الوجه الأول للمقارنة: عبقرية المكان عند جمال حمدان
استوقفتني فجأة وأنا أمر في جولة سريعة بين الفضائيات العربيات العاريات منها والكاسيات ملامح الماركة المسجلة لوجه العم أحمد فؤاد نجم على قناة دريم الفضائية في برنامجه quot;حبايبنا quot; وإذا به يستضيف الاديب الرائع يوسف القعيد وضيفا آخر من نفس العيار ومن لايعرف يوسف القعيد ياسادة لم يعرف طعما للحرب في بر مصر ولم يحس بوجع البعاد لذا تجب له علي النصيحة بأن يعود بكل رفق وأدب إلى مقاعد الدراسة من جديد للتعرف على أديب في سمرة طمى النيل..من ريف مصر ومن جيل الستينات و من طراز غير قابل للتطبيع والميوعة الموقفية..!!
كان القعيد يتحدث بحماس وألم عن أسطورة مصرية أسمها جمال حمدان وهو الذي يعد أبو الجغرافيا العربية في العصر الحديث وبلا منازع وطأته سنابك quot;كامب ديفيدquot; والانفتاح والتطبيع بلا رحمة وحاول موظفو تكية السادات طمس عبقريته بتعمد وإهمال شديدين.
عاش د.جمال حمدان بين عامي 1928 و1993 ليقضي خمسة وستين عاما في رحلة بدأت في قرية quot;ناي quot;- من تفوق علمي مبكر إلى معيد في الجامعة إلى الدكتوراه من بريطانيا عن جغرافية الدلتا ولم تترجم إلى العربية حتى الآن لسبب علمه عند الله ليعود محاضرا متميزا محاصرا بالحساد والألاعيب والظلم ويستقيل في نهاية الامر ليتفرغ لدراساته وابحاثه زاهدا في كل مغريات العصر ومحترما نفسه وعلمه ومكانته في زمن غير محترم..!!
ومن أعظم ماكتب د.جمال حمدانكتابة quot;شخصية مصر-دراسة في عبقرية المكان quot; وكانت قد صدرت الصياغة الأولى له في يوم لاينسى هويوم5يونيه 1976 في نحو 300 صفحة من القطع الصغير، ثم في قطع متوسط بعد سنوات ليتفرغ لإنجاز صياغته النهائية لمدة عشر سنوات، حتى صدر مكتملا في أربعة مجلدات خلال السنوات بين عامي 1981 و 1984م.
وتعتمد نظريته الجغرافية الفريدة على أن الجغرافيا ليست علما وضعيا يعتمد على دراسة الموقع والتضاريس فقطوانما تشمل بالضرورة دراسة الحياة فيهما بكل دقائقها والنفاذ إلى روح المكان لاستشفاف عبقريته الذاتية وكانت رؤية جمال حمدان للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في المكان والزمان متوازنة، فلا ينحاز إلى طرف على حساب الآخر، ومن عبقريات د.حمال حمدان انه تنبأ في كتاب له عام 1968 أي قبل أربعة عقود تقربيا بانهيار المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي وقد حدث ذلك فعلا قبيل وفاته كما واستطاعإن يثبت علميا في كتابه quot;اليهود- انتروبولجيا quot;عام ا967 أن الإسرائيليين الذين يحاربوننا الان باسم اليهودية ليسوا من نسل اليهود الأصليين الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد وانما هم من نسل إمبراطوريةquot;الخزر quot; التتارية التي تهودت في القرن الثامن الميلادي وهذا ما أكده quot;آرثر بونيسلرquot; في كتابه quot;القبيلة الثالثةquot; عشرة عام 1976 ومن أهم القول أن كتاب د.جمال جمدان quot;شخصية مصرquot; قد تعرض لحذف فصل كامل يتعلق بأثر كامب ديفيد على مصر أرضا وشعبا وذلك بأمر من رجال الحقبة الساداتية وفيه يعبر الكاتب العظيم بموضوعية وألم عن بالغ المرارة والثاثر الشخصي والشعبي بزلزالالمبادرة ومابعدها وليعلم متأخرا أن مآخذه على الفترة الناصرية انما هي نقطة في بحر الفترة الساداتية..!!
وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر السبت في 17 إبريل من عام 1993م، انتقل جمال حمدان إلى جوار ربه، إثر فاجعة مشبوهة أودت بحياته وقد قيد الحادث بسبب تسرب الغاز من أنبوب البوتاجاز في أثناء قيامه بإعداد كوب من الشاي لنفسه مع إن الأدلة الكثيرة تؤكد إن أبو الجغرافيا قضى في حادث مدبر بدليل فقد أثر ثلاثة كتب هامة كان يعدها الراحل للصدور ولها علاقة وطيدة بالاشتباكات السياسية الراهنة.
نعم لقد لقيت عبقرية دجمال حمدان نهايتها الجسدية في حريق مشبوه ولكنها لقيت وتلقى في نفوسنا نحن المثقفين كل اكبار واجلال شأنها شأن كل عبقرية عربية أو اسلاميةقضت في سبيل الحق والعدل والكلمة الحرة ولكنها تجاوزتنا إلى برزخ من النقاء والخلود تاركة أكثر من 29 كتابا قيما و 79بحثا أو مقالة هامة.
الوجه الثاني للمقارنة :ترهل الزمان عند سميح القاسم
لم أفاجأ عندما شاهدت على شاشة التلفزيون الاردني شاعر المقاومة وبراكين الغضب وهو ينتهي عند قصائد المدح في بلاط الملك عبد الله الثاني ولم أستغرب ما ينشر من مقالات بين الحين والآخر عن الحسرة والألم من أفول نجم وتبخر حماسة المقاوم والذي عرفناه عنيدا..
صادقا.. حادا.. واضحا في سنوات السبعينات والثمانينات.
لم نكن نحلم بأن يظل القاسم نافخا في كور الحماسة ومؤججا للغضب لأننا نفهم أن الظروف من حولنا قد تغيرت وبالتالي لابد للخطاب الشعري أن يتغير تبعا لذلك بالابتعاد عن المباشرة والهتافية إلى معالجة أكثر وقعا وعمقا رغم إن شرعية المقاومة لم تهتز إلا في أذهان القطب الأمريكي وأتباعه المخلصين.
إن تاريخ سميح القاسم الأدبي والنضالي السابق ليس بحاجة إلى صعلوك بن صعلوك مثلي لكي يزايد عليه ولكنه في نفس الوقت يشكل شئنا أم أبيناعينة معيارية ضرورية لمقارنه البدايات بالنهايات والفواتيح بالخواتيم ولو وتأملنا جيدا فورة البركان عند هذا الشاعر في مقتبل عمره لم ولن نستطيع تصور ما يحدث منه الآن..الى درجة يتزلف فيه.
مالذي دفعك إلى ذلك..؟!!
هل كنت مضطرا أم انها المبالغة المفرطة في المجاملة..؟!!
أيا كان السبب فانها والله سقطة من كبير..!!
أتذكر أني قابلت quot;القاسم quot; للمرة الأولى في الناصرة نهايةعام 1991 في مشاركة شعرية هامشية لشاعرين من غزة كنت أحدهما والآخر كان من مريدي جنون الشاعر الخليجي quot;قاسم حدادquot; وقرأت قصيدة تنتقد
الشعراء الذين استأنسوا مقاومة الخنادق في أجنحة الفنادق وكان من الطبيعي إن أتلقى من الشاعر الكبير درسا مفعما بالتهكم والتوبيخ وهو في بيته وبين مريديه وأقسم بالله العلي العظيم أني تقبلت ذلك برحابة صدر من شاعري الملهم الذي قضيت جل شبابي وأنا أتمنى مصافحته ولكني اكتشفت إن النجم الساطع في حينه كان أقل تواضعا ورزانة وأكثر قسوة وسخرية..!!
ومع مرور الوقت وقبيل قدوم أوسلو بدأت تتضح مواقف الرجال والشموس فرأينا الكاتب المتشائل العظيم إميل حبيبي يتحول إلى ناطق باسم السلاميين من عرب ال48 وعراب للقاءات السرية والعلنية بين الإسرائيليين والعرفاتيين ورأينا صوانة شعر المقاومة توفيق زياد يقضي في حادث سير وهو عائد إلى الناصرة بعد مظاهرة الدعم والتأييد لفاتح رام الله الجديد ورأينا سميح القاسم يقدم أوراق اعتماده للعائدين مباركا العهد الميمون بقصائد دون رأس ورأينا شاعر المقاومة الأكبر محمود درويش وهو يقرأ قصائده أمام شمعون بيرس..!! و يغزل موقفا برجماتيا ذكيا من المستجدات فيبدو كمن يريد أن يجمع بين الغواية والطهارة فلا هو منغمس في الطبخة حتى النخاع ولا هو رافض لها وقد حاول المثقفون الفلسطينيون تفهم كل ذلك في حينهولكن ما كان عصيا على الفهم حقا وقوبل باستهجان واستنكار شديدين هو إن يقوم العم سميح بالاعتذار في الكويت نيابة عن الشعب الفلسطيني عن شيء لم يقترفه ودون تفويض حتى من أصغر طفل.!!
وهاهو القاسم اليومينتهي إلى نفس المكان الذي انتهى اليه الجواهري شاعر القوميةالعربية الأول مع فارق بسيط يساوي ربع قرن من زمان مترهل..!!
والآن أعود إلى مقولة الشجرة التي ماتت واقفة quot;معين بسيسو quot;عن أن الشاعر أولا وأخيرا موقف ومن أجل ذلك لم يتردد في إشعال النار بكل قصائد وصور الجواهري التي كان يحتفظ بها عشقا و إلهاما عندما علم إن شاعره العظيم قد أيد الممارسات الدموية لعبد الكريم قاسم في العراق..!!
لقد شعرت بالحزن حقا وأنا أقرأ مقالا من قاع الدست تهاجم فيه الكاتبة الفلسطينية quot;بادية ربيع quot; العم سميح تحت عنوان quot;سميح القاسم من مقاومتهم إلى بلاطهم quot; وذكرني ذلك بما كتبته قبل 12 عاما في صحيفة quot;القدسquot; المقدسية رافضا لرياح التطبيع و مدينا لرموزه المائعة.
مرة أخرى أوكد على الاحترام والتقدير لتاريخ المقاومة كما خطه لوركا و عبد الرحيم محمود و غسان كنفاني ولكل قامة فنية نسجت بيت شعر تحدى الاحتلال وفي الوقت نفسه يجب إلا يمنعنا ذلك من رؤية الشخوص دون هالاتها والمواقف بمسمياتها الحقيقية بعيدا عن المجاملة أوتقديس الاساطير..!!
ولربما يعتقد من يخالفونني في الرأي الذين أحترمهم سلفا بانه من التجني مقارنة الثابت بالمتحول والغائب بالحاضر واني اترك ذلك كله لبصيرة القارىء الذي لايخدع..!!
توفيق الحاج
التعليقات