يـتناقل quot; المحللون quot; السـياسيون العـرب تعبيرين جديدين في الأدب الـسياسي، quot; الفوضى الخـلاقة quot; و quot; الشرق الأوسط الجديد quot; دون فهم لمعنييهما. يتناقلونهما كفكرتين مدانتين لا حاجة للنظر في معنييهما وما ترميان إليه كونهما استعماريتين جاءت بهما الولايات المتحدة لخدمة أغراضها quot; الإمبريالية quot; في المنطقة الغنية بثرواتها وبموقعها الإستراتيجي. وهكذا يتخلى quot; المحللون quot; العرب عن مهنتهم، مهنة التحليل، ليس لأنهم لا يملكون أدنى فكرة عن هاتين السياستين بسبب القصور الفاضح في الفكر وفي الثقافة فقط بل لحمل الناس من حولهم لمعاداة الولايات المتحدة الأميركية ليس بسبب تاريخها الإستعماري فقط بل لانحيازها الدائم لإسرائيل على الأغلب.

الستارة التي تهتكت دون أن يلحظ ذلك هؤلاء المحللون، حتى أنها لم تعد كافية لستر قصورهم الفكري والثقافي ولا شعارات الإسلاميين والقوميين والشيوعيين غير الماركسيين الطنانة وقد فقدت كل معنى، تلك الستارة هي قيام الولايات المتحدة الأميركية بدور حامي حمى الإمبريالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 إلى العام 1975 عام نفوق الإمبريالية ودفنها نهائياً في قلعة رامبوييه في باريس. خلال تلك العقود الثلاثة التي تميزت بفوران حركة التحرر الوطني العالمية، سطرت الولايات المتحدة الأميركية سجلاً أسود ضخماً محتواه الإعتداء على الشعوب المكافحة من أجل الحرية والإستقلال والتنمية الإجتماعية المستقلة.

لكي نقرّب على أفهام هؤلاء quot; المحللين quot; الدعاة (!!) فحوى ومرامي quot; الفوضى الخلاقة quot; نتناول نقيضها المعادل بالشرح والتحليل وهو quot; التنظيم العقيم quot; (barren stability)الماثل أمامنا بكل تجلياته والذي انعكس في تجميد الحياة العربية عند نقطة الصفر لعقود طويلة.

لدى انهيار السلطنة العثمانية وانتقال العالم العربي من الهيمنة العثمانية السوداء إلى الهيمنة الإمبريالية الأنجلو فرنسية المتحضرة بالإنتاج الرأسمالي تطلب الأمر رسم جغرافيا سياسية للعالم العربي الذي لم يكن له إذّاك لا جغرافيا ولا سياسة وهو ما يفسره القومجيون على أنه quot; الوحدة العربية quot; بينما هو في الحقيقة التذرير بعينه. وفد الإمبرياليون إلى العالم العربي ووجدوه قاعاً صفصفاً تفصله عن الحضارة الحديثة قرون وقرون وذلك بفعل النهب الوحشي المتخلف الذي مارسته القبائل الأسيوية التي تعاقبت عل حكم وإذلال العرب لألف عام بدأت باجتياح البويهيين الفرس لبغداد عاصمة الدولة العباسية عام 947 م وانتهاءً بهزيمة الأتراك في نهاية الحرب العالمية الثانية 1917. الجغرافيا السياسية التي رسمها الإمبرياليون عبر اتفاقية سايكس وبيكو 1916 ثم معاهدة سان ريمو 1920 أخذت بالمعالم البارزة للجغرافيا لكنهم لم يجدوا أية معالم للسياسة ليأخذوا بها باستثناء قوى البورجوازية الشامية المنهكة المتمثلة بالثور العربية بقيادة الشريف حسين بن علي. ولما كانت البورجوازية الشامية تستهدف تنمية المشرق العربي تنمية وطنية مستقلة، وهو ما يتعارض مع أهداف الإمبريالية، قرر المستعمرون، الإنجليز والفرنسيون، تحطيم المشروع الإستقلالي الثوري لهذه البورجوازية وتصفية المملكة العربية في الحجاز وملكها الحسين بن علي والمملكة الفيصلية في بلاد الشام وملكها فيصل بن الحسين بن علي. السياسات الاستراتيجية التي حرص على تطبيقها الإنجليز والفرنسيون منذ احتلالهم لبلاد الشام كانت بصورة رئيسية إجهاض الثورة العربية، مشروع البورجوازية الشامية.

باستثناء البورجوازية الشامية التي كانت قد أُنهكت تماماً طوال القرون العشرة التي استغرقها حكم القبائل الأسيوية المتخلفة الغريبة على الأقوام العربية من فرس وأتراك، لم يتواجد في العالم العربي بطوله وعرضه أية قوى اجتماعية حقيقية ذات نمط من الإنتاج ذي شأن ـ حتى الشكل الإقطاعي الكلاسيكي للإنتاج الزراعي لم يكن متواجـداً ولـم يتكامل في العالـم العـربي بفعل حـصر ملكية الأراضي الزراعية بالسلطان المملوكي أو العثماني (الأراضي الميرية) ؛ ظل نمط الإنتاج السائد طيلة التاريخ العربي حتى وصول الإمبرياليين الغربيين هو الرعي وتربية الحيوانان ثم الزراعات الصغيرة المتناثرة. في مثل هذا النمط من الإنتاج لا تقوم أية سلطة إجتماعية أو سياسية إلا سلطة القبيلة متمثلة بشيخها. وهكذا اضطر المستعمرون الإمبرياليون إلى التعاون مع شيوخ القبائل العربية بالرغم من أن ذلك لا يتطابق تماماً مع مصالحهم الإستعمارية. من هنا اقتصرت السلطة السياسية في مختلف الدول العربية على كبرى القبائل في كل منها، بل إن عدداً من الدول العربية سمي باسم القبيلة الحاكمة.

تطور الإنتاج وارتباطه بدورة الإنتاج في المتروبول، المركز الرأسمالي، عمل على فك الإرتباط بين قوى الإنتاج من جهة والدولة من جهة أخرى وهو الإرتباط اللازم والضروري لوضع المجتمع على طريق التطور الطبيعي، فلم تعد سلطة القبيلة ذات أثر في تطوير المجتمع. وفي مواجهة مثل هذا المأزق الصعب كان لا بدّ من تحول القبيلة إلى عصابة. حدث في بعض هذه الدول إنقلابات عسكرية لكن ذلك لم يبدل إلا عصابة بعصابة. الحكومات في سائر الدول العربية هي دوائر مغلقة (Closed Circle) وهو أشبه بمفهوم العصابة إذ لا علاقة البتة بين شكل الحكم وشكل الإنتاج أو هيكلة المجتمع. مثل هذا التناقض أو فك الإرتباط الطبيعي بين شكل الحكم من جهة وشكل الإنتاج أو هيكلة المجتمع من جهة أخرى هو ما سميناه quot; التنظيم العقيم quot; (barren stability)نظراً لما يعكسه من عقم ومعيقات للتطور.

quot; الفوضى الخلاقة quot; (Constructive Instability) هي المعاكس الموضوعي ل quot; التنظيم العقيم quot; وهي تقوم مقام المضادات الحيوية (Antibodies) في الدولة العربية المريضة بالعقم. الهرم السياسي في الدولة العربية لا يتلاءم مع الهرم الإقتصادي، مع شكل الإنتاج السائد في المجتمع. الدولة العصابة، دولة الدائرة المغلقة (Closed Circle) قد تتناسب مع الإقتصاد الريعي كما حال الدول النفطية إلا أن الثقافة الكونية أخرجت الدولة العصابة من التاريخ. مثل هذه البنى السياسية المغلقة الجامدة بحاجة قبل كل شيء إلى تهديم. والواقع أن تعبير عـدم الإستقرار (Instability) ـ وترجـم تعسفاً إلى الفوضى ـ غير كاف للقـيام بوظيفة التهديـم ويفضل استبداله بتعبير التهديـم ذاتـه (Destruction) فـيكون لديـنا عـوضاً عنه مصطلـح quot; التهديم البناء quot; أي (Constructive Destruction). ألم يوصف الشيوعيون ب quot; الهدامين quot; لأنهم كانوا سيهدمون نظام الإنتاج الرأسمالي وسائر بناه المرافقة ليقيموا مكانه النظام الشيوعي أو الأحرى اللانظام الشيوعي الخالي أبداً من كل علاقات للإنتاج !!

الفوضى الخلاقة تقول أن مطابقة الهرم السياسي الحاكم لهرم الإنتاج والهيكلة الإجتماعية، هذه المطابقة التي هي ألفباء الديموقراطية وجوهرها، تستلزم بالضرورة تهديم البنى السياسية الحاكمة القائمة اليوم في العالم العربي وطرحها بعيداً في متاحـف التاريخ لتحل محلها القوى التي تزود المجتمع باحتياجاته من المنتوجات المختلفة. لماذا يكدح المنتجون ليلبوا احتياجات الشعب فتتطفل عصابة غريبة وافدة من خارج المجتمع لتستولي على مجمل الإنتاج وتوزعه كيف تشاء كي يمد في عمرها متسلطة على رقاب المنتجين ؟! على الذين يعارضون quot; الفوضى الخلاقة quot; أن يجيبوا على هذا التساؤل تحديداً. إنني لا أرى الفوضى الخلاقة إلا معادلاً للثورة الإجتماعية التي لا بدّ وأن تأتي بشرق أوسط جديد ينعم بالديموقراطية كما يراها الأمريكان أو بالإنفتاح على الصراع الطبقي الحر والمرير.

اليوم يقول الأمريكان، الإمبرياليون سابقاً (Ex-imperialists).. دعوا قوى الإنتاج تأخذ مكانها في الحكم وأنا أقول حيا الله قوى الإنتاج !!

فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01