مَنْ سَكتَ عن ظُلمٍ ألمّ بهِ.. فهوُ وظالمُه سواء.
مَنْ يَدخلِ الّسجنَ فَلنْ يخرجَ منهُ الاّ إلى القَبرِ.
قد يتحرّرُ الجَسدُ.. نَعم، أمّا الرُوح فَتبقى هُناكَ.. خَلفَ القُضبانِ.. في ذلك المَكانِ الذي لا مَكانَ فيهِ.. لأنّ الحريّة مثلّ غشاءِ البكارة.. نفقدُها مرّة واحدةً.. وإلى الأبدِ.
أيّها الأخُ الاردنيّ النبيل،
أنا مواطن عراقي/ استرالي، في الواحدة والاربعين من العمر. دخلتُ السجن في بلادك الكريمة، سجن جويدة الصحراوي، وأمضيت فيه خمسة شهور وسبعة أيام للفترة من الرابع عشر من حزيران لغاية الواحد والعشرين من تشرين الثاني لعام 1995. توزّعتْ الايام سجالا بين مخفر العاصمة عمان، عشرون يوما للاستجواب، والبقية في السجن الشهير اياه.
كانت التهمة حيازة اقامة غير رسمية quot; مزورةquot; وكان حكم القاضي الذي صدر بعد تلك المدة (السجن لمدة واحد وعشرين يوما، ويخلى سبيلهم لقضاء المدة في السجن سلفا وزيادة) وبهذا تكون الاردن مدينة لي بزمن، سُرق مني باطلا، مدته اربعةُ شهورٍ وتسعة عشر يوما بالتمام والكمال.
كانت حياة الاعتقال تلك مثالا جليّا، أبعد الله عنك ما يماثله، للسائر من السجون في كل بلاد العرب المجيدة، مونولوغا مستمرا من الكوابيس الرهيبة والعذابات، فقد رأيتُ وعشتُ هناك حياة لو اطلعتَ عليها لولّيتَ منها فرارا ولمُلئتَ منها رعبا. كانت خلطة عجيبة من الاهانات اللفظية والشتائم والتحقير والتسفيه والضرب والجلد والايقاظ الصباحي ضربا بالعصيّ والهراوات، اضافة الى التشبيح، وما ادراك ما التشبيح، ربط اليدين الى ما أعلى الرأس بالجامعة (الكلابشات) الى سياج حديدي ويُترك السجين مشبّحا كي ينام ليلته وقوفا. وقد جُففتُ وعُلبتُ بالأحرى خُيستُ ( وفق التعبير العراقي الدارج) هناك لأن جهاز القضاء كان في اجازة (سُبات صيفي) حتى نمتِ الطحالب والقواقع تحت سروالي والقملُ والبراغيث الذرية في ما بين التلافيف والتجاويف بسبب بطانيات السجن الزكية الرائحة المعتقة منذ آدم، كانت كل قملة بحجم حبة فاصوليا، وهي مزودة بكلابات وقراصات بالرغم من اننا في آخر المطاف آلفناها ودجّناها، وبدأنا بتنظيم مهرجانات ورهانات لسباقات القمل في الجري، لكنّ الطبعّ غلب التطبّع، وكانت دائما ما تجد لها سبيلا هيّنة الى دمائنا. اضافة الى مرض الروماتزم الذي توغّل في مفاصلي نتيجة النوم على الكاشي( البلاط) المجرّد العاري في شتاء بلدك القاسي مثل قلوب العسكر الكرماء، وقبلَ أنْ، وبعدَه ايضا، عرّش الياس عفوا اليأس والقنوط والاحباط في قلبي، ولولا بقايا تربية دينية ورثتُها عن ابي الزاهد لانكرتُ الوجود وخالق الوجود. وقد غادرتُ السجن بعدها شبه ميت، مثل خرقة بالية تمسحُ بها عجوز بائسة مصابة بالجَرب ارضية غرفتها التي تتقاسمها مع الجرذان. وغادرتُه ايضا مسكونا بالمخاوف والكآبة والاضطرابات النفسية والعقلية، ومن ثمار ذلك خرابُ بيتي وطلاقي من زوجتي واطفالي الثلاثة، وذهابُ بَصرِ أمي بكاءً وغماً، ومَرَضُ أبي وموتُه فيما بعد حزنا وهمّا على حال ابنهما سيئ الحظ. حتى قصاصات اوراقي التي كنت ادوّن فيها قصائداً وكتاباتٍ أخرى وسكيجات رسوم، والتي كانت سلوتي الوحيدة حيث لا سلوة ولا عزاء في ذلك المكان اللطيف، كان يصادرها - ظنا انها تخطيط لانقلاب في القصر الملكي- العسكر المخلصون (الاميّون) في كل مرة كنا نغادر السجن الى المحكمة ونعود خائبين لانّ حضرة القاضي المبّجل، وكلّ جهاز القضاء في اجازة صيفية، هل يَعقل هذا احدٌ من البشر او من الجن، وحين طالبتُ وقتها بإعادة تلك الاوراق سُحبتُ الى غرفة مجاورة حيث جُلدتُ وأُهنتُ وضُربتُ ورُفستُ مثل كلب عقور في مسجد لجماعة أصولية متشددة.
على اية حال، لا اريد الاطالة عليك ايها النبيل، علما ان وقتك ثمين مثل كل اوقات النبلاء، ربما أثمنُ من حياتي وحريتي التي سُلبتْ على غفلة من العدالة الانسانية في الواقع العربي العجيب، لكني اذ أبعثُ بشكواي هذه، أكاد اتلّمس أمَلاً أنّ مظلوميتي ستجد لديك قلبا مفتوحا واذنا صاغية، كي تنتصر لاخيك المظوم فلعله يستعيد بعضا مما سلب منه ظلما وجورا وفسوقا في الارض.
كلي أملٌ ورجاء، ايها النبيل الذي لولا الامل والرجاء الذي أراه في محيّاك، لما تجشّمت عناء الخطاب اليك ومشقته، ولوفّرت عليكَ وعلى نفسي الوقتَ والجهد والكلمات، أن تقف معي، ولو بقلبكَ، وهو اضعف الايمان، لكفاني، في مطالبة حكومة الاردن باصدار أمر، وليكن ملكيا اذا ارتأيتَ، للمسؤولين في بلادك بفتح تحقيق في شكواي هذه ليس في سوء المعاملة والتعذيب الذي واجهتُ فقط، بل في المدة التي سُرقتْ من عمري عبثا دون وجه حق، وغاية مرامنا هي التالي:
اولا : اعتذار رسمي من وزارة الداخلية الاردنية والجهاز القضائي عما لحق بي وبأقراني من حيف وظلم ونسيان أو لنقل إرجاء ( ومنه المرجئة، الفرقة الدينية المعروفة) نتيجة الاستجمام الصيفي للجهاز القضائي.
ثانيا: تعويض مالي عن التعذيب الذي تعرضت له، وفائض المدة التي تدين الاردن بها لي، مَبلغٌ عينيّ يقدّره اهل الشأن، احتاجه لصرفه على تكاليف علاج الروماتزم في مفاصلي والانهيارات النفسية والذهنية التي أعانيها منذ أنْ دخلتُ السجن حتى زمنِ وقتنا الذي نحن فيه.
ثالثا: وهذا هو الأهم، إعادة أوراقي وكتاباتي التي صادرَها العسكر الاميّون ظنا أنها تخطيط لانقلاب في القصر الملكي لعدم قدرتهم على فك الخط العربي.
هذا.. وعليك وعلى اهلك وبلدك المحبة والسلام.
ــــــــــــــــــــ
هامش...
للعلم رجاءً.. لمن يهمّه الامر
منذ ان غادرتُ سجن جويدة وتحديدا منذ وصولي الى استراليا كلاجئ سياسي وانا على اتصال مع امثالي من العراقيين ممن شمَلَتهم بَركَةُ السجن في الاردن لغرض تنظيم اوراقنا ووضع خطة عمل ( خارطة طريق) لقضياتنا، وقد بلغتِ التواقيع والتراخيص لمواطنين عراقيين من سجناء الاردن السابقين، ويقيمون الان في كل اطراف العالم، عددا معقولا لا بأس به لبدء حملتنا: quot;حملة الانتصار لانفسناquot; وشعارنا هو ما وَردَ في مستهل هذه الرسالة من كلمات. وقد قمنا عام 2005 بتأسيس منظمة غير حكومية، وتم تسجيلها وفقا لقانون المنظمات والجمعيات غير الحكومية في استراليا، وعنوانها ( منظمة الدفاع عن سجناء الاردن من العراقيين). وسيكون لنا عن قريب موقع خاص على الانترنيت ونشرة دورية واصدارات وقنوات مع عدد من وسائل الاعلام، حصلنا على ضوء اخضر من بعضها، وقد ارتأى اقراني من العراقيين ان نبدأ مشوارنا الطويل بقضية صاحب السطور هذه، كإجراء تكتيكي، جسا للنبض وردود الفعل واشارة لسجناء آخرين من العراقيين ولمحامين راغبين في الانظمام الى منظمتها، وسيكون لنا على ما اظن، ليس مشوارا فقط بل علاقة غرام حميم وجارف مع حكومة الاردن الموقّرة.
وانا عاكف، منذ فترة، والاخرون معي على تدوين تفاصيل يوميات سجوننا في الاردن، ومن المؤمل نشرها في رواية ( مذكرات سجون مشتركة) لاحقا، وسنبعث بيومياتنا ووثائقنا الى كل المنظمات وجمعيات حقوق الانسان غير الحكومية وايضا للحكومات العادلة على الارض، خاصة واني الان مواطن استرالي وورائي دولة محترمة وحكومة دستورية ولن تتخلى عن رعيّة من رعاياها أصابَها حيف في ايّ زمن وفي اي مكان. ولن تَقصُرَ بنا السبلُ في زمن التكنولوجيا وثورة المعلومات والإله الشخصي الجميل/ الانترنيت عن بلوغ مرامنا وابلاغ قضياتنا.
والله غالب على امره.
فاضل الخياط
شاعر ومترجم عراقي يقيم في سدني منذ1998.
عن: ( منظمة الدفاع عن سجناء الاردن من العراقيين).
[email protected]
التعليقات