لقد أحدثت الحرب الأخيرة في لبنان ومانتج عنها ومأزق السياسة الأمريكية في العراق و تقرير لجنة بيكر هاملتون وحرب الشوارع في الساحة الفلسطينية جلبة في المشهد السياسي العربي والإسلامي، وانعكس ذلك على عدة صعد ومن أهمها بالطبع عودة الروح لمناهضة السياسة الأمريكية من جهة وعودة النقاش الصاخب حول الصراع العربي الإسرائيلي وماتجر خلفها من مفاهيم وأنساق سياسية ساهمت في تدمير التطور الطبيعي للمواطن في الشرق الأوسط، عادت لتضعف الاهتمام بالمسائل الديمقراطية أكثر مما هو ضعيف والتي بدأت تأخذ حيزا ليس قليلا من اهتمامات الشارع العربي، والقضايا التي تتعلق بها وليس آخرها مفاهيم مثل الدولة والأمة، وما زاد الطين بلة في الحقيقة هو أن يجد الديمقراطي نفسه في خانة الخيانة العظمى عندما يحاول أن يسأل أثناء الحرب اللبنانية سؤالا فرضته درجة واجبة ولازمة من حضور العقل : إلى أين يأخذنا حزب الله؟ وما يتمحور على هذا السؤال من إجابات. حتى في سياق تجربتي الشخصية قوطعت من أكثر من منبر إعلامي كنت أنشر فيه ولا داعي للتسمية لأنها ليس موضوعنا الآن فقط لأن موقفي كان مختلفا عن مواقف هذا الإعلام أثناء الحرب والذي صور الأمر على أنه نصر إلهي! وإن حزب الله يتصرف بوصفه هو الدولة اللبنانية وهذا خطير وهو ما نعيشه اليوم من محاولته الاستيلاء على ما تبقى من الدولة اللبنانية لتوظيفها في مشروع أكبر! رغم أن حزب الله لم ينتظر طويلا لكي يطرح جوابا واضحا ومباشرا وبلا توريات التي حاول التيار العروبي والإسلاموي اللعب عليها أثناء الحرب ولازال وخصوصا مع النصر العسكري لحزب الله كما يروه! وكارزمية السيد حسن نصرالله ـ قدس الله سره ـ كما تغيرت بعض اللوحة السياسية في المشهد العربي حيث ظهرت ثنائية المقاومة-الاعتدال بطرفيها، من جهة حزب الله ومن خلفه السلطة في إيران وسورية وتيارات معارضة إسلامية وعروبية على امتداد المشرق، وفي الجهة المقابلة حلت القوى والنظم الداعية للتسوية السلمية للنزاع العربي الإسرائيلي.

هذا الفرز الجديد الصاخب ـ والذي هو فرزا يحتاج إلى تدقيق ـ أضعف الفرز الذي كان يتقدم ببطء شديد وفي ظل القمع الذي يلقاه بين قوى الديمقراطية وقوى السلطات في هذا المشرق. وارتفعت الأصوات مجددا للهجوم على مفهوم الدولة المعاصرة ـ والتي يسمونها قطرية ويرفضها التيار القومي بسلطه ومثقفيه لهذا السلطات القومية في سورية والعراق وليبيا كانت تعمل من أجل فرض مفهوم الدولة الأمة ـ إلم يستخدم هذا كشعار من الشعارت التي تم فيها دخول القوات السورية إلى لبنان وقيام صدام حسين باحتلال الكويت ـ أو بالأصح مفهوم السلطة / الأمة! ولو من باب التضليل ومن باب إلهاء البشر عن مفهوم الدولة العصرية وثقافتها، التي كانوا قد حازوا عليها بانقلابات عسكرية، أما التيار الإسلامي فهو يرفض الدولة جملة وتفصيلا لأنها ليست نموذجا للخلافة الإسلامية ـ وعندما يحاول تنظيما من هذا التيار الالتحاق بروح العصر وتحوله إلى حزب دنيوي! نجد التصدي له لازال ذو مفعول قوي ـ ولهذا سعى دوما إلى الربط الفعلي بين انقلابه على السلطة القطرية من أجل دولة الخلافة وبين انقلابه على دولتها. فأصبح مفهوم الدولة هذا منبوذا لدينا نحن الأقطار التي وقعت في براثن السلطات التي أتت من تيارات قومية.

وهذه قضية تواطؤ عليها أيضا اليسار الجديد الذي نهل جزءا من استراتيجيته من هذا الفكر القومي نفسه، والذي حول الانتماء الطبيعي إلى العروبة إلى أيديولوجيا تضع نصب أعينها فقط دولة الوحدة العربية المنشودة. وكنت من داخل هذا الفضاء وفي سياقه الدولي ولهذا كان اكتشافنا لمفهوم الدولة المعاصرة في الحقيقة هو اكتشاف متأخر! ويسعني في هذا الجزء أن أسجل الأسبقية في سورية للمفكر الراحل ياسين الحافظ و لحزب الشعب الديمقراطي في تنبهه لهذا الأمر ولو نظريا من خلال تركيزه على ماكان يعرف في أدبيات اليسار ب ( الديمقراطية البرجوازية ) في الدولة القائمة كمعبر إلى الدولة الوحدوية المنشودة. يقول الباحث الدكتور عمر حمزاوي من معهد كارنيجي للسلام : ( فلم تكن عملية حزب الله العسكرية التي افتتحت في تموز (يوليو) الماضي المواجهة بينه وبين إسرائيل سوى دليل بين على استئثار الحزب بقرار الحرب والسلم السيادي، قفزاً على مؤسسات الدولة اللبنانية وهو شريك أصيل فيها، كذلك عبرت دعوة مرشد جماعة الإخوان المسلمين المصرية أثناء الحرب لفتح باب الجهاد وإرسال متطوعين لقتال laquo;العدو الصهيونيraquo; عن نزوع قائم لدى الإخوان لتجاهل سلطات الدولة المصرية وقراراتها السيادية الملزمة ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية من بينها. تكمن المعضلة هنا، في ما يتعلق بفرص التحول الديموقراطي، في صعوبة إدارة الحياة السياسية في مجتمعات يهيمن عليها التناقض المبدئي بين نخب سلطوية محدودة الشرعية تحكم باسم الدولة القومية وحركات معارضة جماهيرية يهدد فعلها المتشح لرداء الدين سيادة تلك الدولة على نحو يمكن معه فتح الباب تدريجياً أمام القبول والتقنين غير المشروط للتعددية ولإمكانات التداول السلمي للسلطة ) ـ جريدة الحياة ـ وإنه من جهة اخرى افتقاد هذه النخب لحس المواطنة والنابع أصلا من فضاء الدولة المعاصرة، فهذه النخب لا تعتبر نفسها مواطنين بل قادة وأصحاب رسالة سماوية أو أرضية فالسيد حسن نصرالله يعتبر نفسه أكبر من لبنان كله! حتى الظواهري وابن لادن وإلا ما الذي أخذهم إلى أفغانستان؟ وكيف يجد المنظرون القوميين أنفسهم يدافعون في أي بلد عربي عن سلطته حتى بمواجهة شعبها ومهما كانت هذه السلطة قمعية! بعض مثقفي المؤتمر القومي الإسلامي كنموذج؟ فيتصرفون على هذا الشكل وليس وجود درجة من الحريات العامة والفردية ـ لبنان ـ ومصر نسبيا، تجعلهم ثقافتهم هذه حتى في ظل هذه الحريات النسبية يقبلون بأن يكونوا مواطنين عادين! بالرغم أن هذه النخب لا تتصرف بنفس الطريقة مع السلط القمعية. فهم دعاة أمة وليسوا دعاة دولة! وهذا ما يفقد مفهوم الدولة العصرية رصيدا لدى قواعد هؤلاء الدعاة من جهة ومن جهة أخرى السلطات العربية من مصلحتها تكريس هذا الفهم لأنه يسهل عليها أيضا التعامل مع البشر كرعايا بلاحقوق! وهل يجب أن يكون مفهوم الأمة ( الرسالة ) مرتبط بقيام دولة واحدة؟ هذه الأمة الجرمانية تتوزع على أكثر من ست دول! وكلها دول عصرية ومتطورة جدا جدا. هذا الفعل الرسالي في مفهوم الأمة يغيب الدلالات التاريخية لدولته المرجوة؟ ماهي طبيعتها ومضمونها الاجتماعي؟ هل هي جزء من روح هذا العصر؟ أم هي دولة ذي قار أو عين جالوت أو دولة القادسية واليرموك؟! وهنا تصبح أشكاليتنا متراكبة على مفهوم الأمة الرسالة / السلطة الدولة. فالسلطة هي الدولة والدولة هي السلطة ككل الأحزاب اللاديمقراطية وتسقط الدولة من طرفي المعادلة فتصبح المعادلة السلطة / الأمة الرسالة. يجب أن نتخلص من مفهوم الأمة الرسالة حتى نرى مفهوم الدولة بمعناه الإجرائي والحقوقي. كما يجب التمييز بين الدولة والسلطة مهما كانت السلطة قمعية ونهابة! هذا التمييز هو الذي يدخلنا تاريخية العيش المشترك والتعاقدات الاجتماعية العادية والتي تعارفت عليها البشر. واستكمالا لهذا المدخل نجد من الضروري أن نعود ونسأل : أية ثقافة هي التي يهزمها مشروع الشرق الأوسط الكبير عندنا وفي منطقتنا؟ وهذا ربما نعالجه في مقالة أخرى.


غسان المفلح