هذا موضوع شائك... وماذا أفعل وقد عجز عن إصلاح المرجعية وتجديدها جمهرة من المجتهدين الكبار كالسيد أبي الحسن الأصفهاني، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد الخميني، والسيد الصدر..

هنا تكملة مانشر في الحلقتين السابقتين:

الأمر الخامس:
التزم بالجنونين ((الشجاعة والكرم)) كما قال سيد الموحدين وإمام المتقين علي أمير المؤمنين عليه السلام ((جنونان لا أخلاني الله منهما الشجاعة والكرم)).
وأسعى سعي وأجهد جهدي على أن يكونا ضمن شروط المرجع إذا ما أراد العامة اختياره، شرطان لا يقلان عن الأعلمية وطهارة المولد... الخ.
إذاً كيف يكون الزعيم زعيماً وهو جبان!

لو كنت المرجع الأعلى 1-4

لو كنت المرجع الاعلى 2-4

أم كيف يكون الزعيم زعيماً وهو بخيل!
قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: ((لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكونَ في أموالهم نَهْمَتُهُ( ))).
وفي المقابل لا نرضى بمن يزهد الناس في الدنيا ولا يَزهد، ويدعوهم إلى الحب والمودة، وهو أبغض الناس للناس، وينهاهم عن الإسراف والبذخ وهو وأولاده وأصهاره وحاشيته منغمس في الترف، يرفلون في مطارف النعيم، وقديماً قال إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:
ما أقبح التزهيد من واعظ
يزهّد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقاً
أمسى وأضحى بيته المسجد

يخاف أن تنفذ أرزاقه
والرزق عند الله لا ينفذ

والرزق مقسوم على من ترى
يناله الأبيض والأسود

الأمر السادس:
لا أدعُ لي حاشية تتسمى باسمي فيقال حاشية المرجع الفلاني، ثم أتركها تعمل ما تشاء باسمي، وباسم المرجعية، فقد يكون منها بطانة سوء تستغلني وتستغل الدين لتنفيذ أطماعها، وهذا ما حذّر منه أمير المؤمنين عليه السلام في تأنيبه لعامله على البصرة وهو عثمان بن حنيف الأنصاري عندما بلغه قبوله دعوة إلى وليمة من أحد تلك الزبانية التي نطلق عليها ألقاب ((الحواشي))، كتب له الإمام عليه السلام يقول: ((وبلغني أن رجلاً دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان... وما ظننتُ أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو... ألا وأن لكل مأموم إماماً يقتدى به... ألا وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد...)).
وفي تقديري أن أكير البلاء يأتي من بطانة السوء، فالواجب الديني يحتّم عليَّ أن أتفحص عن رجال من أهل العلم والمروءة والإدارة، وأن يكونوا من المتقنين للغات الأجنبية، والمُجَرِّبِين وذوي الخبرة، وذوي الغيرة والشهامة، وأعيّن عليهم من يراقبهم ويتابع سير أعمالهم بصدق وأمانة، ولا أبالي بأراجيف المرجفين وأقوال المتنطعين ((فالإيمان)) كما يقول إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: ((أن تؤثر الصدق حيثُ يضرّك على الكذب حيثُ ينفعك)) ولكنني سألتزم أعواني ما داموا ملتزمين فالحكمة تقول ((أنني صغير بنفسي كثير بأعواني))، ولا أفعل ما ألمحتُ إليه إلاّ لأكون مطمئناً إلى سديد القول وصلاح العمل.
أما أولادي وأصهاري وخاصة أهلي فأحرم عليهم العمل معي أو تقلد أمر له علاقة بمرجعيتي لأنني ضعيف اليقين بصلاحيتهم للعمل المرجعي إلاّ من عصم الله.
ثم أن المال المرجعي يتسرب إلى أهل المرجع بأشكال خفية، ولو ثبت أن أحدهم انتهك حرمة الحق فسيحاسب حساباً عسيراً ولا تأخذني في ذلك جبن أو عصبية، والمحكمة المرجعية، ((وقانون العقوبات المرجعي)) كفيل بسيادة العدل.


الأمر السابع:
اختيار البقعة الإبراهيمية المقدسة من الكوفة المشرّفة إلى النجف الأشرف ـ في ضوء ما فصلناه في كتابنا ((دولة النجف)) ـ عاصمة روحية ومدينة المرجعية الخالصة الرشيدة، فيها البيت المرجعي، ودار السيادة، ومكاتب المجتهدين الكبار، وأفاضل العلماء والأساتذة، ومؤسسات المرجعية الأخرى، كالمؤسسات المالية، والحوزوية، والجامعية، والمدارس، والمساجد، والمراكز الثقافية وصالونات الفن الراقي، والمسارح ودور السينما والمرصد الفلكي والمتاحف وخزائن الكتب والمطابع ودور الإعلام والصحافة والبحث والإحصاء والتصوير وكل ما يتعلق بالعلم الحديث والتمدن والحضارة المعاصرة.
وأن يكتب ((الدستور المرجعي)) الذي سيُعتمد قانوناً ونظاماً ملزماً في التطبيق على كل ما له علاقة بالمرجعية.


الأمر الثامن:
فيما يخص الخطباء والوعاظ تنطبق عليهم القوانين المعلن عنها في ((الدستور المرجعي)). وفيها وجوب الحصول على إجازة خاصة لكل فرد من مزاولي هذه المهنة الشريفة، والتي تمنح بعد توفر شروط مميزة، وأن يميز لباسه وهندامه عن لباس العالِم، ولا يحق له تجاوز وظيفته الدينية إلى الإفتاء والخوض في قضايا العلم الديني العقيدي الخاص بالعلماء الفقهاء، وأن ينتسب إلى نقابة الخطباء والوعاظ التي تتكفل الحفاظ على حقوقهم وأرزاقهم، كما هو شأن النقابات المهنية في العالم المتحضر، وتنطبق عليه عقوبات الحظر من القراءة والمجالسة لو تعمد خرق القانون المرجعي الخاص بالوعظ والإرشاد، وتجاوز حدوده، أو شجع على الفتنة، أو أثارة النعرات الطائفية.


الأمر التاسع:
الإفتاء أمر هام ولا يجوز لأحد تجاوزه فهو من حق المرجع الأعلى حصراً، أو من يخوله هذا المرجع بالإفتاء، كالهيئة العلمية المجازة منه، أما الفتاوى المدونة في الرسائل العملية والكتب المعنية بهذا الأمر فإن مناقشتها والخوض فيها من اختصاص العلماء والأئمة المجازين منه.


الأمر العاشر:
الإعلان عن إلغاء جميع الألقاب الدنيوية المستخدمة حالياً في الحوزات الدينية، فقد أصبحت مبتذلة تطلق على من يستحق ومن لا يستحق، ومع أنها ألقاب اعتبارية وفخرية وتقديرية، لكن الإسراف فيها صيّر منها عادة مذمومة تسيء إلى أهل العلم لضياع المقاييس في إطلاقها، بل ظن البعض من الغرباء وما أكثرهم بأنها رتب دينية تنتقل بطالب العلم الديني من حال إلى حال كما هو شأن ((الأكليروس النصراني)) وهذا ما تأباه الشريعة المقدسة ويتنافى مع الواقع العملي الذي عليه علماؤنا منذ عهد الغيبة الكبرى، وإن وجد قديماً فهو لا يتعدى عدد من علماء الطائفة الفطاحل، ومع هذا فقد كانت ألقابهم وجيزة محدودة، مثلما أطلق على (الكليني) لقب ثقة الإسلام، وعلى السيد المرتضى (علم الهدى) و(العلامة) على الشيخ الحلي، وأمثال لقب (المفيد) و(المحقق) و(شيخ الطائفة)، ولعمري ما عادت هذه الألقاب بكافية لإشباع فضول المترأسين حتى إذا كاتبت أحدهم اليوم بلقب (العلامة) قد يعتبرها إساءة لمقامه الرفيع!!، ولعل هذا الداء الوبيل قد جاءنا من المبالغات العثمانية والحذلقات الفارسية، التي يراد منها التكريم لا التعظيم، والتوصيف لا التعريف، والثابت أن أول من لُقّب من علماء العراق بحجة الإسلام هو الإمام الأكبر الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي المجدد، ولم يكن هذا اللقب شائع الاستعمال في القطر العراقي حتى ثُنيت الوسادة لهذا الإمام الجليل، ثم جاءت المصائب بعد ذلك ليشيع لقب ((آية الله)) التي عُظِّمت وكبّرت فأصبحت ((العظمى)) و ((الكبرى)) وكأننا بصدد رصد درجات الحرارة لا درجات العلم، يقول المرجع الشهير في عصره السيد محمود الحسيني الشاهرودي، ((لو أطلقتُ على أحد لقب آية الله أهون عندي من إطلاق لفظة ((حجة الإسلام)) فكل شيء في هذا الوجود آية، ليس الإنسان فحسب، بل الحيوان والنبات، وفي كل شيء له آية، تدل على أنه واحد.


ولكني أتورع أن أطلق على أحد حجة الإسلام..)).
وحتى لقب ((المرجع الأعلى)) هو لقب استحدثه جمع من الطلبة الحوزوين في أواخر الخمسينات من القرن العشرين، وأتحدى أي أحد يثبت أن هذا اللقب أطلق على أحد لأول مرة سوى المرجع الراحل السيد محسن الطباطبائي الحكيم، وأصبح هذا اللقب مفروغاً منه لدى المرجع نفسه إذ كان من مستلزمات التنافس مع مرجعية (قم) ثم لما فقدت هذه المرجعية العظيمة رمزها الأكبر الإمام السيد آغا حسين البروجردي، بقي اللقب واستمر تداوله إلى يومنا هذا، وهو حسن على كل حال لو أطلق على مستحقه، وأسمع هذه الأيام بآيات من الله لم يعرفوا يوماً بالعلم الصحيح، وإنما هي دعاوى فارغة يدعونها، وسيثبت الزمن زيفها وبطلانها، وأما دعوى (الأستاذية) في الحوزات العلمية، فقد قام لها سوق رائج، وأصبحت لا أرى معمماً من أقراني بالأمس إلا ودعواه الاجتهاد الذي أصبح مبتذلاً ((وحتى سامه كل مفلس)) فرحمة الله عليك يا مولاي يا أبا القاسم الخوئي ما أدعيت يوماً الأستاذية، مع أنك أستاذ الأساتذة لحقبة طويلة تجاوزت نصف قرن كامل وكنت بحق ((زعيم الحوزة العلمية)) وهو لقب أتاك ولم تأته، ولحقك ولم تلحقه، وكان مراجع الإسلام مزهويين بك فخورين بذكاءك واجتهادك، وأولئك فيهم الأساطين كالشيخ النائيني، وكاشف الغطاء والشيخ حسين الحلي والسيد الأصفهاني، والحمامي، والحكيم... الخ، فمن لي بتلك الأيام التي لا تعود، ومن لي بهؤلاء الأدعياء الذين كثروا هذه الأيام من أصحاب الطيلسان، وأرباب الهذيان، ممن يأكلون الدين بالدنيا، فإياكم إياكم أيها الأخوة والأخوات أن يغرّكم الفساق المنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، والناصرون لهم على فسقهم، وما يؤذينا فعلاً أن بعض المنتسبين لهذا العلم الشريف يبلغ بهم التطاول والتعالي على كل شرع، وترى أحدهم يمشي بين الناس شامخاً بأنفه، زامّاً شفتيه، منتفخاً قد شَرَقتْ عروقُهُ ولحمُه بدمٍ كذب، هو دمُ الكِبر والعُجْب، حتى كاد يتفقأ فإذا جاءت الحقائق لم تجد شيئاً، إلا شيئاً لا يُعبأ به، فضَعُّفَ العِلمُ بضعفِ أهله، وأصبحت العمامة عند البعض مناط العلم فيه، واللحية مناط التقوى وعدمهما رمز التحرر من كل دين، فقد أجلس إلى متعمم ملتح أقول فلا يفهم، ويفهم ما لا أقول، ثم يمرُّ بنا أحد الناس فيبدأه بالسلام إجلالاً واحتراماً ثم يكتفي بالسلام عليّ إيماءً وهو يعلم أنه مطية بجهله ولو شئت لركبته بعلمي، أي والله.

أنا لا تغشيني العمائم واللحى
كم في العمائم من سقيم أجرب

عيناك من أثوابه في جنة
ويداك من أخلاقه في سبسب

وهذه اللحية، لا تعدو عندي إلاّ أمراً يعود إلى كمال الإنسان ونقصه، وهي كالزي، فإن كان في حلقها نقص حرم، وإلاّ فهو مباح. و ((المرء تحت طي لسانه ((لا طيلسانه)) كما قال مولى المتقين وسيد الوصيين عليه سلام الله، وجرياً على ما سبق أُحَرِّمُ عادة ((تقبيل اليد)) التي هي من علامات التكبر والنفاق، وإن انطلت حيلتها على الضعفاء والبسطاء)).
أما الاختصارات في المواضع المحتاج لها عند ذكر النبي وآله الأطهار، فالواجب عدم ذكرها بعد اليوم إلاّ بصيغتها الكاملة كما هو الحال عند ذكر النبي الكريم فتقول حينئذ صيغة الصلاة كاملة ((صلى الله عليه وآله وسلم)) وعند ذكر المعصوم (عليه السلام) ويجب الحيطة في ذكر الألقاب التكريمية وما يتبعها من اختصارات، فبعض هذه الاختصارات أصبحت مملّة وغير دقيقة، ومخجلة أيضاً كما هو في (اختصار) ((قده)) والمقصود به ((قدس سره)) الذي أصبح يُلْحَقُ بأسم المتوفين مهما كانت منزلتهم، وأحذّر من ذكر هذه ((القده)) ويا ويلاه من هذه القعدة التي تسرَّبت إلينا من إيران، فالقد يا إخوان هو جلْدُ السَّخلة، كما أن القدة هي الفرقة، ومنها قوله تعالى: (وكنَّا طرائق قددا).

محمد سعيد الطريحي

صاحب مجلة الموسم