عدنان فارس
&
&
&

سيطرة الدين على الدولة هي من قِيم وأخلاق العصور القديمة وهنا لا نعني ديناً بحاله وانما جميع الأديان، ولم يدلّنا التاريخ المليء بنماذج تحكّم الدين بمقدّرات الدول والمجتمعات على نموذج واحد في العدالة الاجتماعية واحترام الحقوق والطموحات الإنسانية... ناهيك عن العصور المظلمة الاوروبية التي اقترن ظلامها بهيمنة الكنيسة على الدولة، فلو قرأنا تاريخ و"واقع" الدول الإسلامية قراءة موضوعية، علمانية!، ابتداءاً منذ الدولة الراشدية ووصولاً الى الجمهورية الإسلامية في ايران ما كنّا لنرى يوماً عادلاً واحداً في تاريخ هذه الدول الممتدّ على مدى مئات السنين، وللإنصاف فإنّ انعدام العدالة الاجتماعية ليس رهناً بتحكّم الاصولية الدينية فحسب وانّما هو سمة أساسية لتحكّم وهيمنة بقية أنواع الاصولية السياسية التي ظهرت في القرن العشرين وأعني هنا الاصولية اليسارية والقومية.
فلو قارنّا بين نماذج تحكّم وهيمنة انظمة هذه الاصوليات الثلاثة، الدينية واليسارية والقومية، لرأيناها تلتقي في الكثير من نقاط الحكم الجوهرية مثل: مشيخة الاتجاه الواحد، عسكرة المجتمع، وحدة قوائم الممنوعات، التدهور الإقتصادي، تفشي الفساد الإداري، شحة الخدمات، المواطن من أجل الدولة والشخص غير المناسب في موقع المسؤلية....الخ، أمّا نقاط الإختلاف بين أنظمة الحُكم الاصولي فهي قليلة وشكلية. من هنا تبلور، كردّ موضوعي وضروري لتصحيح مسار النظام السياسي، نهج "الواقعية السياسية" الذي يقوم على نبذ بل ومُحاربة تحكّم الاصولية السياسية، بإنواعها الثلاثة، بمُقدّرات الدولة والمجتمع، هذا التحكّم القائم على التعسّف وسلب الإرادة ونهب الحقوق ومُصادرة الحريات العامة ومنها حرية الاعتقاد الديني، هذه ببساطة "العلمانية" التي عقائد المواطنين بدون تحيّز ولا تفضّل عقيدة على أخرى لكنّها تساوي بين جميع مواطني البلد في مبدأ حقوق المواطنة ولا تفرّق أو تفاضل بينهم على أساس العرق أو الدين أو الاتجاه السياسي "السلمي الديموقراطي".

البعض من الجهلاء، وهم كُثرُ في بلاد العرب والإسلام، يخلطون بين العلمانية والإلحاد على أنّهما واحد! الإلحاد يا سيدي الجاهل هو اعتقاد عمره آلاف السنين كما هو حال الإيمان، أمّا العلمانية فهي نهج أو توجّه سياسي، حديث نسبياً، يكفل ويصون حرية الاعتقاد دون تحيّز لعقيدةٍ ضدّ أخرى مادامت هذه العقائد لاتسيء أو تزعزع السلم الاجتماعي.
عندما يُحاجج الإسلاميون بأن من حقهم العمل في السياسة فإنّ هذا حقّ يقرّه ويكفله لهم النظام العلماني ولكنّ الذي يُثير حفيظة المنطق المُعاصر ويعرقل توجّهات التطوّر الحضاري والديموقراطي هو نواياهم المُعلنة لفرض أحكام الشريعة الإسلامية التي ليست فقط لا توفر حلاًّ لأبسط مشاكل المجتمع العراقي بل وإنّما تساهم في افتعال واختلاق مشاكل وهموم إضافية تستنفذ طاقات الناس والدولة في تأسيس مجتمع العدالة والديموقراطية. على الإسلاميين العراقيين التوّاقين للعمل في السياسة أن يتقدّموا ببرامج سياسية تخص أمور التنمية الاقتصادية وفق منطق العصر وتجارب الشعوب التي تحث الخطى باتجاه التطوّر والرُقي وإرساء الأسس السليمة للمنافسة السياسية ضمن إطارها السلمي الديموقراطية ونبذ أساليب المفاضلة الدينية والمذهبية في الكسب السياسي.
رغم أنّ الاحزاب الإسلامية العراقية دفعت الكثير وقدّمت العديد من منتسبيها شهداءاً في سبيل تخليص الشعب العراقي من نظام صدام وبعثه إلاّ أنّ أحداً لم يقرأ أو يسمع للإسلاميين رأياً أو يلمس لهم موقفاً، وقد سقط صدام، كما ينبغي وبالمستوى المطلوب أزاء الديموقراطية وحقوق المرأة والحقوق القومية!! بل على العكس من ذلك فإنهم يبشرون بالثورة الإسلامية ويتوعّدون بالصحوة الإسلامية، وما أسماء "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" و "حزب الدعوة الإسلامية" و "جيش المهدي"، إضافةً الى مُظاهرات "يا سيستاني سير سير وحنه جنودك للتحرير" إلاّ إيحاءاً بتلك النوايا وإنذاراً "بالفتح الإسلامي" الجديد!
نتمنّى على الأحزاب الإسلامية العراقية كأحزاب سياسية لها وزنها وتأثيرها الكبيرين أنّ تتبوّء دورها التاريخي في إقامة البديل "الحقيقي" لأنظمة التسلّط الفردي والفئوي وآخرها نظام صدام وبعثه وأن تعتمد أسس المُنافسة السياسية والاحتراف السياسي وليس الاعتياش والتكسّب على الدين والمذهب في بناء عراق حر ديموقراطي متطوّر يتعايش فيه مواطنوه بعيداً عن كُلِّ أشكال التمييز القومي والطائفي. كما نتمنّى على هذه الأحزاب أن تسهر على تربية منتسبيها وأنصارها على احترام التقاليد الديموقراطية للعراق الجديد ونبذ التعصّب الديني والفئوي وتحريم الولاء لغير العراق والحرص على مصالح الشعب العراقي "الحقيقية" في الديموقراطية وصيانة كرامة وإنسانية المرأة العراقية ومساواتها تماماً في كافة مجالات الحياة مع الرجل العراقي، وعلى هذه الأحزاب أن تقترح برامج التنمية الاقتصادية ومشاريع توفير الحقوق القومية بأرقى صيَغها القانونية والسياسية المُعاصرة. هل في هذا ضررٌ عليكم يا سادتي إسلاميي العراق؟ إن كان الجواب لا ليس في هذا ضررٌ عليكم، فهذه هي "العلمانية"!
لننبُذ الاصوليات السياسية، الدينية واليسارية والقومية، التي بطشت ولا زالت في بعض الأماكن تبطش بالتاريخ وبالبشر.