اطلبكم المعذرة... سأتوقف اليوم عن كتابة الخاطرة السابعة، لأحدثكم عن مدارس الكآبة.

المعروف أن المدارس الخاصة في أي مكان من العالم تقدم خدمات تعليمية وتربوية وترفيهية أحسن بكثير مما تقدمه المدارس المجانية. خاصة وان المدارس هنا في المملكة يتم دعمها من الحكومة اضافة الى ما يقدمه الآباء من اموال كرسوم دراسية مقابل تدريس ابناءهم في المدارس الخاصة على امل ان يجدوا منشآت افضل وخدمات ارقى وتعليم يتناسب وحجم الاموال المدفوعة لاصحاب المدارس الخاصة.

لكن بعض اصحاب المدارس الخاصة لايزالون يعتقدون ان المتاجرة بالتعليم كالمتاجرة في السوبر ماركت او في صوالين الحلاقة ومحلات بيع السباكة والكهرباء وغيرها. والأغرب ان المشرفين على المدارس الاهلية في ادارات التعليم لا يمتلكون الفكر التربوي والتعليمي الذي يجعلهم يمنعون اصحاب المدارس الخاصة من التعامل مع المدارس والتعليم كمهنة تجارية بحتة.

سأشتكي لكم معاناتي مع المدارس الخاصة في ابها التي يدرس فيها أبنائي، رغبة في تعليم أجود وتربية أفضل وجو مدرسي مناسب. حيث لم اشعر يوما ان هناك أي اشراف او متابعة من قبل وزارة التربية والتعليم على المدارس الخاصة خلال ما يقارب ثلاثة عشر عاما منذ ان كان ابني الاول يدرس روضة حتى وصل المرحلة الثانوية هذا العام الى ان التحق الثاني، فالاصغر الذي التحق بالصف الاول قبل اسبوع. وكل ما شاهدته وعرفته خلال السنوات الماضية هو بعض الزيارات البرتوكولية لمدراء التعليم بمنطقة ابها المتلاحقين، حيث يحضر مدير التعليم الى تلك المدارس الخاصة بدعوة من اصحاب المدارس ويخرج وكأنه لم يشاهد شيئا يخالف ابسط الشروط لبناء مدرسة عادية، فكيف اذا كان في حضرة مدرسة خاصة تأخذ من اموال الناس الكثير اضافة الى الدعم الحكومي، مقابل خدمة تعليمية متواضعة في مباني مستأجرة وغير مهيأة على الاطلاق لكي تكون مدارس، اضافة الى وجود معلمين قليلي الخبرة من أولئك الذين لم يجدوا وظائف فالتحقوا مؤقتا بالمدارس الخاصة ريثما يجدون وظائف رسمية، ومعلمين من بعض الدول العربية بعضهم اتى لممارسة اعمال لاعلاقة لها بالتعليم ووجد وظيفة في المدرسة الخاصة.

والمحزن انني طوال الاعوام الماضية اقرأ في اللوحات المدرسية المعلقة خطابات الشكر والثناء من مدراء التعليم لما شاهدوه في تلك المدارس المستأجرة من ازدهار وتطور عكس ما يجب ان يمليه الضمير والمصلحة الوطنية العليا.

لن اسرد لكم ما عانيناه مع هذه المدارس الخاصة خلال تلك الأعوام.

لكنني فقط سأحدثكم عن شكل المدارس التي يدرس فيها أبنائي وعن الأيام الأولى من بداية العام الدراسي الذي بدأ منذ أيام قليلة وخاصة لطلاب الصف الأول الذين تم استقبالهم ببرنامج تهيئة كما يقولون كي ينضموا إلى المدرسة بروح محبة للدراسة.

طبعا كل المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مباني مستأجرة كانت أما منازل أو إدارات حكومية. ولكل مدرسة حوش (فناء) مغطى بالازفلت الأسود الذي يغطي الشوارع أو ما يسميه البعض (بالزفت ) وهو زفت حقا !!

المدرسة الابتدائية : كانت في مبنى مستأجر خلال الأعوام الماضية اغلبه مغطى بالهنقر (الأسقف الحديدية المستعارة ) ثم انتقلت هذا العام في مبنى كان مؤجرا لإدارة الدفاع المدني.

ملعب كرة القدم : هو الوحيد في جميع مدارسهم الذي يستطيع الطلاب ممارسة الرياضة فيه. لكنها رياضة تجعل من الطالب أما صخرا أو معاقا. الملعب في جميع المدارس مساحة صغيرة مغطاة بالازفلت (الزفت حقا) وسطه حفره وإطرافه مرتفعة، فإذا سقط الطالب مرة فلا بد أن يبات ليلة أو ليلتين في المستشفى.

وكنت أتمنى أن يبعث الاتحاد الدولي لجنة لمشاهدة ملاعب مدارسنا الخاصة كي يتم استنساخ هذه التجربة في ملاعب العالم الكروية لتصبح مثل ملاعب مدارسنا الخاصة في أبها ( حفرة في الوسط وأطراف ملعب مرتفعة وأرضية من الزفت الجامد ) فلربما تصبح تجربة رائعة رائدها صاحب تلك المدارس الخاصة الذي أراهن على انه لا يفقه في أهمية التعليم أكثر مما يفقه عامل مطعم فول في التعليم ذاته.

في اليوم الأول من بداية العام الدراسي الجديد : حضر الآباء مع أطفالهم الصغار إلى حيث هيأت المدرسة مكانا خاصا لاستقبال الآباء والطلاب المستجدين.( وكم أتمنى لو يحضر مراسل إيلاف النشط جدا والمبدع الصحافي اللامع سلطان القحطاني بكامرته الجريئة كي يصور مواقع تلك المدارس الخاصة بملاعبها الدولية الجديدة ).

حضرنا جميعا... تحت سقف مفتوح من الهنقر (الأسقف المستعارة) على ثلاث قطع من الموكيت المتسخ جدا الذي يغطي بعض المساحة من ذلك الازفلت (الزفت حقا) وبضعة كراسي. جلس بعض الآباء على الكراسي وبعضنا ظل واقفا، وقالوا للأطفال اجلسوا على الأرض فوق الفراش المتسخ.

آباء : مكتئبون...

مدرسة : كئيبة..

أطفال : مكتئبون..

معلمون : يائسون... ومكتئبون.. وكأن على رؤوسهم الطير..

تحت سقف مستعار.. على فراش متسخ.. فوق ازفلت.. زفت.. قبيح..

وقف الآباء يشاهدون أكبادهم.. عفوا.. أطفالهم.. وسط جو مليء بالكآبة... وعندما قال المعلم لطفلي اجلس يا نضال مع زملاءك على الأرض.. رد عليه نضال قائلا : لا... ثم التفت إلي نضال وقال دعنا نعود يا بابا إلى البيت... وعندما يبدأون الدراسة الحقيقية سآتي.

وكنت خائفا جدا.. أن يكره نضال المدرسة منذ اليوم الأول بعد أن هيأناه لدخولها منذ سنة. حيث كان يدرس في الروضة تلك التي تشبه معتقلا صغيرا للأطفال !!

وحضرنا.. اليوم الثاني.. والثالث.. والرابع.. من أسبوع التهيئة،وإذا بجو الكآبة يتكرر.. والفجيعة تكسو ملامح الأطفال الغضة.

وكل يوم احضر مع نضال في الصباح الباكر.. نقضي دقائق معدودة ثم يقول لي نضال دعنا نعود إلى البيت يا بابا...

وعندما أقول له لماذا : يقول لي.. طفشت.. ملل !!

وينتظر الأطفال كل يوم من يبث في أجواءهم الفرح.. والبهجة.. والمرح..لكنه لا حياة لمن تنادي، وليس لهم من حظ سوى التأمل في سقف الهنقر المعلق ولون الازفلت الأسود الزفت.. وحولهم معلمون مكتئبون كأنهم في ساحة معركة وليس في فناء مدرسي طفولي !!

ذهبت إلى المدرسة الثانوية لمشاهدة المبنى قبل الدراسة بيوم ثم هاتفت مدير المدرسة.. قلت له :

كيف ترضى أن يلعب الطلاب على الازفلت ؟

لماذا لم ترفض أن تدير مدرسة خاصة لم تستوعب شروط المدرسة العادية ؟ وقد كلفت بأمانة الإدارة ومسئوليتها.

أنت لست موظفا عند مالك المدارس الخاصة.. وإنما معين من قبل وزارة التربية والتعليم.

قال لي : رفض صاحب المنزل المؤجر أن يعمل لنا ملعبا.

قلت له : وهل صاحب المنزل المؤجر هو من يحدد مصير التعليم لابناءنا ؟

ثم تحادثت عبر الهاتف مع مدير التربية والتعليم بالمنطقة... قلت له :

هل زرت منشآت المدارس الخاصة في أبها ؟

قال : لا... كونه حديث التعيين.

قلت له : نحن ندفع من أموالنا كي يدرس أبناؤنا في المدارس الخاصة، وهذا شيء يجب أن نشكر عليه لأننا نساعد الوزارة حينما لا نرسل ابناءنا إلى مدارسها... فلم لاتساعدونا وتمنعوا أصحاب المدارس الخاصة من استئجار مباني لا تصلح أن تكون مدارس كي يتم حشر أطفالنا وكأنهم في ثكنات عسكرية داخل منشآت لم يتم بناءها لتكون مدارس ؟

ووعدني مدير التعليم بزيارة تلك المدارس، وأنا سأعدكم بأنني سوف أخبركم في احد الأيام انه لم يتغير شيء!

أحدثكم بكل صراحة الحزن والمرارة..

إن هذا العام الدراسي بدأ كئيبا ككل الأعوام السابقة..

مما أشعرني بأنه سوف يتخرج في الأعوام القادمة الآلاف من الطلاب المكتئبين وسط مباني مستأجرة وموحشة وتحت تأثير معلمين لا يبعثون على الراحة، ناهيكم عن الكتب الكثيرة التي لا داعي لكثرتها حينما تكون الكمية أهم من النوعية.

كتب : تكسر الظهور... ولا تفتح العقول.. ولا تنتج إبداعا سوى إبداع الكآبة !

حينها : لا يلام المكتئب.. لو اختار الانتحار وسط الشوارع... بالشنق.. أو بالحزام الناسف.. أو داخل سيارة مفخخة !!

المدرسة : هي المكان الذي تنطلق منه الأجيال كالعصافير المغردة..

أو الوكر : الذي تنطلق منه الوحوش المتعطشة للموت..

نحن الذين : نختار نوع المدرسة..

أما... مكانا لانطلاق العصافير المغردة... أو وكرا لانطلاق الوحوش المتعطشة للموت.

وعندما تكون المدرسة : مبنى كئيبا.. وفناء (كالثكنة )..

ومعلما : متوترا... ومتلهفا.. لاحتضان براءة الأطفال كي يغير ملامحها وسط الثكنة..

فلا تستغربوا : لو كرهنا العالم كله... ولعنا اللحظة التي ترقص فيها الوردة تحت أشعة الشمس..

بل : لا تستغربوا لو كرهنا لون الوردة.. وصوت النغمة.. وجمال اللوحة..

وســــــــــــــــــــــــــــــط المدرسة الكئيبة !

أرجوكم... لاتغضبوا علي..

وارحموا..حزني.. وكآبتي.. وانفعالي..

اعذروني...

إن بدأ الصواب يفقد عقله..

أو..بدأ العقل يفقد صوابه...

إن أقسى لحظة علي...

أن ارى براءة طفلي تموت منذ اللحظة الأولى في اليوم الأول من المدرسة..

والمح في عينيه.. حزنا.. يعبر عن ضياع الحلم...

قبل أن تتشكل كل ملامح ذلك الحلم في عينيه البريئتين...

إنها.. أيها السادة... مدرسة خاصة

وحرام.. أن يتعلم فيها الموسيقى..

أو ينشد للربيع.. و للعصافير.. وللأزهار.. والمطر..

وعليه.. أن يستمع إلى صوت المعلم الجهوري ذلك الذي يتحدث اليهم بما يشبه صوت المعركة.

وعلى الطفل : أن يعتنق الكآبة..

تخيلوا : طفلا يعتنق الكآبة...

ياللحزن.. يا للألم.. ياللقهر الشديد !!

سالم اليامي [email protected]