كم هائل من التحليلات طالما رهنت تردي الوضع الامني في العراق على عاتق قرار حل الجيش العراقي من قبل الحاكم المدني بول بريمر في 23 مايو من عام 2003 معتبرا ذلك بمثابة ضوء اخضر لدخول الارهاب الى العراق.
كما ان البعض الاخر اعتبر ذلك القرار هو مؤامرة على العراق وجيشه الجبار، متهما اسرائيل بالوقوف وراء ذلك... في حضور واضح ( كما هي العادة ) لنظرية المؤامرة.
بعض القوى السياسية الاخرى من جهتها لازالت تطالب حتى هذه اللحظة بضرورة اعادة الجيش العراقي الذي تعتبره رمزا بطوليا يجب الحفاظ عليه والاعتزاز به ومن ثم تعلق الاندماج في العملية السياسية على جملة من الشروط احدها شرط اعادة الجيش المنحل.
وفي مناقشة تلك القصة التي لازالت تتفاعل حتى هذه اللحظة يجد المراقب نفسه امام مجموعة من المعطيات لابد من استيقافها بشئ من التأني والهدوء:
اولا: هل كان القرار الذي اصدره بول بريمر اساسا هو قرار حقيقي بحل الجيش العراقي ؟ بمعنى ان الجيش العراقي هل كان موجودا اصلا حينما صدر ذلك القرار؟
الجواب على ذلك التساؤل خير من يتكفل به هو معسكرات الجيش الخالية والمهجورة من العدة والعتاد والجنود.. لقد تبخر الجيش بين ليلة وضحاها، وان كل ما فعله بول بريمر هو اصدار شهادة وفاة بحق ذلك الجيش ولم يكن على الاطلاق حلا فعليا واقعيا للجيش.
فليس ثمة جيش اصلا حتى يتكفل بحماية الحدود كما كان يتذرع البعض بذلك حينما يصل الكلام الى الملف الامني... اذن فالقرار كان مجرد تحصيل لما هو حاصل.
ثانيا: ان هذا الجيش ومنذ فترة طويلة قاربت الخمسة وثلاثين عاما لم تشهد صفحات انجازاته في اغلب الاحيان سوى مزيد من البطش والقمع والمجازر، فالانفال وما حدث في حلبجه نقطة سوداء في صفحة الجيش العراقي كما ان قمع الانتفاضة التي حصلت في اذار من عام 1991 وما تلاها من هجوم على سكان الاهوار ما هو الا وصمة عار اخرى تُسجل في تأريخ ذلك الجيش يضاف اليها مجازر اخرى كثيرة من هذا النوع، فالجيش لم يكن الا في خدمة الحاكم الدكتاتور ضد الجماهير.
كما ان الجيش كان مبنيا بالاساس على هرم طائفي عنصري بغيض لا ينفع معه الترقيع ولايناسبه علاجا لتلك الافة الخطيرة الا قرار بذلك المستوى.
ثالثا واخيرا: ان هناك خلطا واضحا عند كثيرين ممن يربطون بين حل الجيش العراقي وبين تدهور الوضع الامني في العراق بسبب الفراغ الذي حصل الاشرطة الحدودية للعراق مع بلدان الجوار، اذ ان مسألة ترك الحدود مفتوحة كما حصل بُعيد حرب الخليج الثالثة يُعد مشكلة يتفق عليها الجميع وثغرة يتحمل مسؤوليتها بالدرجة الاولى صاحب القرار في العراق وهو قوات الاحتلال انذاك، لكن ذلك شئ مختلف عن قرار حل الجيش العراقي الذي كما قيل سلفا بانه لم يكن الا قرار لاعلان حالة الوفاة، وليس قرارا لحل جيش متواجد بالفعل على الارض وبالتالي فحتى في حالة عدم صدور ذلك القرار سوف تبقى الحدود مفتوحة وتبقى الاشكالية ذاتها طالما تبخر الجيش بسبب الحرب.
كما لا ينبغي ان نفوّت نقطة مهمة اخرى قبل ان نشير اليها وهي ان الجيش العراقي الحالي تكاد اعداده تقارب ذلك الجيش العراقي السابق وربما قد تزيد وقد اعيد الى الخدمة اغلب الضباط والرتب العسكرية في الجيش السابق وبالتالي سوف تصبح صيحات البعض بضرورة اعادة الجيش العراقي السابق مجرد دعوة لاعادة ذات الهرم الطائفي الذي كان مستفحل في الجيش القديم وليس الهدف من تلك الدعوات هو اعادة الهيبة للجيش او الدفاع عن الكوادر والكفاءات العسكرية.
جمال الخرسان
كاتب عراقي
التعليقات