تنبع أهمية الاتفاق الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس في رحاب البيت الحرام من كونه يأتي في وقت تشتد به الهجمة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك، والاستمرار في هدم ممر وتلة بوابة المغاربة إحدى البوابات الرئيسة للمسجد الأقصى والتي تشكل أيضاً جزءاً أساسياً من حائط البراق الذي تحاول إسرائيل الاستحواذ عليه كاملاً بالرغم من الوثائق الوقفية التي يمتلكها المسلمون والتي تؤكد حقهم فيه فيما يعرف quot;بوقف أبي مدينquot;. ومن هنا يمكن أن يطلق على اتفاق مكة quot;اتفاق ثاني القبلتين من أجل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفينquot;. حيث يجب أن يسهم الاتفاق في رأب الصدع الفلسطيني وتوحيد الجهود جميعها في وجه الحملة الإسرائيلية المستعرة. وقد جاء الرد الفلسطيني الشعبي أولاً مرحباً بالاتفاق من خلال المسيرات التي مزقت سكون ليل غزة فور سماع نبأ التوقيع عليه، بل يمكن القول إن الضغط الشعبي كان عاملاً مهماً من عوامل إنجاح حوار مكة. ثم جاء الرد الشعبي ثانياً من رحاب المسجد الأقصى عقب صلاة الجمعة الذي يشكل رسالة هامة لإسرائيل والعالم بأن الشعب الفلسطيني مصراً على مقاومته للخطة الإسرائيلية التي تهدف إلى تهويد المسجد الأقصى، وما كشف من محاولة إسرائيلية إلى تحويل مسجد البراق إلى كنيس يهودي. وقد أبرز رد المتظاهرين بقذف الأحذية على الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح أن الشعب الفلسطيني شعب مقاوم حتى آخر حذاء في قدم طفل فلسطيني. وأن الحذاء الفلسطيني لهو أشرف من كل السياسات التي لم تزد عن احتجاج هنا ومقابلة سفير هناك. وأن الاحتجاج العربي المخجل الذي لا يرتقي لمستوى الحدث والمسؤولية لم يثن رئيس الوزراء الإسرائيلي عن موقفه في استمرارية هدم تلة باب المغاربة التي تنهشها الجرافات الإسرائيلية لليوم الرابع على التوالي بوتيرة متزايدة. كما أن الحذاء الفلسطيني أثبت اليوم وبعد صلاة الجمعة أنه أكثر قوة وصلابة من ترسانات الأسلحة العربية التي تملأ المخازن انتظار للصدأ الزاحف عليها. وهي رسالة أيضاً أن الحذاء الفلسطيني عندما يتحد في مواجهة الأعداء هو أكثر شموخاً من هامات كثيرة مرفوعة كسنابل القمح الفارغة التي تتقاذفها الرياح.

إن الاتفاق الذي تم في مكة المكرمة هو خطوة هامة بالاتجاه الصحيح ولكن هذه الخطوة لكي يضمن تحولها إلى خطوات لابد من إدراك التحديات والمعيقات التي تقف في طريقها. وأن هناك جهود حثيثة يجب أن تبذلها الأطراف من أجل الوصول بالاتفاق إلى بر الأمان. ويمكن هنا تلخيص بعض الخطوات الواجب أتباعها في ذلك.

- إن الاتفاق لا يمكن أن يضمن له النجاح إلا بتغيير حقيقي وجوهري في موقف حركتي حماس وفتح، ويتمثل ذلك في الاحتكام لمبدأ الشراكة الحقيقية والتخلي عن سياسية التهميش والإقصاء والاستئصال الذي ساد الممارسة السياسية في الفترة السابقة. وأن يدرك الطرفان أن زمن التفرد الفصائلي بالمشروع الوطني قد ولى وأن هذا المشروع عماده اليوم حركتين هما حركة حماس وحركة فتح هذا إضافة إلى الفصائل الوطنية والإسلامية الأخرى. وأن الواقع القائم قد أثبت عدم إمكانية تفرد طرف دون أخر، وأن الحالة السياسية الفلسطينية التي تشكل حالة فريدة من نوعها وهي قيام سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، ودون اكتمال المشروع الوطني التحرري ووصوله إلى مبتغاه، تتطلب تضافر جهود الجميع في عملية البناء من ناحية والمقاومة من ناحية أخرى. وأن مبدأ الشراكة يعتمد بشكل رئيس على تقبل الأخر فكراً وممارسة. واعتماد الحوار كوسيلة لحل الخلافات وعدم إدعاء طرف امتلاكه للحقيقة دون الطرف الآخر. فما تم ممارسته واقعاً خلال السنة الماضية أبرز بشكل جلي إن الديمقراطية الفلسطينية لم تتجاوز الشعار إلى سلوك ممارس على صعيد يومي معيشي أو سياسي.

- يجب أن يدرك الطرفان أن العامل الفلسطيني هو أحد العوامل الفاعلة على الساحة الفلسطينية، وأن هناك عوامل أخرى يجب إدراك غايتها ودورها على الصعيد الفلسطيني. فهناك العامل العربي لاسيما في دول الطوق التي ترى في الساحة الفلسطينية مجالاً للتدخل بإيجابية أحياناً وبسلبية أحياناً أخرى. كذلك هناك العامل الإقليمي مثل إيران التي تحاول استثمار الورقة الفلسطينية في ساحة الصراع السياسي القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. كذلك هناك العامل الإسرائيلي وهو عامل هام ومحوري بحكم الواقع الاحتلالي القائم. وأن الإستراتيجية الإسرائيلية قائمة على تعميق الخلاف الفلسطيني وتأجيجه، والوصول به إلى حرب أهلية تعيق بل تدمر المشروع التحرري الوطني. ولذلك يجب أن ينطلق طرفا الاتفاق من إدراك واضح لطبيعة وحدود التدخلات التي تقوم بها الأطراف العربية والإسرائيلية والإقليمية والدولية. وأن تكون المصلحة الوطنية الفلسطينية هي الأساس التي تنطلق منه وتعود إليه جهود الطرفين. وأن يتم الاحتكام لأجندة فلسطينية واضحة ومحددة ومتفق عليها. وأن يتبنى الطرفان خطاباً سياسياً وبرنامجاً وطنياً واحداً لمخاطبة العالم بعيداً عن أي أجندة خارجية تحاول فرض وجودها على الساحة الفلسطينية. وأن يدرك الطرفان أن سياسة المحاور لن تخدم القضية الفلسطينية التي هي بحاجة لدعم المجتمع الدولي باستمرار في مواجهة العنجهية الإسرائيلية السياسية والعسكرية.

- إن نجاح الاتفاق يتطلب اتخاذ خطوات على الأرض لرأب الصدع في جدار الوحدة الوطنية. وأن هذه الخطوات يجب أن تشمل معالجة آثار الجروح التي أحدثها الصراع الداخلي. وأن ذلك يتضمن فتح صفحة جديدة وإسدال الستار عما حدث سابقاً دون أن يعني ذلك استخلاص العبر والدروس منه. فعلى الطرفين أن يقومان سوياً بمعالجة كل ملف بحكمه وتعقل وبدرجة عالية من المسؤولية بعيداً عن التراشق الإعلامي وتصيد المواقف. وان يسعى الطرفان إلى تعزيز مبدأ سيادة القانون من أجل قطع الطريق على الثأر العائلي أن يأخذ القانون بيديه. وأن يتم إصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها بحيث تكون جزءأ من الحل وليس جزءاً من المشكلة. وأن يتم بناءها على أسس سليمة بعيداً عن الفصائلية. فقد أثبتت الأحداث الماضية أن الأجهزة الأمنية بما فيها القوة التنفيذية تمثل مليشيات فصائلية وليست أجهزة أمنية فلسطينية تسهر على مصلحة المواطن. وأن التقاسم الفصائلي للأجهزة جعلها تقود الصراع الداخلي، وتدخله في مستنقع دموي حصد عشرات الأرواح وأوقع مئات الجرحى. ومن هنا يجب أن يتم تنفيذ ما اتفق عليه من دمج للقوة التنفيذية في الأجهزة الأمنية. وهناك اقتراح من قبلنا في هذا المجال أن يتم تشكيل وحدات جديدة تشتمل كل وحدة على عناصر من كل الأجهزة الأمنية السابقة بما فيها القوة التنفيذية من أجل مزج هذه العناصر وصهرها تحت ولاء واحد هو الولاء والانتماء للوطن. وأن يخضع جميع العناصر إلى تعبئة وطنية واحدة.

- إن الاتفاق الذي تم لن يكتب له النجاح إذا استمرت حالة الاستقطاب الحاد الذي تسود الشارع الفلسطيني. وأن يتم تعزيز التعددية السياسية على أساس تعميق الثقافة الوطنية ضمن خطة تربوية تنهض بها جميع المؤسسات الوطنية والإسلامية. وأن تتخلى الفصائل عن نهجها في التعبئة الحزبية الضيقة. وأن يتم استعادة المنظومة القيمية المجتمعية القائمة على التسامح واحترام الصغير للكبير والجار لجاره. فإن التنافس الفصائلي والصراع على السلطة قد أحدث انقساماً حاداً في المجتمع، وتشطير للعلاقات الاجتماعية. ونحن الآن بحاجة إلى خطة واعية وجادة من أجل رأب الصدع المجتمعي الذي يشكل خطورة على مستقبل القضية الفلسطينية أكثر من الرأب السياسي.

- إن الاتفاق يعني توقف الحملات الإعلامية التحريضية، وأن يتم التعامل بحذر مع الفضائيات ووسائل الإعلام الإذاعية. وعدم دفع أي خلاف إلى الواجهة الإعلامية. فالمجهود الإعلامي الفلسطيني يجب أن يكون موجهاً لفضح الممارسات الإسرائيلية، والدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية. وعلينا أن ندرك أن السنة الماضية قد شهدت حشداً للجهد الإعلامي في التنافس والصراع الداخلي، وتركت الساحة الدولية للإعلام الإسرائيلي. وأن النضال الفلسطيني الذي أصابه التشويه نظراً لما حدث بحاجة إلى إعادة الاعتبار له، وتنقيته من الشوائب التي علقت به. ومن هنا فنحن بحاجة إلى خطة إعلامية موحدة ترتقي إلى مستوى الحدث، خطة تنطلق من خطاب إعلامي موحد موجه ضد العدو الصهيوني وآلته الإعلامية الكبيرة.

لذلك نرى أن ما تم من اتفاق على المبادئ يتطلب حسن النوايا والمسؤولية العالية من قبل الطرفين عند معالجة التفاصيل لأنه وكما يقال: quot;إن الشيطان يكمن في التفاصيلquot;. وأن تكون هناك رعاية عربية وآلية محددة للتنفيذ، وفوق ذلك مراقبة ودور شعبي فلسطيني وعربي ضاغط على الطرفين. وأن نحتكم إلى المثل الشعبي القائل: quot;العبرة في التنفيذquot;. وأن يضع الطرفان في كل مرحلة نصب أعينهم العدو الإسرائيلي المتربص بهم وبوطنهم وبقضيتهم العادلة. وأنه لا يمكن أن نحوز احترام العالم ما لم نحترم أنفسنا. وأن تفاؤلنا بنجاح الاتفاق لا يعمي أعيننا عن معوقاته الداخلية والخارجية التي تتطلب جهود الجميع لتجاوزها وتظليلها برؤية واعية وروح نقدية جادة للذات على المستوي الفردي والفصائلي والمجتمعي.

د. خالد محمد صافي