أن الأمة العربية لم تكن ذليلة إلا على يد الجلادين من أمثال صدام, فهل ما يزال نفاق بعضهم مستمرا رغم سقوط الأصنام وتحطم الأوهام؟ أم أن في الأمر سذاجة بالغة؟
محزن حقا أن بعض طيبي القلوب تخفى عليهم هذه الألاعيب, فتتصاغر كل المصائب والويلات التي جرها صدام على شعبه وجيرانه في أعينهم أمام ما يرونه من أفعال للقوات الأمريكية في العراق, ومن ذلك ما أرسله أحدهم إلى بريدي الالكتروني وكان عنوان رسالته: هل يوجد ذلّ أكثر من هذا؟ وكانت الرسالة تحتوي صورة جندي أمريكي مدجج بسلاحه يطأ بقدمه محراب أحد المساجد في العراق, لكن السؤال: كيف غاب عن هذا الأخ المرسل أن الكعبة نفسها ليست أكرم عند الله من دم امرئ مؤمن؟ أم حلال على صدام أن يذبح شعبه وحرام على جندي أمريكي يرى أنه حرر هذا الشعب من ويلات صدام أن يطأ المسجد ليحرسه من بقايا وفلول صدام؟
ثم كيف يمكن أن نقنع الأمريكي المحرر أن مساجدنا حرام عليه, بينما هو قد رأى بأم عينه كيف استباح حاكم مثل صدام دماءنا وأبناءنا ورجالنا ونساءنا ومعابدنا ومساجدنا؟!
التعليقات