رغم أن جلسات ما يسمى بمجلس النواب العراقي تزخر بالكثير مما يثير الإنتباه بل ويبعث على الحزن والأسى ويدفع الى الخجل والإستحياء إلا إن أبرز ما يميز أجواء هذه الجلسات هي حالة الفوضى الغير مقبولة والمبالغ فيها التي تعم أغلب مناقشات هذه الجلسات خصوصاً وأن هذه المناقشات تَخُص على الأغلب مواضيع حساسة جداً تمس تأريخ العراق وحاضره ومستقبله.. ويلاحظ أن هذه الفوضى تتناسب طردياً مع سير هذه الجلسات فهي تبدأ مع بدء المناقشات وتزداد شيئاً فشيئاً حتى تصل الى الذروة مع بدء التصويت على القانون أو المقترح موضوع النقاش.. إذ ما أن تبدأ عملية التصويت على قانون أو مقترح معين حتى يَعُم الهرج والمرج أركان المجلس ويبدأ الصياح بدئاً وخصوصاً من رئيس المجلس ونائبيه وصولاً الى بعض النواب.. ورغم أن المجلس يزخر بالقانونِيين وفيه لجنة قانونية إلا أننا لم نرى المجلس متفقاً في يوم من الأيام على آلية التصويت على القوانين والمقترحات المطروحة على الرغم من تحديد الدستور ( الفلتة ) لنوع هذه الآلية حسب كل حالة.. فكما ( داخت ) البشرية منذ آلاف السنين في سؤال quot; هل أن البيضة من الدجاجة ؟ quot;.. quot; أم أن الدجاجة من البيضة ؟ quot; ( يدوخ ) مجلسنا الموقر ونوابه في كل جلسة حول آليه التصويت quot; هل هي بالأغلبية البسيطة أي 141 عضواً ؟ quot;.. quot; أم إنها بالأغلبية المطلقة أي 184 عضواً ؟ quot;.. وغالباً ما ينتهي هذا النقاش العقيم الميتافيزيقي بين أعضاء المجلس بدون التوصل الى إتفاق بإستثناء طبعاً تمرير القانون أو المقترح المطروح أو عدم تمريره وفق ما تريده القوائم الكبرى بغض النظر حول أن كانت آلية التصويت صحيحة أم لا... فالغالبية عموماً هي التي تفرض شكل الآلية التي تريدها حسب الحاجة.. فهي إن أرادت تمرير القانون أو المقترح ( على السريع ) تقول بأنه يحتاج الى الأغلبية البسيطة فقط بدون أن يراجع أحد الدستور المسكين ويرى شكل الآلية التي نَصَّ عليها الدستور في مثل حالة هذا القانون أو المقترح أما إذا لم تكن هذه الأغلبية ترغب بتمرير القانون أو المقترح فتقول بأن الموضوع يحتاج الى أغلبية مطلقة وبما أن الأغلبية المطلقة لم تتحقق وتتوفر يوماً في برلماننا العتيد منذ تشكيله ولحد الآن لذا فهي متأكدة من عدم تمرير ذلك القانون حتى وإن كان الدستور ينص على آلية مخالفة بخصوص مثل هذا المقترح أو القانون.
وقد حالفني الحظ في متابعة ثلاث من جلسات مجلس نوابنا المُوَقّر بالكامل ليس رجاءً في شيء من هذا المجلس ومن فيه ولا إهتماماً مني بما يناقشه من أمور ومواضيع لأن جميعها لا علاقة له بما يمر به العراق من فواجع وبما يعانيه العراقيين من مآسي بل لأرى حجم المأساة التي نعيشها ويعيشها شعبنا وعراقنا الحبيب ( على الطبيعة ) جرياً على المثل القائل quot; شر البلية ما يُضحِك quot;.. ولقد كانت أول جلسة حصلتُ على شرف مشاهدتها هي تلك الجلسة التي كانت مخصصة لمناقشة طلب تمديد إعلان حالة الطواريء قبل أشهر والذي تَقدّم به رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء الى المجلس والتي كانت معلنة أصلاً ( بدون أي نفع أو دفع ).. فقد بدأت الجلسة بنقاش ( ديموقراطي جداً ) بين النواب حول جدوى هذا التمديد من عدمها ولكن بما أن الموضوع كان ( مطبوخاً ومُدَستراً سلفاً خلف الكواليس ) عمدت رئاسة المجلس وبعض أعضائه الى الإسراع بالتصويت على طلب التمديد وهنا عَمّت الفوضى فيما بينهم بين من يقول بوجوب توفر الأغلبية المطلقة وآخر يرى الإكتفاء بالأغلبية البسيطة وبعد أن إستقروا على أن التصويت يجب أن يكون بالأغلبية المطلقة بدأ النقاس من جديد فيما بينهم حول هل أن هذه الأغلبية المطلقة هي أغلبية العدد الكلي لأعضاء المجلس أم أن المقصود بها أغلبية الحضور فقط !.. ولكن وكما ذكرنا سابقاً كان واضحاً بأن المطلوب من هذه الجلسة هو تمرير هذا القانون بأي شكل كان لذا إستقر رأي النواب الكرام ورئاسة مجلسهم الموقرة على أن الأغلبية هي أغلبية الحضور دون أن يُحمِّلوا أنفسهم عناء الرجوع الى الدستور نفسه خصوصاً وأن المادة الخاصة بهذا الموضوع في الدستور ( الفلتة ) واضحة وليس فيها أي لبس من ناحية آلية التصويت على إعلان حالة الحرب أو الطواريء في البلاد حيث تنص الفقرة ( أ ) من الفقرة ( تاسعاً ) من المادة ( 58 ) من الدستور على : quot; الموافقة على إعلان الحرب وحالة الطوارئ بأغلبية الثلثين، بناءاً على طلبٍ مشترك من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء quot;.. والواضح من هذه الفقرة هو إن أغلبية الثلثين المقصود بها هي أغلبية ثلثي العدد الكلي لأعضاء المجلس وليس ثلثي الحضور فليس من المعقول ولا من المنطق بل ولا يقبل العقل بأن حالة الحرب أو إعلان الطواريء يَبُت فيها ويقررها ثلثي حضور البرلمان.. فلو كان الحضور على سبيل المثال هو ( 180 ) وهو ما يحصل بالفعل في أغلب الجلسات رغم أن العدد الكلي لأعضاء البرلمان هو ( 275 ) فليس من المعقول أن يبُت في قرار مصيري كإعلان الحرب ( 120 ) عضواً فقط من أعضاء البرلمان أي أقل من نصف العدد الكلي لأعضاء البرلمان.. لذا فإن ما حصل من ضوضاء وما تبعها من فوضى خلال تلك الجلسة لم يكن لها ما يبررها على الإطلاق كما أن حالة الأخذ والرد والجَر والعَر التي حدثت بين النواب الكرام لم يكن لها داعي وهي إن دلّت على شيء فأنما تدل على جهل بعض النواب وعدم معرفتهم لا بل ولا حتى قرائتهم ولو بشكل سطحي للدستور الذي إستقتل بعضهم على وضعه وإقراره وتمريره ( كسلق البيض ) وعلى حين غرة من الشعب العراقي.

بعدها جائت جلسة رفع الحصانة عن النائب مشعان الجبوري عضو مجلس النواب عن كتلة المصالحة والتحرير.. تلك الجلسة التي كانت ليس فقط مثيرة للجدل بل ومضحكة بكل ما تَحمِل هذه الكلمة من معنى وإليكم بعض من الكلام ( الموزون والراقي ) الذي صَدَرَ من قبل بعض نواب المجلس ورئاسته والذي سمِعه كل من تابع سير هذه الجلسة :
- رئيس المجلس رداً على أحد النواب الذي طالَبَ فور بدء الجلسة بالتصويت على قرار رفع الحصانة
بدون أي ( إحِم أو دِستور ) أو مناقشة : quot; بكرة يجيك الدور ورح تكون أنت في نفس المكان quot;.
- رئيس مجلس النواب مخاطباً أعضاء كتلة جبهة التوافق العراقية ومجلس الحوار : quot; إذا حلفائة رافعين
إيديهم إنتوا شكو حامي حمّامكم ؟ quot;.
- أحد النواب يخاطب نائباً آخر : quot; إحتُرُم نفسك quot;.
- أحد النواب متسائلاً : quot; هل أن السيد مشعان الجبوري عضو في البرلمان أم لا ؟ quot;.
وهذا جزء بسيط من فوضى التعليقات والتصريحات التي شهدتها تلك الجلسة والتي إنتهت بقرار رفع الحصانة الغير قانوني عن النائب مشعان الجبوري والذي كان واضحاً بأنه مُبَيّت ومُعَد له سلفاً من قبل ( زُملاء ) السيد مشعان في المجلس !.. أما سبب وصفي للقرار بأنه غير قانوني فيعتمد على ما تنُص عليه الفقرة ( ب ) من الفقرة ( أولاً ) من المادة ( 60 ) من الدستور والتي تقول : quot; لا يجوز إلقاء القبض على العضو خلال مدة الفصل التشريعي إلا إذا كان متهماً بجناية وبموافقة الأعضاء، بالأغلبية المطلقة على رفع الحصانة عنه، أو إذا ضبط متلبساً بالجرم المشهود في جناية. quot;.
فرفع الحصانة تم بإحتساب أصوات ( 140 ) عضواً من أعضاء البرلمان ( هذا إن كانت عملية العَد صحيحة أصلاً ) أي بالأغلبية البسيطة وليس المطلقة للعدد الكلي لأعضاء البرلمان وهو ما يعارض ويخالف الفقرة السالف ذكرها من الدستور وينسف قرار رفع الحصانة من الأساس ولا يستطيع أحد الإدعاء بأنه قد تم إعتماد مبدأ الأغلبية المطلقة للحاضرين من الأعضاء كون أن النقاش الذي إستمعنا إليه جميعاً بين بعض الأعضاء ورئيس المجلس كان حول هل أن عدد الأصوات يجب أن يكون ( 141 ) أم ( 184 ) أي بين إحتساب الأغلبية المطلقة أو البسيطة لمجمل العدد الكلي لأعضاء البرلمان.. كما أن النائب مشعان الجبوري لم يُضبط متلبساً بالجُرم المشهود في جناية كما جاء في الفقرة السابقة والقضية موضوع النقاش تدخل أصلاً في باب الجنح وليس الجرائم.. وبالنتيجة فأن برلماننا الموقر وبرفعه للحصانة عن عضو البرلمان النائب مشعان الجبوري في هذه الجلسة التي كانت غير طبيعية بكل المقاييس قد أوقع نفسه بثلاثة أخطاء قانونية تتنافى مع فقرة الدستور المتعلقة بمثل هذه الحالة وتُسقط قرار رفع الحصانة عن النائب المذكور من الأساس وهي :
إحتسابه للأغلبية البسيطة بدل المطلقة !
قضية الإتهام هي أصلاً جنحة وليست جناية !
العضو لم يُضبط متلبساً بالجرم المشهود في جناية !

أما الجلسة الثالثة المثيرة للجدل التي شهدها مجلس النواب فهي تلك التي شهدت تمرير صيغة قانون تشكيل الأقاليم التي تقدمت بها كتلة الإئتلاف العراقي الموحد والتي إنتهت بعد هرج ومرج ومقاطعة من قبل عدد كبير من النواب بإقرار تلك الصيغة.. ولقد كانت هذه الجلسة هي المحاولة الثانية التي شهدها البرلمان لإقرار هذه الصيغة بعد جلسة سبقتها بثلاثة أيام فشل فيها من قدّموا هذه الصيغة للقانون ومن أيّدوها بتمريرها بسبب عدم كفاية الأصوات نتيجة لإمتناع نواب بعض الكتل بل ولإمتناع بعض الكتل بأكملها عن التصويت والحضور فأعادوا الكرة في ذلك اليوم ولكن طبعاً بعد أن تم كسب نواب من نفس الكتل التي عارضت تمريرها وإمتنعت عن الحضور في الجلسة السابقة لتوفير العدد اللازم من الأصوات لصالحها والتي تم بالفعل تمريرها في ذلك اليوم كما كان مقرراً ومحسوماً من قبل البعض بدليل أنهم نهضوا بخيلاء فرحين بنشوة النصر بعد التصويت مباشرة وقبل أن تعلن الرئاسة رفع الجلسة لتبادل التهاني والتبريكات وللعناق بمناسبة هذا النصر ( المؤزر )الذي يعتقد هذا البعض غروراً بأنه قد حققه على البعض الآخر إلا أنه في الحقيقة هزيمة له وللبعض الآخر بل ولكل العراق.
أولاً إن فقرة تشكيل الأقاليم هي من ضمن الفقرات المختلف على طريقة صياغتها في الدستور والتي بسببها وهن كُثر أضيفت فقرة الى الدستور توجب تعديله بعد الإستفتاء عليه بفترة معينة وبالتالي لم يحصل إجماع على هذا الدستور ولم يُصوِّت عليه الكثير من العراقيين سوى بسبب إضافة هذه الفقرة وخَلُصَ رأي الكثير من العراقيين الوطنيين الديموقراطيين والعلمانيين آنذاك الى أن الموافقة على دستور مريض هنالك إمكانية لشفائه هي خير من رفضه والذي كان سيُعرقل ويُؤخّر حينها إجراء إنتخابات وتشكيل حكومة وبالتالي إدخال البلاد في فراغ دستوري.. لذا فإن ما حصل في تلك الجلسة هو إلتفاف على فقرة التعديل وخديعة لمن صوّتوا لصالح هذا الدستور الذي لايلبي طموحاتهم ( كعراقيين ).
ثانياً إن الجميع يعلم وبمن فيهم من روجوا ومرروا هذه الصيغة لقانون الأقاليم بالذات بان المعارضين لما حدث في ذلك اليوم هم ليسوا من معارضي الفيدرالية أو تشكيل الأقاليم كما يحاول أن يَدّعي البعض إضافة الى أنه لاعلاقة أصلاً بين مفهوم الفيدرالية ومفهوم تشكيل الأقاليم.. بل إن الإعتراض هو على هذه الصيغة بالذات.. فحزب الفضيلة على سبيل المثال ليس ضد الفيدرالية أو تشكيل الأقاليم بدليل أن له صيغة متكاملة لمثل هذا القانون لكنه وقف بكل قوة في جلستي البرلمان اللتان ذكرناهما بوجه تمرير الصيغة موضوع النقاش بسبب الشك في النوايا بين البعض والبعض الآخر من النواب والكتل البرلمانية وبسبب الإلحاح الغير مبرر من قبل البعض على تمرير هذه الصيغة بالذات وفي هذا الوقت بالذات والتي جائت بسبب التصريحات النارية التي كانت تطلقها على الدوام القوى والأحزاب السياسية التي قدّمت هذه الصيغة والتي كانت تحمل في طياتها على الجدوام ما يشبه التحدي والتهديد والوعيد والتسقيط لمن يعارضون هذه الصيغة وآخرها كانت تلك التصريحات التي أطلقها مسؤول قيادي في إحدى هذه القوى والأحزاب والتي وصف فيها من عارضوا ويعارضون صيغة قانون الأقاليم التي قدمها حزبه بأنهم quot; إما إجتهدوا فأخطأوا أو أنهم جهلة أو إنهم من أعداء للشعب العراقي quot;.. رغم علمه جيداً بأن أغلب السياسيين والمثقفين الذي عارضوا هذه الصيغة لقانون الأقاليم بالذات هم من الديموقراطيين والتقدميين والليبراليين العلمانيين الذين يفهمون المعنى الحقيقي للفيدرالية بل ونظّروا لها وداعوا بها قبل غيرهم ممن كان يُنظِّر ويسعى ولايزال لتأسيس دولة إسلامية وهم يعرفون فوائدها أكثر من غيرهم من أصحاب الفكر الراديكالي الشمولي لذا فهم أولاً لايفكرون بطريقة quot; إجتَهَدَ فأخطأ وإجتهد فأصاب quot; التي لايزال البعض يفكر بها ويعتمدها في عصر المدنية والإنترنت والفضاء وهم بالتأكيد ليسوا جهلة ولا يوجد بينهم من تنطبق عليه صفة الجهالة والتي إن وجدت ففي مكان آخر وبين أوساط ونماذج أخرى أما أعداء الشعب العراقي فهم معروفين اليوم ويعرفون أنفسهم ويعرفهم الشعب العراقي جيداً وقد أصبحوا واضحين ومشَخّصين لأغلب أبناء هذا الشعب وضوح الشمس.
إن الملاحظ في عملية التصويت في برلماننا ( الموقّر ) هو أنها ليست فقط مهزلة في أسلوب فهمها وطريقة تطبيقها لابل وحتى في آلياتها التكنيكية على الأرض.. فعملية عد الأصوات في جلسات مجلس النواب تتم بشكل بدائي ومتخلف جداً حيث يقوم أحد الموظفين في المجلس بالمرور حول مقاعد الأعضاء وفي ما بينها ويَحسِب عدد الأصوات وفق عدد الأيادي المرفوعة وفي هذه الحالة بالإمكان بكل بساطة أن يقوم أحد الأشخاص برفع كلتا يديه لتُحتسب صوتان بدل صوت واحد !
لا أعلم ولايعلم الكثيرون غيري الى متى سيستمر الحال في هذا المجلس على هذا المنوال ؟.. والى متى يرضى البعض بالجلوس بل والبقاء عضواً فيه وهو على مثل هذه الحالة المزرية ؟.. خصوصاً وأن حال جلساته أشبه بحال جلسات القهاوي مع الإعتذار والتقدير طبعاً للقهاوي وجلاّسها فأنا هنا لا أقصد ولا أعني جميع القهاوي فقهوة مثل ( قهوة عزاوي ) أو ( قهوة الزهاوي ) كان جلاّسها الزهاوي والرصافي العظماء ولنا أن نرى الفرق بين جُلاّس قهاوي الأمس وجُلاّس برلمانات اليوم !!


مصطفى القرة داغي
[email protected]