في صبيحة يوم من ايام شهر حزيران ( يونيو ) العام 2005، فغر عمال النظافة في أحد شوارع الشطر الغربي من العاصمة العراقية بغداد أفواههم هلعا ً واستغرابا ً، وهم يفتحون quot; شيئا ً quot; ملفوفا ً بعناية في شرشف أبيض، وقد كـُتب عليه: لاتقيموا عليه الشعائر الحسينية!
كان هذا quot; الشيء quot; جثة زميل لهم ذبحه مسلحون، أثناء ممارسته واجبه في تنظيف شارعهم. إستغرب العمال ذلك، لأن الشعائر الحسينية، أو طقوس عاشوراء، لاتقام عادة ً على أي ميت. فهي شعائر تأبين سنوية خاصة بذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته وأصحابه، في واقعة الطف الشهيرة بكربلاء، العام 61 للهجرة.


هذا المثال الدموي، واحد من أمثلة التباس أمر طقوس عاشوراء على غير المسلمين الشيعة. وخاصة أولئك المسلحين العرب القادمين من الخارج، مدفوعين بفتاوى وتحريضات من قبل رجال دين لايدركون شيئا ً من سماحة الدين وقيمه النبيلة، لكن الوسائد تطوى والمنابر ترفع لهم، لأهداف سياسية تسعى دولهم لتحقيقها، غير آبهة بالنتائج الوخيمة لمثل هذه الفتاوى والتحريضات على الجميع.


وليس الإرهابيين الأجانب ورجال دين السوء وحدهم، هم الذين لايريدون فهم حقيقة هذه الشعائر، التي يستند المسلمون الذين يقيمونها على كم ّّ كبير من الأحاديث والروايات والتخريجات الشرعية التي تدعمها، فهنالك إعلاميون أيضا ً، من غير العراقيين، يمارسون اللعبة ذاتها. فعلى الموقع الألكتروني لإحدى الإذاعات العالمية الرئيسية، التي تستحوذ على حصة الأسد من أمواج الأثير الداخلية العراقية، عبر تسهيلات منحها لها الحاكم الأميركي السابق للعراق بول بريمر، وآن للحكومة العراقية أن تعيد النظر فيها لدواعي السيادة وإعادة تنظيم التوجيه الإعلامي والدعائي الداخلي بما يتناسب والتحديات الحالية ويضمن إيقاف البلبلة الحاصلة في العقول، نجد استعراضا ً للصور حول شعائر عاشوراء في مناطق عديدة من العالم، مارس فيه محرر الصور هوايته في ما يعرف في علوم الإتصال بـ quot; تلوين الخبر quot; عوضا ً عن العرض الحيادي.


خبر ملو ّن

ويعني تلوين الخبر الحرص على إبراز جانب خاص منه والتعتيم على جوانب أخرى. وقد تصل الحال إلى التشويه الكامل للخبر وانتقاء ما لايوصلنا إليه الخبر الأصلي أو لايعبـّر عنه، وإبرازه على أنه مفهومه ومعناه الوحيد أو الرئيس. ومن المعلوم أن الصورة خبر بكل المعاني والمقاييس، بل هي أبلغ quot; الأخبار quot; وأكثرها تأثيرا ً على عقل وعاطفة المتلقــّي والمستهلك للمنتجات الإعلامية والدعائية.
لقد انتقى محرر الصور في موقع الإذاعة المذكورة وهو يفرغ في جوفه - ببرود أعصاب - زجاجة quot; بيبيسي quot; كولا، بعد نهار من العناء في خدمة قضية من استوظفه، عدا ً من صور طقوس عاشوراء، تصدرتها صورة معبرة لأطفال يحملون شموعا ً، في مايعرف في الحواضر العراقية بـ quot; ليلة الوحشة quot; وهي الليلة التي تلت يوم عاشوراء، عندما تناثرت جثامين أهل البيت المقطـّعة في العراء على مدى ثلاثة أيام بعد استشهادهم، والتي يحمل فيها الحزانى على آل البيت شموعا ً بالعشرات والمئات، لإنارة تلك المساءات المعتمة، ولراحة تلك النفوس الطيبة. غير أن هذه الصورة الجميلة اختفت في داخل ألبوم الموقع، وحلــّت محلها صور انتقيت بخبث، لتصوير جوانب من العزاء ليس هناك اتفاق بين أوساط الشيعة عليها، ولم تقم وسائل الإعلام العراقية والشيعية بعرضها على نطاق واسع، فيما عرضت العديد من مظاهر العزاء وطقوس التأبين الحسينية، التي لاتثير في نفس المشاهد سوى التعاطف مع آل البيت، والحزن على تلك المأساة الخالدة، مثل المسيرات الحزينة المنتظمة، والدموع الصادقة والناطقة بآلاف المعاني النبيلة.


أسلوب الإذاعة وموقعها، ليس جديدا ولامستحدثا ً. فنحن نسمع ونقرأ ونشاهد منها ولها يوميا مئات الكلمات، حول quot; الخشية quot; مما تدعوه بتصاعد أعمال العنف الطائفي في العراق ولبنان وغيرهما من الأماكن التي يوجد فيها مسلمون من مذاهب مختلفة. بل إن عرضها لأنباء الشعائر الحسينية والاعتداءات التي ضربت المواكب الحسينية في بعض المناطق من العراق لايخلو من إيحاء بأن هذه الشعائر والمواكب هي بحد ّ ذاتها استفزاز طائفي. ويتم بالطبع تجاهل البعد التاريخي لهذه الطقوس وتكاملها التدريجي، اللذين يعبـّران عن نكهة تعبـّدية تجمع ولاتفرّق، بدليل مشاركة الجميع في هذا الحزن. لقد أثار إعجابي - مثلا ً- طلب مستمع من دولة عربية إلى مذيع أثناء برنامج حواري لاعلاقة له بالحسين وعاشوراء في إحدى الإذاعات يوم أمس، أن يشاركه قراءة الفاتحة على روح الإمام الحسين.. هذه هي النتيجة الإيجابية لشعائر عاشوراء..


وعلى كل حال، فلو عادت الهيئة الإذاعية المذكورة إلى بلادها، للاحظت أن الشعب العراقي بطوائفه المتنوعة يتجاوز العديد من الشعوب في الوعي والشعور بالمسؤولية، نتيجة التربية التي يتلقاها في مثل هذه الشعائر الكريمة.


ففي أيرلندا الشمالية مثلا ً، دأب الكاثوليك والبروتستانت على قتل بعضهم بعضا ً على امتداد القرون، ورغم أن من الصعب جدا تحديد نقطة البداية في الصراع، الذي تطور العام 1969 إلى مئات المواجهات والأعمال الإرهابية التي كان من بينها محاولة تفجير رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر وأعضاء حكومتها في فندق في برايتون العام 1984، وإطلاق قذائف هاون على مبنى رئاسة الوزراء في داوننغ ستريت العام 1991، لكن الكاثوليك يشيرون إلى العام 1690 كبداية للحرب الأهلية الطائفية بين الأيرلنديين، حينما هزم القائد البروتستانتي وليام البرتقالي الملك الكاثوليكي جيمس الثاني في معركة quot; بوين quot; وسيطر البروتستانت على أيرلندا الشمالية، وظلوا يحتفلون على مدى القرون اللاحقة بانتصار وليام على الروم الكاثوليك، في سلسلة من المسيرات الصاخبة والاستفزازية التي تخرج في كل عام إلى الشوارع، ويسميها الناس quot; فصل الاستعراض quot; وتحدث خلالها كل عام مواجهات طائفية دامية بين الطرفين. والسؤال: لماذا لم نقرأ أو نسمع عن هذه القضية التاريخية الكبرى المستمرة فصولا ً حتى اليوم، في أية وسيلة إعلام، وخاصة تلك الإذاعة التي لاتترك كبيرة ولاصغيرة من شؤون العراقيين والعرب والمسلمين إلا أحصتها؟ لماذا لاتوصف هذه المواكب الأيرلندية البروتستانتية وصفا ً دقيقا ً، كما يتعاطون مع طقوس وشعائر عاشوراء العابقة بروح الإخاء والرحمة والمودّة والسلم؟


قيم لاتشيخ

إن الشعائر الحسينية تجل ّ ٍ إنساني لأفضل ماتعتمل به نفوس المحتفلين من نوازع خيـّرة. فهي طقوس دينية يبحث المشاركون فيها ومنظموها والمنفقون عليها من أموالهم الخاصة عن رضا الخالق قبل رضا المخلوقين، عبر تأبينهم وتكريمهم رجلا ً من الأولياء والصالحين والقدّيسين ضحـّى بكل مايملك ؛ نفسه وأهله حتى الرضيع منهم، وخـُـلــَّص أصحابه، على مذبح المثل والقيم العليا الخالدة التي لاتهرم أو تشيخ بمرور الزمان.


وهذه الشعائر توحـّد ولا تفرّق. فمادام المسلمون وطوائفهم المختلفة يؤكدون أنهم محبـّون لأهل البيت ومتعاطفون مع قضيتهم، فإن ّالشعائر التي تذكـّرهم بهؤلاء الأطهار تعتبر صـَهرا ً للكل في واحد هو الرمز وقضيته المقدسة. فالمناسبة الاحتفالية - كما يرى غادامير ndash; تكون دائما ً شيئا ً متساميا ً ينتشل المشاركين من وجودهم اليومي، ويسمو بهم إلى نوع من التشارك الكلــّي ( تجلــّي الجميل ndash; 151 ) ويضيف إننا في حياتنا اليومية نحيا مقيـّدين على الدوام بأدوار جزئية وحدود زمانية. أما في الاحتفال فإن جزئية أغراضنا تخلي السبيل لنوع من التشارك في لحظة متسامية مكتملة بذاتها، لاتكتشب دلالتها من أية مهمة لازالت في حاجة إلى إنجاز، ولايتم الحصول عليها من خلال أي غرض يراد تحقيقه مستقبلا ً، ومن الواضح أن التجلـّي الأكثر أصالة ونموذجية لهذه اللحظة المتكاملة بذاتها، إنما يكمن في الاحتفال التعبدي، فهنا يكون تجلـّي الإله بمثابة حضور مطلق يتصالح فيه تذكـّر الماضي واللحظة الحاضرة في وحدة آنية ( نفسه، 152 ).
ثم ينحو الفيلسوف الألماني ( ت 2002 ) باللائمة على الحضارة الحديثة والمسحورين بها الذين يندّدون مااستطاعوا إلى ذلك سبيلا بالاحتفالات والطقوس والشعائر التعبدية واصفا ً هذا التنديد بالمتطرف ويؤكد أن ماهية الاحتفال التعبدي الأصلية والتي ماتزال حية هي الإبداع والتسامي إلى حالة من التحوّل في الوجود ( نفسه، 153 ).


ليس هذا فقط. فالشعائر والحسينية منها بالذات عامل تهدئة للنفوس أيضا ً، لاعامل استفزاز وتهييج. فالأوضاع المتفجـّرة في العراق تشحن النفوس بمزيد من عوامل الغيظ والحنق والتمزق، خاصة وأن من يتعرضون للاعتداء هم في الغالب من الشيعة، كما أكد الرئيس العراقي جلال طالباني الذي قال إن 70 بالمائة من ضحايا الإرهاب اليومي في العراق هم من هذه الأغلبية الشيعية. فتأتي الشعائر المهرجانية والاحتفالية هذه لتفرغ شحنات البغض باتجاه إيجابي يستلهم من الحسين الشهيد تسامحه وسموّه وتعاليه على الجراح نحو إرادة الخير الشامل للجميع.


ولو أخذنا مجرّد الدموع التي تنهمر من أعين المشاركين في هذه الشعائر الطيبة كمثال، فإنها دليل صحة لاسقم. ألم يقل الطبيب النفسي البريطاني الشهير quot; مودزلي quot;: إن الحزن الذي لايجد متنفسا ً عن طريق الدموع يتجه إلى أعضاء الجسم الأخرى فيحطـّمها؟ وألم يقل شكسبير: حينما لايجد الحزن متنفسا ً بالكلام يهمس إلى القلب فيكسره؟


إن هناك مايفوق الإحصاء من بواعث الحزن في العراق الذي يضربه الإرهاب وليس أفضل من شعائر سيد الشهداء ومراثيه وقراءاته وتعازيه متنفسا ً للحزن يحوّله إلى طاقة إيجابية بناءة وفاعلة. وحتى الطقوس التي تبدو غريبة أو مازوشية ( تلذ ّذا ً بجلد الذات وتعذيبها ) فهي تسريب لطاقة هائلة تتولـّد في النفوس المقهورة بالظلم الطويل والتجاهل المستديم، تسريبها إلى منافذ تدخل في نطاق قاعدة quot; الناس مسلـّطون على أنفسهم quot; بدلا ً من تسلـّلها إلى حيـّز الآخر أو انهمارها عليه بما تعنيه من محاولة عنيفة ودموية أحيانا ً لإعادة التوازن المفقود.


إن الشعائر الحسينية لاتختلف هنا عن تعبير الإنسان عن حاجته إلى مكان quot; يصرخ quot; فيه، إذا ما أحس ّ بظلم أو رأى مشهدا ً يستثير إنسانيته وتعاطفه وتضامنه، وهل يستكثر أحد على الحسين، ريحانة نبي هذه الأمة، شيئا ص يسيرا ً من التعاطف والتضامن؟
لقد رأينا ونرى مثل مثل هذه المشاهد في إيطاليا ومناطق أخرى من أوروبا وآسيا بين الجمعة الحزينة وعيد القيامة من كل عام احتفاء ً بيسوع المسيح وتجسيدا ً لقصة quot; صلبه quot; وقيامته ولم نر َ أحدا ً يشنـّع عليها.


وأخيرا، إن فتح باب التخطئة والتشنيع على أية ممارسة دينية وطقس تعبدي مسألة لانهاية ولاحدود لها، وهي تبدأ بما يبدو في عرف البعض غريبا ً، لتصل إلى مااتفق الناس على quot; عاديـّته quot; ردحا ً طويلا. ألم تتساءل السكرتيرة الشرقية البريطانية في العراق المس بل في الخامس عشر من أيار ( مايو ) العام 1921: إلى متى سيستمر المسلمون على الصيام ياترى. إن الصيام مثل حجاب المرأة يتلاشى بسرعة...! ( العراق في رسائل المس بل ndash; 322 )؟


عيون الشعر: شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري:
مـَن لناء ٍ عاف َ أهلا ً وصحابا ً وديارا
تـَخـِذ َ الغربة َ دارا ً إذ رأى الذل ّ إسارا
إذ رأى العيش َ مدارة ً زنيم ٍ لايـُدارى

علاء الزيدي

[email protected]