احتفل الأوروبيون في نهاية شهر أبريل الماضي بالانطلاق الأول لأكبر طائرة ركاب مدنية في العالم وهي الطائرة الايرباص A380..وبمجرد أن أقلعت الطائرة من ممر الإقلاع بمطار مدينة تولوز في جنوب فرنسا،اتصل الرئيس الفرنسي جاك شيراك بمجلس الوزراء تليفونيا واخبرهم بنجاح الإقلاع..فهلل الوزراء وصفقوا واحتضنوا بعضهم البعض فرحين بهذا الإنجاز..والحقيقة انه ليس مجلس الوزراء الفرنسي فقط هو الذي هلل وصفق..وإنما المواطن الأوروبي العادي أيضا شعر بالفرح والفخر بعد إقلاع اكبر طائرة في العالم بنجاح..والتي ستدخل الخدمة في منتصف العام القادم 2006..والتي ستشتري منها شركات الطيران العربية 53 طائرة وهو ما يعادل ثلث الكمية المنتجة خلال الفترة القادمة.

والى هنا والموضوع عادي جدا وربما تناقلته معظم الصحف ووكالات الأنباء العربية،وأذاعته أيضا الشاشات العربية الفضائية.

ولكن إذا وضعنا نقطة بعد الموضوع وبدأنا من أول السطر بخبر تناقلته أيضا بعد الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت يقول أن لجنة البحوث بمجمع البحوث الإسلامية قررت البحث في عدم صلاحية مشروب البيبسى كولا وحرمة تناول المسلمين له لاحتوائه على إحدى المواد المستخرجة من أمعاء الخنزير! بناء على طلب من الدكتور مصطفى الشكعة عضو المجمع لمناقشة هذا الموضوع وإدراجه على جدول أعمال اللجنة التي من المقرر أن تعد تقريراً فقهياً يرفع لمجلس المجمع لإصدار فتوى جواز أو حرمة تناول هذا المشروب..!

هنا يصبح الموضوع غير عادي وجدير بالحديث عنه.

فلا يخفى على معظم الناس أن السادة العرب من الأصوليين يشنون حملة ضارية منذ سنوات على مشروب البيبسي كولا والكوكاكولا،طبعا باعتبارهما مشروبات غريبة وصناعة أميركية يجب مقاطعتها بسبب ما تفعله أميركا في العراق وفي فلسطين من تأييد لليهود،ولكن الأمر تطور بشكل كبير واصبح موضوع مقاطعة البيبسي والكوكاكولا على أجندة عمل الأصوليين الاقتصادية وفي مقدمة الأولويات..وأنا شخصيا تلقيت العشرات من رسائل الإنترنت تحمل تقارير علمية تؤكد أن البيبسي والكولا لهما تأثير على المخ والعظام والأسنان والنمو وتؤدي إلى السرطان وفقر الدم والفشل الكلوي وربما العمى والشلل والموت الدماغي..!!

وطبعا هذه التقارير صدرت في إطار الحملة القومية لهز عرش أميركا الاقتصادي والانتهاء من سطوتها وقتها الاقتصادية في العالم...!! ووصل الأمر إلى توبيخ ابنتي في المدرسة لأنها أحضرت معها علبة بيبسي وشربتها في حوش المدرسة..وطبعا اللوم كان من مدرس اللغة العربية الملتحي.

وبعودة سريعة إلى قصة الطائرة الايرباص الأكبر في العالم التي انطلقت الشهر الماضي سنجد أن تصنيع هذه الطائرة لم يأتي مصادفة..ففي عام 1960 أي منذ 45 سنة رأت الدول الأوروبية أن مصنعي بوينج ومكدونالد دوجلاس لصناعة الطائرات يسيطران على سوق تصنيع وبيع طائرات الركاب في العالم،وان أوروبا بعيدة تماما عن هذه الصناعة إلا ببعض الطرازات الصغيرة التي لا تشكل أهمية كبرى في هذا السوق،وفي هذا العام بدأت فكرة اشتراك أوروبا الغربية في إنشاء مصنع للطائرات يقف أمام السطوة الأميركية والسيطرة على هذه الصناعة المهمة في العالم،واجتمعت كل من فرنسا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا لبحث تكوين الشركة،وبعد مداولات ومباحثات انسحبت بريطانيا،وأكملت بقية الدول تنفيذ الفكرة بإنشاء شركة أوروبية تقوم بتصنيع الطائرات أسمتها إيرباص..وفي عام 1970 تم إنشاء الشركة..وبعد ذلك بعامين ظهرت أول طائرة إيرباص من طراز A300 ودخلت الخدمة عام 1974 ولم تحظ الطائرة بالإقبال في سوق صناعة الطائرات ويمكن أن نقول أنها فشلت..ولكن ظلت أوروبا مصرة على المنافسة إلى أن ظهرت الطائرة الايرباص من طراز A320 التي أحدثت ثورة في العالم بسبب التكنولوجيا المستخدمة في تصنيعها..فقد عرفت أوروبا أنها لن تنجح بتقليد طائرات مثل البوينج،فجمعت العلماء لبحث تطوير تكنولوجيا صناعة الطائرات إلى أن ظهرت هذه الطائرة عام 1981..وكانت إنجلترا قد عادت وانضمت إلى الشركة عام 1977.

وظلت مسيرة التطوير والمنافسة وابتكرت أوروبا الطائرة الكونكورد التي كانت أسرع طائرة في العالم (أسرع من الصوت 1.7 ماخ) وعندما توقفت الطائرة منذ عامين بسبب حادث في فرنسا حزنت أوروبا ولكنها أكملت مشروع اكبر طائرة في العالم التي انطلقت الشهر الماضي..متفوقة بذلك على شركة البوينج التي كانت تنتج الطائرة العملاقة (جامبو 747).

وليست المنافسة في الكبر فقط..ولكن إيرباص تمكنت من أن تصبح الشركة الأولى في تصنيع الطائرات في العالم،وفاقت مبيعاتها مبيعات شركة بوينج في العالم العام الماضي فقط،وهنا ثارت أميركا وهاجت وماجت وهددت الاتحاد الأوروبي الذي يدعم شركة إيرباص،وهددت بفرض حظر اقتصادي على شركة الايرباص،ولكن تهديداتها ضاعت في الهواء أمام التطور الأوروبي الخطير الذي غير شكل الطيران حجما وتكنولوجيا في العالم.

وكانت الطامة الكبرى أن بعض الشركات العالمية قررت تغيير أسطولها بالكامل من بوينج إلى إيرباص،وباعت طائراتها البوينج في سوق الطائرات المستعملة..وتعاقدت مع الايرباص لشراء أسطول جديد.

وكما قلت سابقا أن ثلاث شركات طيران عربية سوف تشتري 53 طائرة من الطراز الجديد..وسعر الطائرة الواحدة 285 مليون دولار..وبحسبة بسيطة سنجد أن الشركات العربية ستدفع 15 مليار و105 مليون دولار مقابل هذه الطائرات..!! هذا بخلاف الطائرات من الطرازات الأخرى التي تشتريها أيضا من شركة إيرباص.

ومعلومة أخيرة أن الطائرة الأوربية يتم تصنيعها في أربع دول أوروبية ثم يتم نقلها وتجميعها في فرنسا حيث المحطة الأخيرة لإنتاج الطائرة.

وإذا توقفنا قليلا عند طريقة المقاومة التي انتهجها الأوروبيون في مواجهة الهيمنة الأميركية..وعند الطريقة التي ينتهجها العرب في مقاومة نفس الهيمنة سنعرف أننا سنظل نقاوم قوى الغرب الغاشمة كما نسميها في لفترة زمنية تمتد طوال عمرنا..فبينما العالم يتغير..والناس تصنع أقدارها..ونحن ننتظر أقدارنا.

أتمنى من مجمع البحوث الإسلامية أن ينتهي سريعا من البت في البحث الخاص بتحريم البيبسي والكوكاكولا..حتى يتفرغ للنظر في تحريم الهامبورجر والناجيتس والكاتشب وصدور الكنتاكي الزينجر والعادي (الثلاث قطع والخمس قطع والحجم العائلي) فأنا في انتظار الفتوى على أحر من الجمر..أو على أحر من الزينجر...!!

وليد حيدر

كاتب وصحفي مصري

[email protected]