إلى مجدي خليل
من الواضح أن الديمقراطية ليست مجرد الذهاب إلى صناديق الاقتراع ولا يمكنها أن تختزل هكذا إلى ممارسات شكلية مجردة من آليات إجرائية وعملية. الديمقراطية قبل كل شيء هي معرفة العالم مع كل ما تحمله هذه الكلمة من حمولة حضارية وثقافية. وبمجرد الحديث عنها تتبادر إلى الذهن جملة من المفردات أبرزها الحريات العامة والخاصة التي أبدع العقل الأوربي في إنتاجها في عصر الأنوار الذائع الصيت. إن إنتاج منظومة من القيم المتصلة بالديمقراطية تفترض بنى منعزلة عن قيم العشيرة والقبيلة التبعية والمرجعيات الدينية والى ذلك من القيم التي تحط من المبادرات الفردية والاستقلالية على أكثر من صعيد، ثم أن الديمقراطية لا تعمل بصورة فاعلة في المجتمعات الأبوية التي تولي أهمية للأب التاريخي والزعيم المناضل وما إلى ذلك. بعد هذا المسرد لابد من الحديث عن تجارب واقعية في منطقتنا الشرق الأوسطية والانتقال إلى المشروع الأمريكي للديمقراطية وتراجعه المأساوي بعيدا كل البعد عن خلط المعرفي بالأيديولوجي.
جاء الحديث عن دمقرطة المنطقة تحديدا بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، ولتطبيق آليات عمل الديمقراطية فكر الأمريكيون بضرورة إقصاء الأنظمة الاستبدادية التي ndash; حسب رأيهم ndash; تشكل العائق المحوري للدخول إلى نادي الديمقراطية، وقد تكلل هذا الجهد بالهجوم العسكري على أفغانستان بداية بوصفها مرتعا للاستبداد والقمع، وكانت النتيجة أن أبعدت طالبان من الواجهة وطردها إلى المناطق الجبلية النائية علما أنه كان بين الطرفين ndash; الطرف الأمريكي والأفغاني آنذاك ndash; quot; صفقة quot; سياسية لمحاربة السوفييت وطردهم من البلاد، لكن نسي الأمريكيون فكرة مهمة بأن طالبان لم تكن حركة وطنية مثلها مثل الحركات الإسلامية المتشددة التي لها طابع عولمي وتعتبر عقيدة المسلم وطنا له، لهذا السبب تجد بين صفوف طالبان من كل حدب وصوب من بقاع العالم الإسلامي. صحيح أن التجربة لاقت بعض النجاح النسبي، وهذا بالطبع يعود بالدرجة الأولى إلى الإمكانات العسكرية الهائلة للقوات الأمريكية والغربية التي تسعى دائما إلى ضبط الأوضاع بالقوة أولا ثم الانتقال إلى مرحلة بناء مؤسسات الدولة الرسمية، بالطبع هذا ما حدث أثناء استسلام اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ومثلها ألمانيا، لكن في هذه المرة اختلف الوضع وأفغانستان ليست اليابان ولا ألمانيا. quot; النظام الديمقراطيquot; القائم في أفغانستان تحرسه البنادق وليست الإرادة الشعبية ndash; كما في تركيا - و الغالبية القصوى من الأفغان ترى في الديمقراطية صنيعة غربية أمريكية، صنيعة تصطدم بمنظومة قيمية إسلامية، وما أن يزال حكم البنادق حتى ينهار النظام ويعود كل شيء إلى حالة كما كان في السابق،ولا بد في هذا الصدد ذكر هذا الحدث المؤثر حين أراد أحد المواطنين تغيير دينه مما حدا بمجلس الشورى التابع للحكومة الأفغانية الراهنة بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بقتله بوصفه مرتدا طبعا أمام ذهول وصدمة الحكومات والمجتمعات الغربية، والرجل اضطر في اللحظة الأخيرة إلى مغادرة البلاد خوفا من إعدامه، وبدأ الأوربيون حينها يتساءلون عن جدوى الديمقراطية في بلد عاش في ربوع ثقافة مختلفة تماما فوق وديان وجبال طورا بورا، ثقافة ضاجة بقيم البداوة والانغلاق الديني والاجتماعي، بلد أرهق سكانها وسط نزاعات طائفية قبلية.
والحديث عن الواقع العراقي يثير شجونا وألما أمام هذا العنف والقتل الطائفي المدمر الذي لا مثيل له في تاريخ العالم، إذ كان من المفترض أن لا يحدث كل ذلك بعد كل هذه quot;المسيرة الديمقراطية quot; لكن يبدو أن ثمة مشكلة تتعلق بذهنيات مفعمة بالعقائدية تعيش عصور خلت عصور لا تعترف بحق الاختلاف أو تقسم العالم إلى فسطاطين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر. كان من المفترض أن تنعم العراق بعد الانتخابات بالحريات المنشودة لكن ثمة عصيا تمنع الدواليب من السير، عصيا تمت صناعتها بإحكام وفق منهج دوغمائي إقصائي.
المشروع الأمريكي لدمقرطة المنطقة فشل، وملامح الفشل واضحة في خطاب الأمريكيين راهنا، خصوصا في خضم تصاعد التطرف بوتائر عالية. لم تعد الولايات المتحدة تتحدث عن الديمقراطية بسبب عقمها وباتت تتوجه إلى دعم الأنظمة التي تتصف بشيء من الاعتدال وذلك لاحتواء هذا الانفلات الإرهابي المتزايد.
لايمكن اليوم الحديث عن أي مشروع للدمقرطة مالم يعاد الاعتبار إلى إمكانات العقل وشروط إمكان المعرفة. ثمة حاجة إلى تنوير من داخل ثقافات المنطقة وذلك بالسعي الجاد إلى عقلنتها واعادة الاعتبار لها ولاستجداء بتجارب العالم في التنوير وقراءة المعتزلة وابن رشد وكانط الذي دعا العالم إلى استخدام فاهمته أي عقله، العقل الذي صنع حضارة مذهلة، ثمة حاجة ملحة إلى فصل الدين عن الدولة لأن الواقع أثبت فشل المشروع التيوقراطي كما هو الحال في أفغانستان وإيران ولأن الدين ndash; أيا كان الدين ndash; لا يمكن أن يصلح كنظام حكم إنما يصلح بأن يقتصر دوره في النواحي الروحية والأخلاقية..
عزيز توما
التعليقات