"إيلاف" - الشارقة:&قرر الصحافي المصري المعتزل السيد محمد حسنين هيكل أن يتحدث للأطفال واختار ابنة صديقه الصحافي اللبناني مصطفى ناصر، مستشار رئيس الوزراء السعودي- اللبناني رفيق الحريري، ونشرته صحيفة الخليج الصادرة في الشارقة والمقربة من النهج القومي الناصري.
وعن أولاده قال الصحافي المصري أنه قصد ابعادهم عن الصحافة رغم ان هذه المقولة مشكوك فيها لأن أحد أولاده سبق له الدخول في مشاريع اعلامية بمشاركة رجال أعمال سعوديين ومصريين كما يتردد.
ولم يعترف الكاتب الصحافي بتطورات الاعلام في المنطقة العربية ورأى ان صحافة الماضي التي كان يمثلها هي الأفضل حالا.
"ايلاف" تنشر نص الحوار نقلا عن الزميلة "الخليج"
كتب - مصطفى ناصر:
سبعون سنة فقط، فرق السن بين المُحَاوَر والمُحاوِر
الأول محمد حسنين هيكل، أكبر وأشهر من التعريف
الثاني صبيتي الصغيرة نور ذات الـ 11 سنة. تلميذة في الصف التكميلي الأول.
المكان: مكتب (دكان هيكل كما يسميه) الاستاذ في القاهرة.
هيكل وراء مكتبه، بكامل أناقته المعتادة،& ونور امامه على كرسي أطول منها.
مناسبة الحديث:
طلبت معلمة الصف من طلابها ان يُحضر كل& طالب ملفاً عن سيرة وحياة أي شخصية فكرية عالمية يعرفونها&& قراءة أو معرفة& فاقترحت نور الشخصية العالمية "عمو هيكل..".
وجاءتني مساء ذلك اليوم، تطلب ان أساعدها في الموضوع فسألتها، ماذا تعرفين عن الاستاذ هيكل يا نور؟
قالت: بابا، ألم يزر لبنان وزوجته تانت هدايت، ألم يزرنا في البيت مرات، ألم نذهب اليه في مزرعته ببرقاش وفي مصيفه في الغردقة، ألم يمسك يدي برفقة كلبه الأسود فارس، الا تملأ كتبه وصوره منزلنا..
قلت: بلى.
قالت: لماذا لا اجري معه حديثاً عن نفسه وأقدمه للمدرسة!
&ذهبت الى القاهرة، وتواعدنا ان التقيه في العزبة برقاش، على بعد (50) كلم من القاهرة.
كان يجلس بثياب الرياضة البيضاء، ونظاراته السوداء غارقاً في بحر من اشعة الشمس السمراء، تحيطه بحيرة من الزهور، وملفات وكتب وهواتف نقالة وثابتة وبعض شجرات المانغا والياسمين.& وترطب الاجواء حوله نافورة ماء، مزروعة بذوق الفاضلة زوجته.
* من زرع كل هذه الزهور بهذا الشكل الجميل الرائع؟
&ضحك، ورفع نظارته، وجلس يجول بعينيه على الزهور والورد وهو يشرح، انها (13) الف وردة قدمتها هدية للست بمناسبة عيد ميلادها قبل 3 سنوات وهو يصادف 13 ابريل/نيسان من كل سنة.
ثم عدنا الى لبنان وتفاصيل "بنك المدينة" والصحافة ومصر والعراق والسعودية وفلسطين وامريكا. وانا استطرد باجوبتي واسئلتي متهيباً رفض طلبي لنور ثم قلت: نور بتسلم عليك.
قال الله ينور عليها، اشمعنى نور وحدها والست والدتها واخواتها..
وكانت المقدمة.
فحكيت له قصة نور ومعلمتها ورغبتها ان تكسر قاعدة قراره بالابتعاد عن الاحاديث والكتابة الدورية، فأراني برنامج مواعيده وعليه 12 طلب حديث تلفزيوني وصحافي من جميع انحاء العالم وحتى من اليابان.. فقلت اعرف ولكن الاستثناء لا يكسر القاعدة ولا اعتقد ان هناك طلباً من طفلة اخرى، بل من صبية بعمرها ونور طماعة بعمو هيكل.
فقال هات نور لنتعلم منها كيف يفكر الجيل الجديد. وهكذا ذهبنا، قبل ان يغادر الى الصين والهند في زيارته الطويلة لاستكشاف ما يجري في ذلك العالم ليس هناك سؤال صغير، وآخر كبير، السؤال سؤال.
في المصعد، قالت لي: بابا انا خائفة وقلبي يرجف قلت لها هذا طبيعي.. ولكني اضطربت وقلبي عليها.
.. حين جَلَسَت امامه، جلستُ وراءها ارقب بقلبي وعقلي هذه التجربة امام هذا الكبير.
أشعل سيكاره، بعد انقطاع سنوات عن التدخين وبدأ يخفف من روع نور، ثم بدأ الحديث. لقد كان حالة نادرة من الابوة والتباسط والتحمل والحب، وبصورة لم اعرفها فيه من قبل. فقد عرفته& طويلا، دقيقاً وصارماً ومعلماً وحاداً في تعامله مع الآخرين من الصحافيين، الا انه مع نور، كان انساناً حاراً، تحمل منها مقاطعاتها واسئلتها وعفويتها التي جاءت كالتالي:
&حدثني قليلاً عن نفسك وسيرتك الذاتية؟
&كنا عائلة عادية معقولة، كان والدي متزوجاً من سيدة أخرى قبل أمي، جدي كان تاجراً، وتجار ذلك الزمان كانت احوالهم طيبة، وكان عنده اولاد من& زوجته الثانية. وفي العائلات المصرية القديمة، ككل اولاد البلد كان الابن الاول البكر يعمل مع ابيه والابن الثاني يعمل في شؤون الدين، والثالث في الوظيفة الحكومية. كان عندي أخ أكبر مني اسمه احمد وهو غير شقيق يعمل مع الوالد، وأخ ثانٍ غير شقيق اسمه مجاهد يعمل مع ابيه، وأنا اشتغلت قليلاً مع والدي ثم هربت الى الصحافة ووالدي لم يكن مقتنعاً بالكلام ده، أي الصحافة وقد اشتغلت وانا في الدراسة، وانا ما زلت ادرس وكان عندنا استاذ مهم اسمه (سكوت واطسون) غطى الحرب الاهلية في اسبانيا، وكان مهتما كثيراً بالحرب، وحضرته عدة مرات، وكان يقول للذين يريدون ان يتفرغوا للصحافة، ان يأتوه في (اجبيشن غازيت) وكان هو رئيس تحرير هذه الصحيفة الانجليزية المهمة يومها وذهبنا اليه اربعة شباب، الاول اسمه (رمسيس ناصيف)& واصبح سكرتير امين عام الأمم المتحدة (يوثانت) والثاني اسمه (مايك فانتس) ترك الصحافة الى العمل العام في شركة شل والثالث اسمه (يوسف صباغ) بقي معي في الاهرام وانا بقيت في الصحافة.
&هل تمنيت مهنة اخرى غير الصحافة؟
&كلا، انما عندما كنت صغيراً، أصغر منك، كنت اتصور اني ارغب ان اصبح طبيبا، اذ كانت بعض الصحف تنشر اعلانات عن بعض الادوية، يومها كتبت لائحة بالامراض والادوية لمتابعة الموضوع حين اصبح طبيباً، كان هذا لمدة سنة لكن الصحافة اخذتني. انا ذكرت لك (سكوت واطسون) لانه شجعني كثيرا.
&هل الصحافة مهنة متعبة او مريحة؟
&الصحافة متعبة ومريحة لو كنت كسلانة مثل كل مهنة& ممكن تكون مريحة للكسالى وممكن تكون متعبة جدا للذين يريدون ان يعملوا. انا اعتقد اني اعطيت حياتي كلها للصحافة.
&كونك صحافيا مهما جدا، لماذا لم تنصح احد اولادك ان يكون صحافياً؟
&انا قصدت ابعادهم عن الصحافة، واستعملت كل وسيلة استطيع ابعادهم عنها، لأنني شايف باكراً الصحافة في العالم الثالث داخلة في اجواء خشنة جداً بسبب طبيعة السلطة في العالم العربي.
كنت عايز ان يبتعد اولادي عن المهنة آخذاً في عين الاعتبار اني في عملي الصحافي جربت تجربة الحرب، وهي تجربة ليست سهلة ابداً وجربت تجربة السجن وهي تجربة مقرفة بالتأكيد. الصحافي في عمله يجرب كل انواع المعاناة، فالصحافة هي سجل يومي للحياة.
&ما هو دور المرأة في حياتك؟ خاصة زوجتك؟
&والدتي رحمها الله كان لها تأثير كبير في توجهاتي وزوجتي هي عامل وعنصر رئيسي في حياتي اعتقد انها اعطتني الارضية التي استطيع ان اقف عليها. لمعلوماتك هذه السنة في اكتوبر/تشرين الأول يكون قد مضى على ذكرى خطوبتي (50) سنة، نصف قرن نحن تقابلنا في اول مرة بتاريخ (8) اكتوبر/تشرين الاول سنة 1954 وتزوجنا يوم 27 يناير/كانون الثاني عام 1955.
&هل لا تزال تحبها كما من زمان؟
&اكيد احبها اكثر.
&ما هي اهم المراحل في حياتك الصحافية والانسانية؟
&اهم المراحل في اعتقادي، تجربة الحروب لاني غطيت الحروب، غطيت حرب العلمين، حرب فلسطين، الحرب الاهلية في اليونان قبل فلسطين 1946 وغطيت حرب مصدق في ايران (50 51) وغطيت الحرب الكورية، وفيتنام، انا اعتقد أن اهم تجربة في حياتي تغطية الحروب.
انا فاكر عندما كنت طفلاً، كان بواب عمارتنا، رجلاً اسمه حامد اعطاني فكرة عن الحرب وكان جندياً بالجيش الذي حارب في حرب القرم زمن الخديوي اسماعيل، وكان يحكي لي ان اهم الجنود هم الجنود الروس وهو كان ضدهم، لكن هي تجربة، وكنا يومياً عندما يأخذني الى المدرسة، كان يكلمني عن الحرب والجنود الروس& ومعاركه وكانت بداية اهتمامي بالحروب، وكانت تجربتي في تغطية الحروب اهم التجارب في حياتي، ممكن نقول كذلك ان تجربة السجن تجربة مهمة جدا، لانها تعلم بشكل غير طبيعي.
&انت تفخر بأنك دخلت السجن بسبب الصحافة؟
&طبعاً، انا دخلت السجن بسبب الصحافة، عمري ما هربت حشيش مثلا&&&& (يضحك هنا)
دخلت السجن بسب معارضتي لكمب دايفيد، بسبب كتاب اسمه حديث المبادرة ، وغيره.. السجن فيه خبرة.. انا قبل دخولي السجن كنت صحافياً مش بطال وكنت وزيراً، وكنت اقرب الناس لجمال عبد الناصر وبعدها فجأة ندخل السجن فنرى قاع المجتمع. فانت ترين قمة المجتمع في الصحافة، ثم فجأة تدخلين قاع المجتمع، هذه تجربة تعلم الكثير على المستوى الانساني. التجربة الثالثة، المهمة في حياتي هي تجربة الزواج والاسرة.
&كم كان عمرك يوم تزوجت؟
&كان عمري يومها 30 سنة ونصف السنة، أنا تأخرت في سن الزواج بسبب اني كنت لفترة طويلة مراسلاً متجولاً.
&هل اثرت الصحافة في حياتك الزوجية؟
&كلا، لأن زوجتي ببساطة كانت متفهمة جدا لظروفي المهنية. فهي كانت تقبل ونحن مخطوبان انشغالي الصحافي
&هل كانت زوجتك تعمل، حدثني عنها؟
&كلا، لم تكن تعمل، كانت شابة من عائلة تيمور، وهي عائلة& مصرية كبيرة، وكانت قد درست في مدارس فرنسية، ثم تفرغت للمنزل، بعدها بسنوات، ذهبت معي في زيارة للاندلس، ثم في زيارة للهند. وفي الاندلس& شاهدت الآثار الاسلامية بكثرة، كما شاهدت الآثار الهندية كتاج محل وغيرها واصبحت من المهتمات بالآثار والفتوحات الاسلامية، فقررت ان تدرس الآثار الاسلامية ولما لم تكن شهادتها الثانوية الفرنسية معترفاً بها في مصر اضطرت ان تدرس الثانوية العامة المصرية لتدخل الجامعة وهكذا دخلت كلية الآداب (قسم الآثار) وعملت معيدة ومدرسة في الجامعة وكانت تنوي دراسة الدكتوراه، لكن صداقاتي اضرت بها اذ ان& رئيس مجلس& امناء المتحف البريطاني (اللورد ترافيلين) اعطاها صندوق كتب ووثائق من باب المساعدة والاهتمام فارهقها فغرقت بمراجع البحث، كذلك في باريس، اظن ان اصدقائي اوصوا بها في متحف اللوفر، فاغرقوها كذلك بالوثائق والمستندات للدراسة، فتراجعت عن انهاء رسالتها.
&ماذا عن استقالتك من الكتابة، وهل يستقيل الانسان من حياته؟
&اولا انا لم استقل من الكتابة، كانت مقالتي بعنوان الاستئذان بالانصراف ، وقصدت انني اردت الابتعاد من المركز الى الحافة، لا اقدر ان ابقى مقيداً بموعد محدد للكتابة، الكتابة الدورية اقصد، كنت اكتب ثلاث مقالات دورية، الاول وهو ربع كتاب لمجلة وجهات نظر ، وهو كتيب صغير تقريبا، ومقال شهري للجارديان الانجليزية، ومقالة لوكالة أنباء في اليابان توزع على (2800) مطبوعة يجب ان اسلمها في (25) من كل شهر. ثلاث مقالات في كل شهر، كنت اعتقد انها قيد فظيع عليّ، يعني ان كل الذي قلته اني بعدت من وسط الطريق الى حافته، ومن الواجهة الى المؤخرة، وقلت اني سأنشر ملفات، ممكن انشر ورقي القديم.
&لكن الناس غير موافقين على موقفك واستئذانك؟
&افهم ذلك، لكن نفس الناس الذين يقولون الآن اننا غير موافقين على انك انصرفت، سيقولون لو بقيت سنتين او ثلاثاً وبدأ تأثير السن يبين علي.. هم اول ناس سيقولون الراجل ده قاعد يعمل ايه، اذ ان محبة وتقدير الناس لشخصي مسؤولية كبيرة على هذا الشخص، أي شخص.
ثمانون سنة، هي حقيقة الطبيعة، واي انسان ينسى الطبيعة وتأثيرها يعمل غلطة عمره. كثير من الزملاء يقولون الفارس لا يترجل والقلم لا يموت ولا احد يلغيه، لكن هناك قوانين الطبيعة على البشر اولا، لنأخذ السوابق، انا شخصيا شفت الكاتب (والتر ليتمن) وهو سيد كتاب القرن العشرين،& توقف عن الكتابة عند سن الستين، وقرر منذ عشرين سنة ان يكتب مرة كل شهر وهذا يكفي وفي عمر الخامسة والستين قال سأكتب عندما يكون عندي ما اكتبه حسب الحدث. انا جلست اكتب حتى سن الثمانين، كذلك انا شخصيا شفت تشرشل، اواخر سنوات عمره في مجلس العموم، وهو رئيس وزراء بريطانيا الذي قاد الغرب كله في الحرب العالمية الثانية للنصر، وبقي يعمل لغاية عمر ( 95)& لكن انا شفته وهو جالس في مجلس العموم& وفي عمر ال 95 تقريبا وكان متهدلاً وثملاً اغلب الاوقات وينام وهو جالس.. تشرشل كان بطلاً. انا كنت أحزن عليه عندما اراه، عامل السن وآثار الطبيعة حق لا بد منه لكن اريد ان اقول شيئا، الناس عند سن معين لا بد لاحكام الطبيعة ان تظهر من بعد السبعين على ما اعتقد وزمان كان من الستين، والخامسة والستين، يمكن ان تقولي، الحمد لله عندك صحة وتستطيع الكلام لكن بعد& عدة سنوات، سنتين او ثلاث ستبدأ بالظهور على الانسان اعراض العجز وربما الخرف وسيظهر ذلك في الكتابة. انا شفت في مصر كثيرين من الكتاب وغير الكتاب من لاحقته السنون ومن ظهرت عليه آثار العمر بشكل فظيع ولا اريد تكرار تجربة احد.
لندع رغبات المحبين ورغباتنا& الشخصية لكن فوق كل هذا هناك رغبات الطبيعة واحكام الطبيعة. المعدل العام في العالم المتقدم هو 78 سنة انا وصلت الى الثمانين، لا بد ان ارد نفسي بنفسي، المهم ان نقول الحمد لله اني وصلت الى هذه السن واني لم اخرّف ويكون عندك الشجاعة ان تواجهي نفسك باسباب الطبيعة وتقولي كفى.. طبعا ليس هذا هو السبب الوحيد للاستئذان الذي طلبته من المركز الى الحافة في شارع الكتابة هذا كفاية، لنأخذ بنفسنا ونبعد ونكتب عندما يكون عندنا جديد، وليس 3 مرات كل شهر.
&ما هي المنجزات الصحافية التي قمت بها على كافة الصعد؟
&انا اعتقد ان ال 11 كتاباً بالانجليزية وال 70 كتاباً بالعربية هي& اهم& ملامح حياتي العملية، 11 كتاباً في السوق العالمي وعندي كتب ترجمت ل 33 لغة في العالم وآلاف المقالات.. اذن اهم المنجزات الكتب. ثانيا اعتقد اني شاركت مع جيلي كله باننا عملنا نقلة في العالم العربي، من عالم متخلف بعيد عن الدنيا الى الدنيا. زمن عبد الناصر ربط مصر بالعالم العربي وربط العالم العربي بالعالم وبالعصر، وجيلنا كله شارك في هاتين المهمتين أي ان تربطي بلدك بمحيطها القومي وتربطي هذا المحيط بالعالم وانا شاركت بهذا.
&ما هي الصحافة؟ ما هي اهميتها في المجتمع؟ هل هي سلطة في خدمة الشعب او في خدمة الحاكم؟
&كل وسيلة اعلامية لها ثلاث مهام وليس اكثر. اولا ان تُعلِم القارىء، ان تخبر القارىء بما يجري حوله. ثانيا: ان تضع تحت تصرف القارىء شيئاً من العلم.ثالثا: ان تخفف عنه قدر الممكن وحتى ان تسليه.
وتختلف الوسائل، ففي التلفزيون التسلية اولا. الصحافة عليها ان تجعل القارىء على اتصال بما يجري بالعالم اولا.
&انت دخلت السجن من اجل العمل الصحافي؟
& كلا، كلا، هذه طبائع ظروف العالم الثالث. ففي العالم الثالث ونحن منه طبعاً، ممكن ان يكون الواحد اليوم وزيراً، وغداً سجيناً، على فرض ان الوزير يعني قمة المجتمع طبعاً هذا ليس صحيحاً.
والكلام في خدمة الشعب، وخدمة السلطة، كلام كبير جداً وأنا لا أحب الكلام المطاط والمطلق، هذا كلام تعسفي، الصحافة مادة& اعلام ومادة تعلم، بمعنى ان& أحاول قدر ما أستطيع ودون غلاظة أن أضع القارئ أمام مادة تعليمية. أقصد نضع الخبر ونحاول ترجمة الخبر للقارئ بما يعنيه هذا الخبر، وتحاولي التعليق على الخبر برأيك، وتضعي حول الخبر حواشي من مواد أخرى قد تهم القارىء.
أنت مسؤولة أمام جمهور واسع جداً، وليس امام كل الشعب. أنا أعتقد القول كل الشعب هذا تطاول، أمام الشعب هذه قضية كبيرة جداً، لو عندك مليون قارئ، فهذه فرصة هائلة لكن في مصر مثلاً، المليون يمثلون واحداً على سبعين.. يعني مش كل الشعب.
وعلى أي حال قد نستطيع بجزء من الشعب ان نؤثر اكثر، الصحافي مسؤول أمام قارئه بالدرجة الأولى، أنا ضد الكلام الذي يغلّف بالمطلقات، أنا في خدمة القارئ، ومهمتي أن أقدم له اخباراً صحيحة وكاملة، وأقدم أي مادة يمكن ان يستفيد منها، ثم عليك الا تجعليه يمل.
أما الكلام في خدمة الشعب وفي خدمة الأمة والسلطة وغيره، هذا كلام انشاء، يقوله اخواننا الصحافيون.. هذا ادعاء.
الذي يريد خدمة الشعب يطلع يشتغل في السياسة.
ربما تكون السياسة لانها العمل الموجه الى كل الناس، أنا عاوز أوصل لكل الناس، لكن أولاً الوصول الى قارئي، ليس من مهمة الصحافة أن تعادي السلطة مهمتك أن تنشري الحقيقة، واذا غضبت السلطة مش مشكلة.لأن مسؤوليتك أمام القارئ.
اخواننا الصحافيون يحاولون جعل الصحافة كهنوت وهذا ليس صحيحاً، الحقيقة أبسط من الكلام الصحافي بعناوين مجردة.
&ماذا تقول لجيلنا نحن عن الزعيم جمال عبد الناصر؟
&جمال عبد الناصر كان مواطناً قومياً عربياً شديد الايمان بأمته، قدم حياته وعمره كله لهذه الأمة، ومجرد أن تسألي عنه وأنت بهذا العمر، ومضى (34 سنة) على وفاته دليل على أهميته وأنت تتكلمين عن الرجل الأكثر شهرة والأكثر أهمية في تاريخ العرب في القرن العشرين.
علاقتي به، أول ما شفته كضابط في الفالوجة في حرب فلسطين، لقد رأيته يومها وأنا صحافي معروف وكان هو ضابطاً غير معروف، يعني عام ،1948 قبل الثورة ب 4 سنوات.
ثم التقيت به عرضاً عدة مرات..ثم التقيت به عن قرب في منزل محمد نجيب بتاريخ 18 يوليو/تموز عام ،1952 ونشأ بيننا حوار لم ينقطع الى حين وفاته.
بقينا صديقين بيننا حوار لا ينقطع، وبيننا اختلاف واتفاق لم يخرج للناس اطلاقاً، لكنْ بيننا ود واحترام وصداقة متبادلة لم تتغير طيلة هذا الوقت.
كان حظي كبيراً ان بقيت الى جانبه في أزمات فظيعة وفي انتصارات هائلة، وفي لحظات حزن وغم وأسى شديد لكن في صداقة دائمة.
&أنا معجبة فيك لكثرة تذكرك للتواريخ والتفاصيل؟
&خلّي بالك ان جزءاً من الصحافي ذاكرته.
&ما رأيك بالرئيس السادات، لماذا عقد السلام هل هو ضعف أم خيانة؟
&رأيي بالسادات انه انسان معقول جداً، انسان عادي لم يكن يحلم بالسلطة، وهو قد بذل جهده، وفي اعتقادي انه اخطأ في تقديراته عن السلام ولكن من الخطأ ان يُتّهم بالخيانة.
أنا في اعتقادي ان أنور السادات مشكلته في تصوراته السياسية، التي تشكلت قبل الثورة. تخرج في الكلية الحربية بعد أن درس فيها ستة أشهر فقط عام 1939 للالتحاق بالجيش المصري والانجليزي في الحرب العالمية الثانية، فلم يتح له أن يجلس كثيراً في الجيش في الكلية الحربية، عندما خرج من الجيش كان متأثراً كما جيله بأن هتلر سينتصر، والألمان، فدخل مع الألمان من الباب الخطأ، حيث عمل مع جاسوس الماني اسمه (ادلر)، وبهذا لم يكن خائناً، وكما كان الشباب المتحمسون في ذلك الوقت، متحمسين لهتلر وموسوليني، وبأن بيننا وبين الانجليز، آلياً عواطف شعبنا كانت ضدهم ومع اعدائهم يعني مع هتلر وموسوليني. أما ما قاد أنور السادات الى السلام مع اسرائيل فهو الاعتقاد الخاطئ الذي أصر عليه طوال عمره هو أن 99% من اوراق الحل بيد امريكا.
&هل عندك هنا صورة للسادات؟
&هنا كلا، فقط عندي صورة محفورة على الكريستال لجمال عبد الناصر. وتابع: أنا لا أعتقد ان أنور السادات خائن هو اجتهد وأخطأ، وأنا أعتقد أن خطأه الأكبر أنه أولاً غير مؤمن بفكرة القومية، هو محصور بفكره داخل الحدود المصرية وهذه مدرسة، نختلف معها أو نتفق. لكن لا يمكن تخوينها، واعتقاده بأمريكا لكن انور السادات كان يعتقد أن الحاضر بيننا وبين اسرائيل نفسي، وأن (70%) نفسي، هكذا أقنعه كيسنجر وأنا أعتقد أن هذا قاد العالم العربي كله الى كارثة لكن لا تستطيعين ان تتّهميه بالخيانة.
&أفهم منك انك كنت تحبّه؟
&لا، كنا صديقين في البداية، لكن حتى هذه اللحظة لا أصنف نفسي بين اعدائه.
&لماذا اعتقلك؟
&لأني اختلفت بالرأي معه، وعلى أي حال فقد كان هناك وقتها جمهور كبير يرى رأيه.
&ألم يكن هناك حرية رأي؟
&لا طبعا، لكن فين في العالم العربي هناك حرية رأي، ثم عليك ان تعلمي ان حرية الرأي دائماً عليها قيود مثلاً: اذا انت كنت صحافية امريكية فمن دون أن تقصدي ودون أن تختاري ستتبعين السياسة الامريكية، السياسة الامريكية فيها تشدك.
فأول قيد على حرية الرأي هو القيد الوطني، الوطنية من الأول تقيد رأي الانسان.الكلام عن الحرية المطلقة، هذا كلام غير صحيح، التحيزات تبدأ بالوطنية وتبدأ بالدين.
أنت تولدين في هذا البلد، وهذا الدين وهذا وهذا.. كلها تحيزات تبدأين حياتك& بها، وهي تحيزات مسبقة اذن أولاً عندك انحيازات مسبقة.
ثانياً: لينين عنده مقولة مهمة تقول: قل لي أين مصالح هذا الرجل أقل لك ما هي آراؤه. وأنا أعتقد بهذه المقولة. مصالحنا تؤثر فينا جدا ليس صحيحاً أن أحدنا عنده الحرية بالمطلق، علينا قيود، سواء بالميراث أو العقائد أو بالمصالح موجودة وتؤثر فينا.
حرية الرأي تقع بين مجالين مجال حرية الاختيار ومجال الانحيازات المسبقة التي تكلمنا عنها وهنا المشكلة.
&سئل الكثيرون عن لبنان، فقالوا انه بلدهم الثاني فما رأيك أنت بلبنان؟ ما هي أهمية ودور لبنان في العالم العربي؟
&يجب أن تتذكري ان النهضة العربية الحديثة فكرياً موزعة بين بيروت وبين القاهرة.
لبنان بلد مهم جداً باعتقادي، ثقافياً، وحضارياً بالضرورة، وأنا أتصور أن لبنان، يراه اللبنانيون بلداً مهماً، فكل بلد في الدنيا يؤدي وظيفة ودوراً، والغلط الأساسي الذي أدى الى الحرب اللبنانية الكارثة باعتقادي هو الخطأ في تحديد دور لبنان. لبنان ليس قوة. لبنان دور ووظيفة.
أنا سبق وقلت ان لبنان هو النافذة في جدار العالم العربي، وأنا لا أزال أعتقد بذلك.
أما عن صداقاتي في لبنان، فأخشى أن أنسى أحداً لكن يمكنني أن أقول انه عندي صداقات في لبنان أكثر من أي بلد عربي.
بعض الصحافيين اللبنانيين يتصورون اني عندما أتكلم عن دور لبنان وليس عن قوة لبنان أقلل من أهمية لبنان، وهذا ليس صحيحاً، بل انني اعتقد ان بيروت هي توأم القاهرة الحضاري في الأزمنة الحديثة، وفي وقت الكلام عن النهضة العربية فأنت تتكلمين عن بلدين بمنتهى الأهمية بالدور، وعن عواصم مهمة أخرى.
القاهرة، بيروت، بغداد، دمشق، الجزائر، الرباط والرياض..والباقي تفاصيل.
لبنان بالدرجة الأولى مش التجارة ولا القوة العسكرية، لبنان هو دور ثقافي، ويجب المحافظة عليه.
&من خبرتك الكبيرة في الحياة، ماذا تنصحنا أن ندرس لنساعد بلادنا؟
&أول حاجة من خبرتي، ألا أنصح أحداً. لأنه عيب أن رجلاً مثلي عنده 80 عاماً انصح ناساً عندهم 11 سنة.
أنا سأتكلم بقيم عصر، عصر ينتهي، وأنتم ستتكلمون بقيم عصر وضرورات عصر آخر ولا بد من أن تكتشفوها انتم بأنفسكم لكن المهم أن يبطل الجيل القديم الوصاية على جيلكم ولا ينصحكم.
ليأخذ جيلنا نصائحه في جيبه، أو يبلعها أو يضعها في حقائبه. لا تعيشوا عصرنا، عيشوا عصركم، وشوفوا أحواله وقيمه وظروفه، لأنه هو الذي ستعيشون به.
لو أنا قلت لك رأيي وقيمي وشعوري وتصوراتي أكون أكلمك عن عصري أنا. وهذا لا ينفع.
لا تأخذي نصائح أحد، كل النصائح مغلوطة.
&هل تتوقع السلام بين الفلسطينيين و الاسرائيليين ؟
&مع الأسف كل الذين يتكلمون عن السلام يتكلمون بتفاصيل الأشياء.
ميزة شارون في اعتقادي انه جاهز للتصريح برأيه في حقائق الأشياء حتى بطريقة جافة، هناك أرض واحدة، ووطن واحد، يتنازعه طرفان. والأرض لا يمكن أن تكون الا لطرف واحد، دائماً بالأساطير، يشبهون الأرض بالزوجة والشعب بالزوج.
هرتزل عندما جاء يتكلم بالدولة الاسرائيلية في نهاية القرن التاسع عشر، وُجدت جمعيات يهودية بدأت تتكلم عن فلسطين.
هرتزل هو الأب الفكري المؤسس للحركة الصهيونية، أرسل حاخامات الى فلسطين للاستكشاف فأرسلوا تلجراف له، وجاء فيه: العروسة جميلة جداً لكنها متزوجة. هناك أرض، أي زوجة، لكنها لا تستطيع أن تقبل الا زوجاً واحداً.
أنا أؤمن انه لا بد من معجزة ليعيش الزوجان مع بعضهما البعض. فوجود كل واحد هو انكار للثاني، لا ينفع تزويج أرض أي زوجة لرجلين، ممكن أن يخترعوا نظاماً آخر للطبيعة. لكن أنا واثق على المدى التاريخي الطويل بأن مشروع اسرائيل فاشل.
لست وحدي من يقول بذلك، هناك داخل اسرائيل من يرى مثلي ويقول به.
وهناك من يهود العالم ال12 مليون انسان منهم حوالي 4،5 مليون يهودي في اسرائيل حولهم 350 مليون عربي، أما ان الأقلية ضمن اسرائيل بالقوة النووية تتحكم بالعرب وتفرض عليهم الخنوع والسكوت، واما ان حقائق الأشياء وحقائق العدد تفرض نفسها على 4،5 مليون يهودي.
أنا غير مؤمن بأن سلاماً حقيقياً ممكناً مع اسرائيل بعقائدها وممارساتها كما نراها.أنا أظن بإمكانية التعايش وبعدها لندع التاريخ يفعل فعله.
ومن غير حرب، مش ضروري تحاربي.اما ان يأخذوا فلسطين كلها، أو أن يتركوا فلسطين كلها.
أنا ممن يقولون ان شارون هو من الناس الذين يتحدثون عما في قلوبهم وعقولهم في اسرائيل ولعله يدرك حقيقة الصراع، هناك مثله كثر في "اسرائيل".
أنا دائماً أقول اني أخشى في "اسرائيل" من حزب العمل "الاسرائيلي"، لأنه يلعب.
لكن الناس الذين أطمئن الى انهم يتكلمون الحقيقة هم اليمين لسوء الحظ& لأنهم يقولون ما يعتقدونه فعلاً.
أرجو أن تخبرني حادثة مضحكة أو محزنة لا تنساها؟
&عملت 61 سنة صحافة، صعب أن أتذكر لكن طبعاً، أكبر الحوادث تأثيراً، يوم وفاة جمال عبد الناصر، كنت حوله بغرفة النوم أحد أشخاص ثلاثة أو أربعة حين لفظ نفسه الأخير، مش ممكن أن تتصوري لحظة حزن أكثر من كده.
&
على هامش اللقاء
قالت نور لـ "عمو" هيكل:& أتذكر يوم زرتك في الغردقة مع عائلتي، وبعد السلام عليك وعلى "تانت" هدايت.
سألت بابا اين هو هيكل؟
فقال: هذا الذي قبّلناه هو هيكل.
فقلت: نحن ندرس في المدرسة ان هيكل هو الهيكل العظمي، طلع هيكل بشر مثلنا.
كان عمري يومها 5 سنوات
فأجابها الاستاذ هيكل:& عام ،1970 مرة في اسوان، خلال زيارة الرئيس اليوغسلافي تيتو، كنا في فندق اقامته ننتظر قدوم موكب الرئيس عبد الناصر.
فسألني ابني حسن وهو في الثالثة او الرابعة من عمره يومها اريد ان اسلم على الريس فقلت له بعد قليل يصل.
وبعد دقائق وصل موكب عبد الناصر وكان يتقدمه دراج طويل عريض له شوارب كبيرة ويرتدي قبعة بروتوكولية فصرخ ابني حسن أهو الريس اهو الريس. فقلت له كلا الريس في السيارة وعندما نزل الريس من السيارة حضنه وقال له ايوه يا حسن.
فقلت للريس، حسن كان عايز يشوفك.. فقال حسن: لأ انا عايز اشوف الريس.. واشار باصبعه الى الدراج الذي يتقدم موكب الريس.