ايام معدودة ويخرج الرئيس الايراني احمدي نجاد الى شعبه والعالم بوجبة اخرى من الاخبار السارة حول النجاحات الجديدة التي حققها البرنامج النووي الايراني كما تروِج لذلك وسائل الاعلام الايرانية. ربما تكون الاخبار السارة هي انتقال ايران الى مرحلة الانتاج الصناعي من اليورانيوم المخصب واكمالها لمرحلة جديدة في هذا المجال تتمثل في انجاز تركيب خطوط اضافية من اجهزة الطرد المركزي تشير الانباء ان عددها يناهز الثلاثة ألاف مما يساعدها على السير حثيثا الى الهدف المطلوب وهو طحن اكبر كمية ممكنة من مئات الاطنان من سادس فلوريد اليورانيوم التي استطاعت جمعه او الحصول عليه، حيث تتحدث التقارير الاستخبارية الحديثة عن امكانية حصول ايران على الكمية المطلوبة من اليورانيوم المخصب لانتاج السلاح النووي خلال مدة تتراوح بين السنة والسنتين.

بداية ينبغي الاشارة الى ان القيادة الايرانية ليست بتلك السذاجة التي تجعلها ترمي بجميع اوراقها كاملة امام خصومها ولذلك فان ماسيعلنه الرئيس الايراني من اخبار سارة لن يكون باي حال من الاحوال وصفا للمرحلة النهائية من البرنامج النووي الايراني في لحظة الاعلان، بل خطوة تم تحقيقها في مرحلة سابقة وحان الوقت الان للاعلان عنها. ان مايؤكد هذا الاستنتاج هو التعامل ( المرن ) الذي يبديه المجتمع الدولي حيال ايران حتى ان اطرافا عديدة ومنظمات مختصة كوكالة الطاقة الدولية باتت حائرة، تُجهد نفسها في اكتشاف انماط جديدة من ( المحفزات ) التي قد تُرضي ايران وتتركها تعدل عن المضي في برنامجها، وكان أخرها ما اعلنه الدكتور محمد البرادعي من حلول تتلخص في ايقاف متزامن للعقوبات ولبرنامج التخصيب علما بان قرار العقوبات الذي اصدره مجلس الامن دخل دورات تنقيحية طويلة قبل اصداره ولم تعترف حتى الان به ايران اصلا. ان بعض الاطراف الدولية اصبح يشك بينما بات البعض الاخر على قناعة في ان البرنامج النووي الايراني ربما يكون قد خرج من عنق الزجاجة ويجب التعامل مع هذا الملف استنادا الى حقائق الارض التي تؤكدها القيادة الايرانية التي لم تتراجع قيد انملة عن تعنتها بل على العكس تزداد مع الايام تعنتا دون ان تنسى استثمار المناورة المحسوبة كسبا للزمن حيثما وجدت حاجة لذلك. ربما تكون القيادة الايرانية تشعر بالحاجة الى الاستمرار في ذات السياسة التي تتلخص بإضفاء وابراز ما امكن من السمات السلمية للبرنامج النووي الايراني دون ان تتخلى عن العمل لتوفير كل المستلزمات المادية والعلمية والبشرية ليكون هذا البرنامج على اتم الاستعداد ليحقق اهدافه الاخرى حال صدور فتوى من المرشد الاعلى يتم تبرير صدورها في تلك اللحظة.

ان النظام الايراني يعرف جيدا ان الادارة الامريكية تنتظرعلى احر من الجمر اعلان ذلك النظام عن انجاز حاسم وواضح في برنامجه النووي، كما فعلت كوريا الشمالية، يمكن ان تستثمره تلك الادارة في تحشيد اكبر ثقل ممكن من المجتمع الدولي خاصة اؤلئك الذين يطالبون بدليل ملموس للادانة بعد ان خدعتهم الادارة الامريكية في الملف العراقي. ان تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي اولمرت قبل فترة قصيرة والتي اثيرت حولها ضجة كبيرة حيث مثلًت اول اعتراف رسمي لمسؤول اسرائيلي كبير بامتلاك اسرائيل للسلاح النووي كانت ( طعما ) مشتركا اسرائيليا - امريكيا باتجاه ذلك الهدف. ان تلك التصريحات لم تكن اطلاقا ( زلة لسان ) كما تم وصفها بل كانت فعلا مدروسا انتظر بفارغ الصبر ردة الفعل المناسبة المعاكسة له في الاتجاه والمساوية له في المقدار. لقد تم بناء ( الطعم الاسرائيلي ndash; الامريكي ) استنادا الى النموذج المعروف عن الشخصية الشرقية العربية او الاسلامية بما تتميز من سرعة الاثارة والانجرار السهل الى حقل التحدي الغير المحسوب والملغوم. ترى هل كانت القيادة الايرانية في تجاهلها لذلك الطعم وامتناعها عن القيام بردة الفعل المتوقعة ترغب في ايصال الرسالة المطلوبة الى ( اصحاب الطعم ) في ان القدرات النووية الايرانية ليست اساسا موجهة اليهما، اي الى الولايات المتحدة واسرائيل، وينبغي عليهما الاطمئنان الى ذلك او ان ذلك التجاهل وردة الفعل البارد تلك يندرجان في حقل المناورة السياسية الرامية الى استثمار الزمن طالما ان الوقت لم يحن بعد للاعلان عن ذلك. ان الاعتقاد الاكثر ترجيحا يشمل الحالين معا اي ايصال الرسالة واستثمار الزمن.

ان المتابع للسياسة الايرانية من الناحية الواقعية البعيدة عن خطابات وتصريحات الاستهلاك الاعلامي يلاحظ بسهولة ان الصراع بين النظام الايراني من جهة وبين الادارة الامريكية واسرائيل من جهة اخرى ليس صراعا من اجل البقاء ينتهي بامحاء احد الطرفين للاخر، بل اختلاف على الادوار في مساحتها وعوائدها وهو بالتالي صراع تهدف من خلاله ايران الى وضع معادلات جديدة للتعاون من اجل اقتسام النفوذ في المنطقة، وإلا كيف نفهم التعايش السلمي منذ اكثر من ست سنوات بين ( الشيطان الاكبر ) الذي عبر المحيطات والبحار وجاء ونصب خيمه وعسكر و جاور ( ولاية الفقيه ) في حدودها الطويلة مع كل من افغانستان والعراق! ان الرئيس الايراني نفسه قد صرًح جهرا انه يسعى لتوطيد دعائم هذا التعايش والارتقاء به عندما اعلن ان ايران على استعداد لمساعدة الولايات المتحدة في العراق شرط ان تخفف هذه الاخيرة من سياستها العدائية تجاه نظامه، او كيف نفسر السكوت الغير المبرر او الموقف الذي لم يتعدى تصريحات خجولة للنظام الايراني وهو يرى اسرائيل تضرب دون رحمة ولاسابيع أخلص حلفائه ( حزب الله ) وباسلحة تشير التقارير الاخيرة انها محرمة كونها ملوثة بالمواد المشعة! ألم يكن النظام الايراني قادرا، بنظرة عين حمراء جدية من مرشد الثورة او رئيس النظام، على ايقاف تلك الحرب في ايامها الاولى قبل ان تأكل عظم لبنان؟ ربما يحاول البعض ان يخدِرنا فيحاول ان يبرر ذلك بحجة ان أوان المعركة الكبرى والحاسمة لم يحن بعد وينبغي لنا الانتظار حتى يتحقق ميزان القوى وتلد القنبلة الايرانية فتتعادل الكفة! ان الجميع يعرف ان النظام الايراني قد شرع بعد الانتهاء من الحرب العراقية الايرانية في بناء ترسانة تسليحية ضخمة في مختلف المجالات بما فيها العمل في المجال النووي وقد استطاع و كما يظهرمن خلال المناورات والتجارب الصاروخية من تطوير واقتناء مجموعة قيمة من الصواريخ الاستراتيجية ذات المدى الطويل واذا كانت عملية انتاج السلاح النووي التقليدي او العياري ونقصد هنا (سلاح الانشطار) تعاني من مخاض عسير، فان عملية تلويث الكتلة الانفجارية لتلك الصواريخ بالمواد المشعة لتصبح على شاكلة ( القنابل القذرة ) ليست عملية بالغة التعقيد كما انها في تاثيراتها النفسية والتدميرية لايستهان بها من قبل الاطراف التي تدعي ايران من الناحية الايديولوجية انها عناوين الخنادق المقابلة لها. وهنا يبرز السؤال الكبير عن خارطة المنطقة وسماتها ومستقبلها ومن سيكون الخاسر الاكبر بعد ان يتم الاعلان رسميا عن دخول ايران شحما ولحما الى النادي النووي.

ان السلاح النووي قد بات منذ زمن بعيد هراوة مشلولة او في احسن الاحوال ربطة عنق يجوز التبجح بها في المناسبات البروتوكولية، حيث عالم اليوم يضع في لائحة الاسماء المقززة كل من يتجرأ على التهديد باستخدامه، وهاهي محكمة الانفال شاهد كبير على مانقول حيث المتهمون يحاولون بكل الوسائل تبرئة انفسهم ولايتمنون ان تكون اسمائهم مقترنة بفعل استخدام اسلحة الابادة الجماعية المتمثلة في انواع سامة من الغازات الكيمياوية فمابالكم بسلاح فتاك رهيب نشعر جميعا بفضاعة اثاره كلما شاهدنا فلما تاريخيا عن هيروشيما وناكازاكي حيث تم استخدامه. لقد اصبح السلاح النووي حقا ذلك الجوكر البائس الذي ينبغي على اللاعب ان يحتفظ به حتى النهاية وقد تنتهي اللعبة دون ان يتم استخدامه. اذا كانت تلك الهراوة المشلولة او ربطة العنق ( المزركشة ) او كان ذلك الجوكر البائس ( سمها ماشئت ) تفقد او يفقد جزءا من القيمة الحقيقية لدى من يملك نظيرها او نظيره، لكن ذلك يحتفظ بكامل هيبته لدى الاخرين الذين بفتقدون له وتلك هي الغاية المطلوبة في ان تكون القنبلة النووية الايرانية كابوسا رهيبا يقض مضاجع دول المنطقة، فيحجِم دور البعض ويبتز البعض الاخر ويتقاسم مع كوابيس الاخرين غنائم اهل الدار.

د. وديع بتي حنا

[email protected]