يحتفل الجزائريون هذه الإيام بالذكرى الثالثة و الخمسين لإندلاع ثورة نوفمبر والتي فجرهّا مجموعة من ثوّار الجزائر في الفاتح من تشرين الثاني ndash; نوفمبر سنة 1954، و هذه الثورة التي بدأت بمجموعة محدودة من المجاهدين ما فتئت أن تحولّت إلى ثورة شعبية عارمة ضدّ الإستعمار الفرنسي شارك فيها كل شرائح المجتمع الجزائري، و قبل ذلك قال أحد أبطال معركة الجزائر و أحد رموز الثورة الجزائرية العربي بن مهيدي ألقوا الثورة إلى الشارع يتلقفهّا الشعب!!
و خلال صراع دموي إستمر سبع سنوات بين 1954 و 1962 تمكنّ الشعب الجزائري من إنجاز الإستقلال الذي إنتظره الشعب الجزائري 130 سنة كاملة أي منذ بداية إحتلال فرنسا للجزائر في تموز من عام 1830..
و يذهب بعض العارفين بخبايا الثورة الجزائرية أنّ ثوّار جبهة التحرير الوطني ناقشوا في الجبال الجزائرية مشروع الدولة التي سترى النور عقب الإستقلال، و أن مؤتمر الصومام الذي إنعقد في مدينة بجاية في سنة 1956 لتنظيم شؤون الثورة الجزائرية ناقش موضوعة الدولة الجزائرية وجاء في ميثاقه أنّ الدولة التي سيتمّ تأسيسها عقب الإستقلال ستكون مرتكزة إلى البعدين العربي و الإسلامي وقد أجمع على هذه المسألة كافة قادة الثورة الجزائرية.
غير أنّه وقبيل إستقلال الجزائر بقليل دبّ الخلاف بين قادة جيش التحرير و برزت الجهوية إلى العلن بل وقعت بعض التصفيات في صفوف الثوّار وقد إستمرّ هذا الخلاف بين قادة التحرير إلى ما بعد الإستقلال الأمر الذي جعل الشعب الجزائري يتظاهر وينددّ بهذه الخلافات و يصرخ ndash; سبع سنوات بركات ndash; أي تكفينا سبع سنوات من الدماء..
غير أنّ صنّاع القرار في ذلك الوقت لم يعبأوا لصرخات الشارع الجزائري، و حسم الموقف السياسي لصالح هيئة الأركان بقيادة هواري بومدين و تمّ الإطاحة بالحكومة المؤقتة وجرى تعيين الرئيس أحمد بن بلة على رأس الدولة الجزائرية، و إبن بلة كانت تعوزه الثقافة و التكوين السياسي والدهاء ذلك أنه لم يكمل تعليمه وكان منصرفا إلى كرة القدم، غير أنه كجزائري شريف هاله أن يستمر الإحتلال الفرنسي جاثما على وطنه فأنضمّ إلى صفوف حزب الشعب وسجن بعد عملية قام بها في مدينة وهران، وكونه كان في السجن في سنوات جمر الثورة الجزائرية فقد صعب عليه أن يفهم طبيعة الأمور و الهرمية العسكرية في الجبال الجزائرية، و يقال أنّ الرئيس المصري جمال عبد الناصر لعب دورا كبيرا في إيصاله إلى ذروة الرئاسة، ويعترف إبن بلة نفسه أنّه كان ضئيل الثقافة بعد تسلّمه السلطة، و أنّ جلّ ثقافته حصل عليها في السجن بعد أن أطاح به أقرب الناس إليه وزير دفاعه هواري بومدين في 19 حزيران ndash; يونيو 1965.
و الثورة الجزائرية التي كانت كبيرة بحجم الشعب الجزائري لم تنتج قيادة كبيرة كبر الثورة الجزائرية و هو الأمر الذي إنعكس على مسار الثورة الجزائرية و نمو أطروحتها في مرحلة الإستقلال.
و الذين قادوا الجزائر بعد الإستقلال حجمّوا الثورة الجزائرية كما حجمّوا الشعب الجزائري الذي قدمّ كل ما لديه لهذه الثورة العملاقة، وفرضوا أحادية سياسية سلطوية أصبحت بموجبها السلطة وإمتيازاتها حكرا على رجالات حزب جبهة التحرير الوطني الذين أقصوا حلفاءهم و خصومهم، ففي عهد أحمد بن بلة جرى إغتيال خيضر و الحكم بالإعدام على الرئيس الراحل محمد بوضياف وإعتقال حسين آيت احمد وغيرهم كثير.
كما أنّ القيادة السياسية الجديدة فرضت خيارا سياسيا و إيديلوجيا لم يختره الشعب الجزائري بل فرضته طبيعة التحالفات بين بعض قيادات الثورة الجزائرية والمحور المصري والسوفياتي آنذاك، وهذا الذي جعل رجلا في حجم البشير الإبراهيمي نائب الشيخ عبد الحميد إبن باديس زعيم جمعية العلماء المسلمين يرى أنّ الجزائر تتدحرج إلى حرب أهلية و هو الأمر الذي جعل الرئيس إبن بلة المنادي بالعروبة والإسلام اليوم يعتقله و يجمّد الراتب الذي كان يحصل عليه من وزارة الأوقاف...
وبدل أن يكون حزب جبهة التحرير الوطني في خدمة الشعب الجزائري الذي عاني الويلات والأمرين من إحتلال دموي و ظالم إستمرّ 130 سنة فقد تحولّ إلى حزب ديكتاتروي أمني متسلط ورطّ الجزائر سياسيا و إقتصاديا وثقافيا و نهضويا، فعلى الصعيد السياسي فرض حزب جبهة التحرير الوطني أحادية ظالمة ظلمت الجميع الإسلاميين و اليساريين و الأمازيغ و جردّ الشعب الجزائري من كل حقوقه السياسية بل و دخلت الدولة الجزائرية في حرب تصفيات ضد الحلفاء والخصوم، من قبيل إغتيال كلريم بلقاسم في ألمانيا وهو أحد صنّاع الثورة الجزائرية و إعدام العقيد شعباني و غيرهم، حيث ملف الإغتيالات السياسية في الجزائر بعد الإستقلال ثقيل ينأى بحمله التاريخ المعاصر للجزائر.
وعلى الصعيد الإقتصادي فقد أثرى صناع القرار في الجزائر و المحسوبين على حزب جبهة التحرير الوطني وكبار الضباط الذين شيدوا الفيلات وإستولوا على مقدرات البلاد، و كانت الإمتيازات لا تعطى إلاّ لصناع القرار و حاشيتهم، و ثقافيا إستمرت الهيمنة الثقافية الفرنسية على الجزائر حيث كانت الغلبة للتيار الفرانكفوني الذي ورطّ الجزائري في هويتها وثقافتها وإنتمائها سابقا وراهنا...
ولم تمض ثلاث سنوات على إستقلال الجزائر حتى دشنّ هواري بومدين مسيرة الثورة بإنقلاب عسكري زاد من تلاحم النظام السياسي بالجيش والجيش بالنظام السياسي حتى أصبحت المعادلة في الجزائر أنّ النظام السياسي هو الجيش والجيش هو النظام السياسي، و إزداد رجالات الدولة غنى وتسلطا وكانت الهوة تزداد بين الشعب من جهة و سلطته التي حكمته بإسم الثورة لكن حرمته من كل حقوقه، و كانت نتيجة ذلك سرقة 30 مليار دولار من قبل رجالات القرار كما إعترف بذلك رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق عبد الحميد الإبراهيمي وما خفيّ كان أعظم بطبيعة الحال ومازال عدد السارقين السلطويين في إرتفاع خصوصا مع الطفرة النفطية الرهيبة، و زيادة عدد البائيسن و العاطلين عن العمل، و ظهرت في الجزائر طبقة الخمسة بالمائة التي صادرت مقردات الجزائر وسرقت أموال الشعب الجزائري، و في المقابل كوفئ الشعب الجزائري بالظلم و أزمات السكن و البطالة و ضياع الفرص الكريمة للعيش.
وكل هذه التطورات جعلت الشعب الجزائري يفقد الثقة بالكامل في النظام الذي سرق ثورته و سرق آماله وتطلعاته، وهو ما يفسرّ عدم إستقرار الجزائر لأنّه إذا غاب العدل ظهرت الثورات و الإنتفاضات!!

يحي أبوزكريا