كنا صغار في العمر وفي مرحلة الدراسة الابتدائية عندما كان مدير المدرسة يصر كل صباح يوم ان نردد نشيد خاص بحب فلسطين واهلها ونتوعد quot; الصهاينة بالطرد والتحرير quot; ورغم البرد القوي في تلك السنين في العراق، لكن هذا النشيد وهذه الوقفة كانت نوع من الواجب اليومي، الذي كنا نقوم به بكل حب واندفاع، كما كنا نعد الايام والاشهر على اليوم الموعود الذي ننطلق به الى حيث القدس لتحريرها. كانت اعمارنا لاتتجاوز السبعة او الثماني سنوات. وكبرنا واصبحنا شباب ومرت السنين والاحداث ولم نحرر فلسطين ولم نتوجه لها من الاصل، بل وجدنا انفسنا في حجم هائل من التناقضات فمرة نعرف أن صلاح عمر العلي يشرف على اعدام بعض الاشخاص في ساحة التحرير وسط بغداد وهو يصرخ بكل قوة quot; من هنا ساحة التحرير في باب الشرقي سنحرر فلسطين quot; ومرة اخرى نسمع ان التحرير يبدا من احتلال القصر الجمهوري او من القيام بانقلاب واخرى عن طريق احتلال اراضي ايرانية واخرى التحرير يبدأ من احتلال الكويت!! وثم من ضرب اكراد العراق بالكمياوي هو طريق التحرير وايضآ تدمير اهوار الجنوب هو البذرة الاولى للتحرير او ان تجعل العراق واحة من مقابر جماعية هو السبيل الاقوى لتحرير فلسطين!! طبعآ بالتاكيد اذا كانت كلمات ذلك النشيد الثوري تزيد طفولتنا حماسآ للتحرير، فان لا جريمة باب الشرقي ولا كمياوي كردستان ولا المقابر الجماعية ولاحرب ايران ولااحتلال الكويت او تدمير الاهوار كانت ممكن ان تثير حماسة الطفولة تلك. لكن لان الزمن واقف عند البعض فلقد كان يردد مثل هذه الهزليات. و كل هذه الاكاذيب لم تكن تغير شيء من حب العراقيين لفلسطين وكان ذلك ينعكس بشكل كبير وواضح على تعاملهم مع ابنائهم المقيمين في العراق.
في العراق اليوم الكثير من المشاكل الكارثية والتي لايستهان بها، لكن مع ذلك احد العناوين البارزة من هذه القائمة الكارثية هي مشكلة الفلسطينين في العراق. فهم يشتكون من حملة يتعرضون لها من القتل والتهجير حتى وصلت الى حوالي سبعين قتيل و مائة وخمسين مهجر. طبعآ اي شخص منصف سوف لن يصيبه الذهول من هذه الارقام لاننا هنا لانتكلم عن سويسرا او السويد او الدنمارك، بل نتكلم عن بلد اسمه العراق وهذا بحد ذاته يكفي لان الموت اصبح السلعة الوحيدة المتوفرة بكثرة ودون عناء لاهل البلد، بل ان حياة العراقي ارخص من سعر قنينة الغاز، والفضل يعود بذلك الى الارهابين والمجرمين. وان التهجير والهجرة تجاوزت كل الارقام التي يتحملها الضمير الانساني الحي. فلذلك عندما يشتكي الفسلطيني من هذا الحال سيكون ذلك مثار للدهشة الفعلية لانهم جزء من حالة عامة في البلد.
لكن حتى لانضع رؤوسنا في الرمال، أن مشكلة الفلسطينين التاريخية المتكررة، انهم في اي بلد عربي حلوا فيه جعلوا انفسهم جزء من المعادلة المحلية للبلد المعني و يتم ذلك بكل اندفاع وحماس والامثلة كثيرة من ايلول عمان وحتى لبنان وحتى احتلال الكويت واليوم في العراق. فلقد دخل بعضهم وبجدارة في معادلةquot; سنة وشيعة quot; البائسة التي يشجع عليها الخاسرين!! ولم يقف هذا البعض عند هذا الحد بل انه حمل السلاح وفجر وقتل الابرياء من اهل العراق فقط لمذهبهم الاخر لااكثر. وتم القاء القبض على عدة اشخاص متلبسين واعترفوا بهذه الجرائم والان هم في السجون العراقية.
وكنت قبل عدة اشهر كنت قد سافرت الى السويد خصيصآ لاجل اللقاء بوزير المهجرين السيد عاطف العدوان، على اعتبار انه اول مسؤول من حكومة حماس يدخل الى بلد أوربي، واثناء المؤتمر الصحفي الذي كنت احضره ساله احد الصحفين عن الاوضاع الصعبة للفلسطينين في العراق، والرجل افاض بالشرح والادانه وثم الاماني الطيبة على حد سواء خاصة بعد ان تذكر اني اجلس امامه تمامآ، فنظر لي وابتسم ووجه الكلام وهو ينظر لي وقال quot; اتمنى ان اخواننا في العراق ينتبهون لهذا الوضع الصعب quot; وبعد انتهاء المؤتمر أتجهت مع الوزير الى قاعة الطعام وقلت له نصآ ( اخي العزيز اتمنى عليك اولا ان تصل التحيات والقبل الى اهلنا الطيبين في فلسطين، وثم ان يتاكد الجميع اننا نحبهم في بغداد مثلما نحب أهلنا لانهم جزء منا، وارجوك تصل رسالة بطرقكم الخاصة الى كل فسلطيني يسكن في بغداد ان لايجعل نفسه طرف في معادلة محلية طائفية بائسة، ولينسى ولو بشكل مؤقت مذهبه سني كان او شيعي ويتذكر دائمآ ويقدم نفسه على اساس هويته الفلسطينية وسيرى كم هو حجم الحب والاحترام والتقدير والحفاوة له بين صفوف كل العراقيين، بل سيتنافس السني والشيعي على سلامته وحفظ امنه ) والرجل الوزير عاطف العدوان بدماثة اخلاقه ولطفه اكد تفهمه لكل كلامي وتأيده له ووعدني بنقله الى قياداتهم.
تذكرت لقائي هذا ورسالتي مع السيد العدوان، وانا اتابع الاخبار عن زيارة جبريل الرجوب الى بغداد ولقائه السيد الطلباني ومسؤولين اخرين في الحكومة العراقية حول نفس الموضوع وبعد كل هذه الاشهر، وكيف ان بعض الجهات السياسية الفلسطينية تريد ان تجعل من موضوع الزيارة مسالة تسجيل نقاط على جهات اخرى منافسة في الساحة ليس اكثر. وهذا بالضبط نسخة من تصرفات وبيانات بعض الاحزاب والهيئات العراقية التي جعلت من نفس الموضوع سوقآ للمزايدة البخسة بدماء وحياة ومصير ابناء فلسطين في العراق، مدعومين ببعض الفضائيات المحلية والعربية. فهي تصرخ ليل نهار quot; دفاعآ quot; عنهم لكن بذات الوقت تقتل العراقيين بالجملة وليس بالمفرد!! ولااعرف كيف يمكن التوفيق بين ذبح الوطنية والدفاع عن القومية، لكن يبدو لي انها نفس ألعوبة ذلك النشيد الحماسي الطفولي بذات الوقت الذي تكون فيه فوهة المدفع متوجهة اما الى الداخل او الى ايران او الى الكويت.. لكن بالتاكيد ليس الى اسرائيل. ونفس الشيء ينطبق على بوصلة فوهة شاشة قناة الجزيرة فهي مثلا تتبنى هذا الموضوع والشيخ القرضاوي معها. لكن الاثنين يسارعون بالانضمام الى فصيلة جمعيات الصم والبكم عندما يكون quot; أخينا quot; شيمون بيريز في قلب الدوحة وفي ثنايا قصرها الاميري وباحة الحرم الجامعي القطري.
كل هذه صور النفاق quot; القومجي quot; المفروض ان تكون عبره لكل الفلسطينين، وخاصة الذي يسكن العراق منهم، لانه في كل الاحوال لايمكن ان يكون لهم دور مؤثر وفعال في المعادلة العراقية، فاالعراق مختلف تمامآ عن تجاربهم العربية الاخرى، وهذا يفرض عليهم امر واقع انهم ضيوف اعزاء مكرمين في البلد، لكن قبل ذلك عليهم ان يخرجون بعيدآ وبشكل جدآ واضح عن المعادلة العراقية المحزنة التي تسمى شيعة وسنة. وعليهم فقط ان يكونوا ضيوف فلسطين في العراق. هذا ضمانهم وليس اكثر.
محمد الوادي
التعليقات