عادل حوشان
&
&
&
جثث الفلوجة التي شاهدها العالم ممثلاً بها لأمريكيين قيل بأنهم مقاولون مدنيون لا تقل بشاعة عن ممارسات الجيوش المحتلة أو تهديدات البيت الأبيض الدائمة مثلما صرح المتحدث الرسمي للبيت الأبيض سكوت ماكليلان بعد أن وضعت الجثث على طاولته بأن :
" هذه الهجمات مروعة وخسيسة وبأن الجناة سفاحون ".
لنتفق أولاً على أن الحادث كان بشعاً إلى أقصى حدّ حيث لا يمكن لأي ديانة أو كائن بشري أن يقبل بهذا المشهد أو يقرّه لنبدأ بعدها في قراءة الملف.
مشكلة البيت الأبيض دائماً انه يرى العالم بعين محدودة الرؤية، ويبدو أن ملفاته العربية لا تزال ناقصة حتى الآن بدليل أنها لم تتجاوز محنة العراق وسياسة الشرق الأوسط الكبير.
القراءة السياسية للمجتمع العربي أصبحت مملة لنا على الأقل، ولم تعد تفي بالغرض الأمريكي حيث الملفات المكشوفة وشديدة الدقّة حسب مخططاته المُعلن عنها أو التي صرنا نفهمها دون إعلانات مباشرة، وأدخلت الشعب الأمريكي في كتيبة تدور العالم لتنشر الحرية بأخلاق عسكرية رغماً عنه.
وحتماً ستؤدي به إلى مثل هذه النتيجة التي شاهد بشاعتها العالم أجمع وتم رميها على أكتاف العراق عربياً وإسلامياً، العراق المُحتل.
وربما تتيح الفرصة للبيت الأبيض لينغمس أكثر في الملفات شديدة الدقة، لتنشر وزاراته العسكرية أسلحتها للقضاء على الإرهاب ونشر الحريّة، ورسم خرائط طُرُق وشرق كبير أو متوسط على الأقل!
الحرب على الإرهاب التي قَصُرَت عسكرياً على ثلاثة بلدان حتى الآن (إحداها بيد عمرو) كانت نتيجة طبيعية من وجهة النظر الأمريكية التي استطاعت تعريف الإرهاب بمقاييس تم حياكتها داخل البيت الأبيض، وبمساعدة أعضاء كونجرس يريدون غرس أنيابهم في اللحم العربي والإسلامي بأي ثمن، حتى لو كان الضحية أبناء الشعب الأمريكي.
وكان من الممكن أن تتغير الخطط تماماً بعد فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أو في العالم بعد فضيحة الملفات المتعاقبة لرؤساء مختلفين دون تحديد، لكن يبدو أن الدروس لم يتم فهمها جيداً أو تم فهمها بنفس مقاس المًخطِّط لها ونقلت إلى طاولة العمل على أساسات فهم خاطئة.
ويبدو أيضاً أن الشرق الأوسط، أياً كان مقاس ملفاته، أصبح صعباً ومُهدِّداً إلى درجة البشاعة، ويستوعب الدرس جيداً ويريد إفهام السياسي الأمريكي أشياء غابت عن ذهنه بصورة غير مباشرة.
درساً مدنياً في كيفية تحول القهر إلى مقاومة وإلى سلاح.
درس الحذاء العسكري والكرامة البشرية.
وكتاب العنف المضاد !
كان من الممكن لو أن أحد أبناء الفلوجة على نمط الرئيس المخلوع صدام حسين وأراد أن يعلن للعالم موقفه بقوة أن يقول عن الحادثة بأنها قانون (محاربة محاربة الإرهاب) لا تحدياً لدول الاحتلال بقدر ما هو بحث عن العدالة بمقاس يشبه المقاس الأمريكي!
الجريمة البشعة التي ارتُكِبَت في حق المقاولين الأمريكيين (التمثيل بالجثث) لاتقل عن الجرائم الصهيونية والأمريكية في العالم.
والإرهاب التي ارتكب ضد مصالح أمريكية ومدنيين أمريكيين في الحادي عشر، لا يقل عن الإرهاب الذي يُرتكب يومياً في شوارع فلسطين ومدن الطين في أفغانستان وأحياء الفقر في العراق.
فمهما كان مقاس ملف الإرهاب الذي حررته اليد الأمريكية ودوّنت كل مسوداته لتوزعها في الأمم المتحدة رسمياً وبالقوة فإنه قصر عن احتواء وجهة نظر شعوب لا تزال متضررة من مخالب إرهاب رسمية، وبأي حال من الأحوال فإن هذه الشعوب المُهمّشة والمقتولة ستدافع عن نفسها مهما كان الثمن، وربما تحاول أن تنقل رسائل لقوى الاحتلال أو لشعوب العالم بأبشع الطرق لعلها تصل أكثر وضوحاً.
من سينتزع منها هذا الحق؟ وتحت أي ذريعة؟ الإرهاب؟ ولماذا؟
هذه أسئلة إجاباتها لم تستوعبها الملفات التي وزعت على الأمم وخرجت من بيت أبيض.
وإلا لكانت وضعت نصب أعينها بأن الحرب على الإرهاب غير عادلة، وبأن أي ملف عن الشرق الأوسط الكبير يجب أن يحتوي على دراسات متعمقة تتناول الشعوب وعلاقتها بالأرض والكرامة والرفض.
لا أحد يكره أمريكا المدنية، ولكنه يكره اليد التي لوثتها ولوثت العالم معها من اليابان إلى فيتنام مروراً بما بعد أيلول الأسود، لتحول حياتنا إلى "أيلولات" أشد سواداً مما يصوره العالم في نقله الحيّ لنا.
الشرق الأوسط أعلن درسه في فلسطين منذ أكثر من خمسين سنة، ولكن لا تزال هناك سياسات عمياء تدار بالريموت لأجل مصلحة "شيوخ" يلبسون ملابس ملوثة بالاحتلال وانتهاك الحق ببشاعة لا تصدّق وتـقود العالم إلى العنف والدمار وتستنكر بدورها أن يدافع مدنيّ عن جثثه الممثل بها بالطريقة التي يراها ترفع كرامته من تحت الحذاء العسكري.
ولذلك من الأفضل للملف الأمريكي الكبير أن يتريث قليلاً قبل أن يخطو باتجاهنا ليبحث عن قاموس يحتوي على مصطلحات (الكرامة والعنف والحرية والشرف والحضارة والعلم والإيمان وقيمة الحياة والعدل).
عليه أن يفتح ملفات (الثقافة) في الشرق الأوسط وأن يتفحّص بدقة ملفاته السياسية التي فشلت في تطبيق خرائطها لأن عين العالم مفتوحة.
أن يرى الشعوب أولاً ليقف معها لا ليقف ضدها في لعبة مصالح أضرت أكثر ما أضرت بالشعب الأمريكي.
لعبة العالم العربي لعبة في منتهى الخطورة متى ما تجاهل أي ملف ثقافة هذا الشعب بعيداً عن موقف الكارهين له والراغبين في دفنه جماعياً دون جدوى.
الدرس الأول يبدأ بإزاحة غبار الجيوش لأن الموت لم يعد مخيفاً إلى هذا الحدّ، ريثما تكتمل الصفحة الثانية التي يجب أن تتمعن وتقرأ قبل تدوينها بالهوية والثقافة العربية، على الأقل بعد تفريغها من المواكب السياسية وأدوارها.
ترى هل سيتغير الملف قبل أن يلتهم العنف العالم ؟

كاتب وإعلامي سعودي
[email protected]