هل شارف شهر العسل الكردي على نهايته، هل مكتوب على المساكين والمتعبين ان يشعروا بالراحة والاستفرار تأتيهم على شكل جرعات متقطعة او كمَات من الضوء كما توصي النظرية الكمية؟ أم هل اصبح الراعي الامريكي والضابط لمفاتيح المنطقة يرى ان ( دلاله ) للفتى الكردي اليافع قد قطع شوطا كبيرا الى الحد الذي قد تفلت الامورليمثل الفتى خطرا على نفسه والاخرين؟ أم انها ذات اللعبة القذرة يتجرع علقمها الاكراد من جديد فيكونوا رقما في سوق المساومات الدولية والاقليمية لتعيدهم الى المربع الاول مرة اخرى او ترسم على الاقل لوحة خطوطهم الحمراء وتكتب فوقها حذاري من الاقتراب.
ان المتابع يجد نفسه مجبرا على الوقوف مليا امام الدوافع التركية المتناغمة مع الرغبة الامريكية وبعض الاطراف العربية والعراقية من التصعيد الاعلامي والسياسي لملف حزب العمال االكردستاني في الوقت الذي كان ولازال بمقدور تركيا ان تعالج الامر بهدوء عسكريا وبالطريقة التي تراها مناسبة حيث كانت العملية ستمر ببضعة بيانات استنكار تصدر هنا وهناك لتكون زوبعة في فنجان، ولهذا فالاعتقاد السائد ان الهدف الرئيسي من هذا التصعيد يتعدى رؤوس بعض قيادات ومقاتلي حزب العمال الكردستاني ليمثل بالدرجة الاولى محاولة ماكرة لسحب ارجل القيادات الكردية العراقية الى الحفرة المطلوبة فتخرج منها على الاقل ببعض الخسائر إن لم تسبب لها خسائر جوهرية.
ربما يشكل الموقف الراهن واحدا من اكثر المواقف حراجة للقيادات الكردية العراقية كونه يضعها على مفترق طرق خيارات مريرة، فالشعور القومي والاهداف القومية العليا ونظرة الشارع الكردي، اينما يتواجد المواطن الكردي، الى التجربة الكردية العراقية كونها الامل المرتجى ومحور الانطلاق نحو الامال القومية، مضافا اليه الايمان الغريزي والعقلي للقيادات الكردية العراقية بالقضية التي يقاتل من اجلها رفاق عبدالله اوجلان الذين باعتقاد هذه القيادات لايهدفون السيطرة على انقرة وحكمها بالحديد والنار، بل كل ما يرمون اليه هو الحصول على حقوقهم في المناطق التي يتواجد فيها شعبهم كأكثرية، وولذلك ربما ترى االقيادات الكردية العراقية ومعها جزء ساحق من الشارع الكردي ان تأييدها وصف حزب العمال الكردستاني بالارهاب أشبه بمشاركتها في توجيه خنجر مسموم الى قضية شعبها ويعني ذلك ايضا دفن كل تاريخها الشخصي والقومي ونضالها وثوراتها وقتالها لعقود مضت بسبب وحدانية الهدف والاسلوب والقضية. من جانب اخر فان الافصاح عن المشاعر وتأدية الواجب القومي يعني ارتكاب جنحة سياسية لاتُحمد عواقبها في عالم اليوم حيث تهمة الارهاب ورعاية الارهاب تحتل المرتبة الاولى في قائمين المطلوبين ( للعدالة الامريكية ) وبالتالي دخول السجل الامريكي لتصنيف الاعداء، ولذلك فان موقف القيادات الكردية العراقية لايحسد عليه، شبيه بموقف العاشق المتيم بالحب الذي لايستطيع البوح بمشاعره لان الخبثاء يتربصون له وهم جاهزون لاستغلال اية اشارة او كلمة حب حتى ولو كانت بريئة فيلصقون به زورا وبهتانا تهمة محاولة ارتكاب الفاحش وخرق الشريعة.
ان تركيا التي يبدو انها ضاقت ذرعا بالقيادات الكردية العراقية حيث تعتقد ان توجهات هذه القيادات تمثل خطرا على مصالحها في تركيا والعراق على حد سواء قد ألت كما يبدو على نفسها ان تستثمر ملف المتمردين الاكراد في تركيا الى مداه الاقصى حيث تستخدم بكثافة اسلوب الاستفزاز املا في رفع درجة حرارة الرأس فيتقدم برد الفعل المطلوب في الطريق الى الحفرة، وما الاخبار الاخيرة التي تناقلتها الانباء عن رفض الجانب التركي مشاركة ممثلين عن الاحزاب الكردية العراقية في المفاوضات التي يجريها وزير الدفاع العراقي في انقرة إلا احد الامثلة على ذلك يضاف اليه امثلة وافعال اخرى دفعت وقد تدفع بعض المسؤولين الاكراد الى ردود افعال مقابلة، كل ذلك من اجل هدف اوحد يصل في النهاية الى محاولة جدية لوضع الاكراد في الزاوية الضيقة فيعلنون وقوفهم رسميا و شعبيا الى جانب حزب العمال الكردستاني وبالتالي الى جانب ( الارهاب ) لتبدأ الصفحة الثانية من الملف. يحدث هذا في وقت يعلم الجميع ان تركيا تُمسك بالادارة الامريكية في مناطقها الحساسة حيث كيف يمكن لهذه الادارة ان تحجب عن تركيا حقها في مطاردة (الارهاب ) وهو يقف على عتبة ابوابها الخارجية في الوقت الذي قطعت تلك الادارة البحار والمحيطات وألاف الكيلومترات لتطارد وتقاتل ( الارهاب ) حفاظا على بلدها كما تتدعي ومن اجل مصالحه العليا. وهنا ينكشف للعيان حجم الفوضى التي خلقتها الادارة الامريكية في العلاقات الدولية بسبب حماقاتها حيث من سيردع ايران مثلا لو قررت غدا ركوب موجة مكافحة الارهاب واجتياح العراق بحجة القضاء على منظمة مجاهدي خلق الايرانية المعارضة؟!
اما الادارة الامريكية فان اعادة تعيير اللاعبين والحلفاء المحليين يقع في مقدمة جدول اولوياتها حرصا على ضمان ان يؤدي الجميع الادوار التي تنسجم مع مصالح تلك الادارة وهي تقف بالضد من اية محاولة يقوم بها البعض لتسخير السياسة الامريكية في المنطقة لصالح اجندته الداخلية والوطنية خارج الحدود المسموحة، والسياسيون الاكراد يدركون جيدا هذه الحقيقة لابل يقرِون بحجمهم وتاثيرهم ومكانتهم في هذه الادارة ولذلك فان السياسي الكردي المستقل والمعتدل والواقعي والصريح ( بالرغم من ان الصراحة هي ميزة عامة لدى اغلب السياسيين الاكراد ) الدكتور محمود عثمان كان واضحا في الاجابة على تساؤل في احدى المقابلات التلفزيونية حول مع مَن ستقف الادارة الامريكية في النزاع القائم بين الاكراد وتركيا فاجاب بدون تردد ( مع تركيا طبعا ). لكن المسؤولين الاكراد يتخوفون من ان تكون الادارة الامريكية قد قررت في الغرف المظلمة بيعهم وبيع قضيتهم بالكامل في سوق المساومات الرخيصة كما غدرت بهم مرارا في تجارب سابقة، وقد تحدث السيد مسعود البارزاني في احد اللقاءات التفزيونية فاشار بمرارة الى غدر كيسنجر في سبعينات القرن الماضي بالقضية الكردية وقائدها المرحوم الملا مصطفى البارزاني.
ان الواقع السياسي العراقي بعد الاحتلال يُظهر تحفظا واحيانا إمتعاضا تبديه بعض الاطراف السياسية العراقية تجاه الدور الكردي المتعاظم وخاصة من قبل تلك الاطراف التي ترى ان هذا الدور يهدف الى إحراز تمدد في مناطق محسوبة عليها او في مناطق الاحتكاك معها، في حين ان اطرافا سياسية اخرى اصبحت تتحكم بعد الاحتلال بالقرار الرسمي التمثيلي في العراق معتمدة على الساق الكردية ينتابها الشعور في انها رهينة الابتزاز الكردي واسيرة ترضيته ومداراته على الدوام ( مثل الماء في الصينية ) كون الجانب الكردي يتعامل معها مستندا الى نقاط القوة التي يمتلكها في اقليم أمن مستتب ينتعش اقتصاديا واطراف منسجمة فيما بينها تتولى ادارة اموره بينما تعاني تلك الاطراف في المركز وفي مناطق نفوذها من نقاط ضعف داخلية ووطنية متشعبة، ولذلك ترى تلك الاطراف جميعا في الازمة الكردية التركية فرصة قد تفرز في نتائجها عوامل تؤدي الى تحديد وتحجيم فعل القرار الكردي على الساحة العراقية. ربما يتهمنا البعض باننا نشير هنا الى فقدان الثقة بين الاطراف السياسية المشاركة في العملية السياسية بعد الاحتلال ولكن الاداء السياسي لتلك الاطراف خلال الاربع سنوات الماضية والمشهد السياسي الذي نعيشه كانعكاس لذلك الاداء يؤكد ان التوجس والريبة والشك في النوايا هي سمات صارخة للعلاقات التي تحكم هذه الاطراف فيما بينها، ناهيكم عن ان نظام المحاصصة الذي دشنت به هذه الاطراف تلك العلاقات هو خير برهان على افتقارها لمستويات عالية من الثقة المتبادلة. ان الخطاب الكردي يتحمل ايضا جزءا من المسؤولية في النظرة المتحفظة لبعض الاطراف السياسية العراقية الى الدور الكردي لان هذا الدور بقي، ولاسباب قد لايتفهمها الجميع، يعطي انطباعا انه يعمل لكي تميل كفة الميزان لصالح الاهداف القومية الاثنية على حساب الاهداف الوطنية العراقية، قد يكون بعض المسؤولين الاكراد ينطلقون من حسن نية هدفها التهديد بغرض الحث الى اقصى درجة عندما يذهبون في خطابهم الى التلويح بانهم لن يكونوا جزءا من عراق غير اتحادي تعددي فدرالي ديموقراطي ولكن كثيرين من مناصري القضية الكردية من غير الاكراد يجدون في خطاب كردي يؤكد على ان الاكراد سيجاهدون ويناضلون حتى النهاية من اجل تحقيق هدف وطني نبيل يتمثل في عراقي تعددي اتحادي ديمقراطي فدرالي موحد هو الخطاب الاثر انسجاما للمصالح القومية الكردية والوطنية العراقية على حد سواء.
يكره الكثيرون الحديث عن نظرية المؤامرة لانهم سئموا استغلال البعض لها لتبرير سقوطهم فيها، بالرغم من ان رائحة المؤامرة في قضية الازمة الكردية التركية قد اصبحت تثير حساسية في الانوف. على كل حال اذا شئنا على تسمية مايحدث ( باللعبة ) فان دلائل كثيرة تشير الى ان هجمة مرتدة خطيرة قد انطلقت باتجاه الملعب الكردي وان الحكم الامريكي قد انفتحت كما يبدو شهيته ليعلن ضربة جزاء مثيرة لانه اصبح يرى ان تحقيق هدف على الاقل في المرمى الكردي في الظروف الراهنة هو حاجة ملحة.
د. وديع بتي حنا
التعليقات