لوكنت المرجع الأعلى فماذا أفعل؟ سؤال افترضه كاتب هذه السطور، و أجاب عليه، لمناسبة كثرة الحديث عن المرجعية الشيعية في الآونة الأخيرة، وقد تضمن آراءه الخاصة فيما لو أصبح مرجعاً لعموم الشيعة الإمامية في العالم، وبين يديك الحلقة الأولى من اجابته التي رفعها إلى مقام المراجع العظام في مجلس الأربعة (COUNCIL OF FOUR) آيات الله: السيد علي السيستاني) الإيراني (، والسيد محمد سعيد الحكيم) العراقي (، والشيخ إسحاق فياض) الأفغاني (، والشيخ بشير النجفي ) الباكستاني.


((إن المرجعية تبتني على رقابة الناس على المرجع، فعليهم أن يُؤدّوا واجبهم من موقعهم، ولا يتساهلوا في ذلك ويقفوا منه موقف المتفرج اللامبالي)) المرجع السيد محمد سعيد الحكيم


** *
((وما هو بالضئيل خطر المتحجرين والحمقى من المتظاهرين بالقدسية في الحوزات العلمية، فلا يغفل الأعزاء طلبة العلوم الدينية، ولا للحظة واحدة عن هذه الأفاعي ذات الظاهر المغري والخدّاع.. وما قطعته هذه الفئة المتحجّرة من نياط قلب أبيكم الشيخ، هذا ولم تستطع ـ أبداً ـ أن تقطعه كل ضغوط الآخرين والمشاق التي سببوها... وعلى حدّ زعم بعضهم فإن عالم الدين يكون جديراً بالاحترام والتكريم عندما يكون غارقاً في الحمق بشكل كلي، وكان تعلم اللغات الأجنبية يعدّ كفراً، ودراسة الفلسفة والعرفان تعد معصية وشركاً، وفي المدرسة الفيضية شرب ولدي المرحوم مصطفى ـ وكان آنذاك صغيراً ـ ماءً من زيرخزفي من تلك المدرسة، فقام بعضهم بغسل الزير الخزفي بالماء لتطهيره! ذلك لأنني كنتُ أدرس الفلسفة، وأنني على يقين من أنه لو كُتب لهذا التيار الاستمرار لأصبح وضع الحوزات الدينية وعلمائها كوضع كنائس القرون الوسطى..)). الإمام روح الله الموسوي الخميني 22 / 2 / 1989

هذا موضوع شائك... وماذا أفعل وقد عجز عن إصلاح المرجعية وتجديدها جمهرة من المجتهدين الكبار كالسيد أبي الحسن الأصفهاني، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد الخميني، والسيد الصدر..


لذلك كنتُ أتردد كثيراً في قبول هذا المنصب.. فإذا قبلته عملت ما أمكنني على إصلاحها، وأول هذا الإصلاح Reformation أني أسأل نفسي وأتسائل:


ما رسالة المرجعية؟
فأُجيب بأن رسالتها التعليم الديني والتوعية الإسلامية والإرشاد العام، لذلك كان من البديهي أن أجعل المرجعية جامعة بمعنى الكلمة تُعنى بهذه الأمور عناية كاملة، وأن يُخطط لها من حيث البناء والعمران والمناهج وأساليب التدريس وأنظمة التعليم بما يُوازي الجامعات الكبرى في العالم المتمدن كجامعة أكسفورد وجامعة هارفرد وأمثالها، وأن يستزاد في شرائط قبول الطلبة ما يثبت رغبتهم الشديدة للتعليم المنشود، وأن تكون لهم من مخائل النجابة والإنسانية، والتسامح والرجحان العقلي والفكري والأخلاقي ما يميزهم عن غيرهم، فهؤلاء قادة المستقبل ومهذبي أرواح البشر من أدران الخطيئة والشر ـ فإذا فَسدَ عالِم الدين فَسدَ العالَم ـ كما يقال ـ ومما يؤثر عن علماءنا جيلاً عن جيل، أن صلاح أهل العلم فيه صلاح الأمة وأن فسادهم فيه ضياعها واضمحلال شأنها، ولذلك قال الشاعر:
يا معشر القراء يا ملح البلد

من يصلح الملح إذا الملح فسد

وبذلك أستطيع أن أبذل جهدي كله في التعليم العالي، وستتحقق بعد حفنة من السنوات أسماء لامعة بين الخريجين المتخصصين بالدين لا يميزه عن غيره من خريجي الجامعات العالمية المعتبرة إلاّ هذا التخصص، ويزيد عليه شعور بالتسامح والفضيلة، والتزام بواجب الإرشاد والتوعية، وسعة في الأفق والفكر واللغات والثقافات والتجانس مع نظرائه في الإنسانية، وإخوانه في الدين.

وبما أن المرجعية منار العالم الإسلامي، فينبغي أن تكون مناراً للخلق والعلم، ويجب أن أجعل المرجعية كما كانت في العهود المنصرمة مطلوباً لا طالباً، ومعززاً لا مستجدياً، والمرجع يقول الكلمة فترتجُّ منها أركان الحكومات، وهذا يتطلب أمور منها:


الأمر الأول:
بُعد المرجعية عن السياسة، فالمنارة كالشمس تضيء للناس على السواء، وليس من الحق أن تناصر المرجعية سياسة ما، وخصوصاً السياسات الحزبية أو الفئوية أو القومية، فإن المرجعية باقية وما عداها من المسميات المذكورة متغيرة أو محدودة الاتجاه، كما أنه ليس من الحق أن تتقلب المرجعية مع السياسة من حين إلى حين، فإنَّ هذا يحط من مكانتها في رأي الناس، ومن رأيي أن تتدخل المرجعية في مجريات السياسة عند الأزمات العاصفة، وأن يكون تدخلها كتدخل مبضع الجراح الماهر، وفي الموضع المطلوب المحدود، ولنا في تجارب أسلافنا من النقاط المضيئة في هذا الشأن ما يغنينا عن الشرح، كما هو الحال مع: ثورات العلويين ضد الطغيان الأموي والاضطهاد العباسي والتركي، وفتاوى الجهاد ضد المحتلين البرتغاليين في الهند، والموقف المشرف للحمدانيين والمرداسيين والخشَّابين ضد الصليبين من الروس والبلغار والألمان والبلجيك، وفتاوى النضال ضد الغزو الفارسي أيام نادر شاه إلى دلهي، وقد كان قائد المقاومة آنذاك الأمير الشيعي الهندي اعتماد الدولة بالإضافة إلى تجويز الفقهاء للثورة الهندية الشاملة ضد الإنجليز سنة 1856 م، وثورة الشعيبة وحركات الجهاد ضد الاحتلال الإنجليزي للعراق سنة 1914، وثورة النجف في آذار 1918، وثورة العشرين 1920، ودحر الاحتلال الروسي لخراسان وبلاد إيران، وانتفاضة النجف سنة 1956 انتصاراً للأمة العربية والزعيم جمال عبد الناصر بعد إعلانه تأميم قناة السويس، تلك الانتفاضة التي أجمع على تأييدها كافة مراجع الدين تأييداً كبيراً بل أن المرجع الفقيه السيد عبد الحسين شرف الدين أعلن في فتواه بأنه (جندي تحت راية الحق التي يحملها جمال عبد الناصر).

بالإضافة إلى فتاوى العلماء ومساعداتهم المادية لإخوانهم المجاهدين في ليبيا والزعيم الخالد عمر المختار في وقفتهم المشهودة ضد العدوان الإيطالي خلال الحرب الطرابلسية سنة 1911.

وفتاواهم ومساعداتهم للمغرب الشقيق ضد الاستعمارين الفرنسي والبرتغالي ودعمهم لزعيم الريف المجاهد الأكبر السيد عبد الكريم الخطابي رحمه الله.


ومثل ذلك ما صنعوه في تأييد الثورة الجزائرية الكبرى ضد الفرنسيين، ومواقف علمائهم من قضية فلسطين وكل قضايا الأمة الإسلامية واضحة منشورة، وكل ذلك قد تحقق بإشارات من المرجعية حين يتطلب الأمر ذلك، وعندها تستجيب لذلك الجماهير المؤمنة عن طيب خاطر، وتساهم اسهاماً فعالاً فيما تتطلبه المرجعية من الأوامر والنواهي لا كما وصل إليه الحال في هذه الأيام الأخيرة، بعد التدخل السافر في الأمور السياسية (دون الوعي بحقائق الأمور)، وهو الأمر الذي أضعف مقام المرجعية فأصبحت فتاواها وأوامرها في مهب الريح.

وقد فطن لهذا الموضوع مبكراً الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه حينما أصدر فتواه الشهيرة ـ قبيل استشهاده ـ بحرمة دخول المنتسبين للحوزة العلمية لحزب الدعوة الإسلامية، ولا شك أنه ـ رحمه الله ـ قد كتبها بعد تجربة وخبرة، وهو في ذلك قد اقترب مع تجربة وخبرة الإمام المجتهد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي أصدر في حياته فتوى حرمة الانتماء للأحزاب الإسلامية.

ومن الحكمة والعقل أن لا يحمل أي حزب سياسي بعد الآن سمة الإسلامية، ولا أي رمز ديني أو طقوسي Rites، كما يجب منع تداول أسماء الأئمة المعصومين والصحابة والأولياء وخلعها على مسميات للمنظمات أو الهيئات أو الدكاكين ذات المسحة السياسية ظاهرة أو مستترة.
ويجب كذلك السعي أن لا يصدر في الإعلام المطبوع أو المرئي أو المسموع أي تصريح أو بحث أو كتاب له صلة بعقائدنا وعقائد الآخرين إلا بموافقة اللجنة الخاصة المعنية بهذا الأمر، وما خرج أو تخلف عن ذلك فهو المسؤول عن قوله وعليه وزر فعله.

والأمر الثاني:
أني من أنصار اختيار العدد الصالح أو ((النخبة)) من الطلبة والعلماء، كما أنني من أنصار اختيار طلبة العلوم الدينية من الحائزين على شهادة البكالوريا العامة وأركز على المتفوقين واللامعين منهم حصراً ليتابعوا التعليم الديني بكل مستوياته في الجامعات المتقدمة، ونعتقد أن التعليم الديني العالي لا يصلح إلاّ للخاصة فلست من أنصار فتح الباب على مصراعيه، بل أحدد عدد طلبة العلوم الدينية بقدر صلاحية الطلبة والمدرسين المعيّنين والمنتدبين وبقدر حاجة الحوزات والجامعات والمؤسسات الدينية من المساجد والحسينيات وغيرها.

وإذا نظرنا إلى المرجعية في هذا الضوء، وجدنا عشرة آلاف أو هذا النحو تكفي لأبناء طائفتنا في شتى الأنحاء فليس الحوزات الدينية ((تكية)) أو ((منتدى)) ينتسب إليه المنتسب لقضاء فراغ أو لأي غرض آخر، إنما الغرض تحصيل العلم لأداء الرسالة المخصصة للحوزة العلمية.
ثم أتجهُ بعد ذلك إلى التعليم في الحوزة فأساير الزمن وأجعل التعليم على أسس التربية الحديثة، فلا أجعل جدّ الطلبة منصرفاً إلى جدال لفظي، ولا أجعله منصرفاً إلى كلام غير ذي موضوع، ولا أجعله جارياً على أساليب القرون الوسطى، وإنما أجعل ما اشتهر عن طلبة الحوزة من الجد منصرفاً إلى الموضوع لا إلى الشقشقة اللفظية، وإلى الجوهر لا إلى العرض.
وأختار من بين الموضوعات ما يُناسب العصر الحاضر والمستقبل لا الماضي، وأجعله بلغة العصر وأساليب العصر لا بلغة الماضي وأساليب الماضي.

وأجعل الحوزة طلبتها وعلماءها يقفون على الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلادهم وفي العالم أجمع، ولا يكونون منعزلين عن العالم جاهلين به متجاهلين له، فكما أن كل شعب محتاج إلى من يثقفه ثقافة دنيوية من فيزياء وكيمياء ورياضيات.. الخ على آخر ما وصل إليه العلم الحديث، فكذلك علماء الحوزة مطالبون بنشر الثقافة الدينية وعرضها عرضاً حديثاً، ويجب أن لا يفوتنا التطور الحوزوي الذي طرأ أعلى الدراسة الدينية وقانونها ومناهجها خلال ثلاثة عقود في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل الواجب يقتضينا الاطلاع عليه واقتباس محاسنه والإضافة إليه وتنميته وجعله مواكباً لهذا العصر وكل عصر من خلال الدستور المرجعي الذي يقتضي تقديم التقرير السنوي بشأن المناهج وما جرى عليها من تطوير وإدامة. يتبع...

محمد سعيد الطريحي
صاحب مجلة الموسم