يبدو واضحاً أن المجتمع الدولي متجسداً الآن في اللجنة الرباعية يحاول أن يفرض علينا ازدواجيته، وعدم منطقيته. حيث أن الضغط المستمر من قبل اللجنة الرباعية على الجانب الفلسطيني، وتحميله مسؤولية التراجع في عملية السلام يبرز بشكل جلي الانحياز الكامل لها لإسرائيل والتماهي التام مع موقف الجلاد ضد الضحية. فكما يبدو من مجريات الأحداث السياسية على الساحة الفلسطينية والعربية والدولية بأنه لن يتم التعامل مع الحكومة الفلسطينية ورفع الحصار عنها إلا باستجابة الحكومة الوطنية المزمع إنشائها لشروط الرباعية، والتي تنص على الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف (المقاومة)، والاعتراف بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل. وهنا يبدو واضحاً أن هناك إصراراً واضحاً على اعتراف الضحية من خلال منظمتها وحكومتها بإسرائيل. وبالرغم من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية التي تشكل مرجعية السلطة الوطنية الفلسطينية بإسرائيل فإن الحكومة الفلسطينية لابد أن تعترف اعترافا صريحاً لفظاً وواقعاً بإسرائيل، وأن صيغة اتفاق مكة حول احترام الحكومة الوطنية الفلسطينية بالاتفاقيات الموقعة لم تشكل صيغة مقبولة حتى الآن للجنة الرباعية، وأن موقف حركة حماس ليس كافياً. ومن خلال مراجعتي للصيغ التي تداولتها حركة حماس وحكومتها المستقيلة وجدت هناك تغييراً واضحاً من قبل الحركة. فقد ورد في خطاب رئيس الحكومة لنيل ثقة المجلس التشريعي في السابع والعشرين من مارس 2006م ما يلي: quot;إن الحكومة ستتعامل مع الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية بمسؤولية وطنية عالية، وبما يخدم مصالح شعبنا وحقوقه الثابتةquot;. ثم برز تقدم أخر في موقف الحكومة عندما قبلت وفقاً لاتفاق مكة في الثامن من فبراير كتاب التكليف من الرئيس محمود عباس quot; باحترام الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينيةquot;.
وفي مقابل ممارسة الضغط المستمر على الجانب الفلسطيني والتقدم الذي طرأ في موقف الحكومة المستقيلة أو المزمع إنشائها هل مارست اللجنة الرباعية أدنى ضغط على إسرائيل. من الواضح أن إسرائيل تتخذ خطوات يومية تشكل ضربة بل ضربات لاتفاق أوسلو والاتفاقيات الموقعة الأخرى. فمن الذي قام بإعادة احتلال المدن الفلسطينية في الضفة الغربية والتي تصنف ضمن المناطق أ في الاتفاقيات؟ وترفض إسرائيل الانسحاب منها بالرغم من المحاولات الفلسطينية المتكررة للتهدئة. ومن الذي قام برفض خطة خارطة الطريق ووضع عليها تحفظات جعلها خارطة طرق وليس طريق، وأفرغها من مضمونها؟ ومن الذي رفض فكرة وجود شريك فلسطيني، وحاصر الرئيس عرفات في مبنى المقاطعة في رام الله، واغتياله بالسم لاحقاً؟ ومن الذي نفذ خطة فك الارتباط من غزة كبديل عن خريطة الطريق، ومعلناً موتها؟ ومن الذي نفذ وينفذ بناء جدار الفصل العنصري الذي يشكل محاولة إسرائيلية مكشوفة لجعله جداراً حدودياً سياسياً يلتهم نصف أراضي الضفة الغربية، ويهدد إن لم يكن يمنع أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ومترابطة في الضفة الغربية، وهو في الوقت نفسه ضرباً بعرض الحائط لقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي؟ وهكذا يبرز جلياً من الذي يشكل خطراً على عملية السلام، ومن الذي يدوس عليها مع بناء كل حجر في المستوطنات التي تنمو كسرطان في أحشاء الجسم الفلسطيني، ومع بناء كل متر في جدار الفصل العنصري. ومن الذي يقوم بتهويد القدس والانتهاك المستمر لأماكنها الدينية المقدسة. ومع ذلك فإن اللجنة الرباعية تصمت على كل ذلك، وتواصل ضغطها على الطرف الفلسطيني. فهي لا تعير انتباهاً لسياط الجلاد اليومية على جسم الضحية الفلسطينية، ولا تتوانى عن الصراخ في الضحية وحصارها وتجويعها لتقبل الاعتراف بالجلاد وبسياطه الملتهبة على الجسد المنهك والمدمي.
إن الواضح أن اللجنة الرباعية التي تحتكر الآن الملف الفلسطيني، وعملية السلام المتعثرة في المنطقة تريد أن يبقى الطرف الفلسطيني ضمن السياق المرسوم له. فعليه أن يتعامل مع الواقع القائم وكأن عملية السلام مستمرة وأن الذي يعيقها هو الجانب الفلسطيني فقط، وأن التشكيك بموت عملية السلام مرفوض. وأن الطرف الفلسطيني يجب أن يقدم فروض الطاعة وألا يتصرف بنكران جميل والتقدير للمجتمع الدولي، وأن يستمر بحمل مشاعر التفاؤل بوجود عملية سلمية، ونية دولية لحل قضيته وإقامة دولته المستقلة. وأنهم فقط يعرفون مصلحة الشعب الفلسطيني فهم الخبراء، وعلى القيادة الفلسطينية أن تنفذ خططها وشروطها. وتحاول الرباعية أن توهم العالم بأن المشكلة الفلسطينية قد خطت خطوات كبيرة في طريق الحل وأن عدم اعتراف الحكومة بإسرائيل يمنع إسدال الستارة على الفصل الأخير في المشهد السياسي السلمي في المنطقة.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن وبالطبع يوجه إلى المجتمع الدولي المنافق من الذي يجب أن يعترف هنا؟ هل على الضحية أن تعترف باغتصاب الجلاد لها، وتقر هذا الاغتصاب وتمنحه الشرعية. هل يجب على كل جسم سياسي فلسطيني يشارك في سلطة أوسلو أن يعترف بالمغتصب كما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية. هل كان اعتراف المنظمة بإسرائيل دولة وكياناً مغتصباً quot;في العيش في سلام وأمن جديد quot;خطوة صحيحة في مقابل الاكتفاء الفلسطيني بقرار حكومة إسرائيل quot; الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطينيquot;. هل كان الاعتراف الفلسطيني كاملاً بدولة الاحتلال في مقابل اعتراف إسرائيلي منقوص ويتعلق بالمنظمة دون الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني السياسية وعلى رأسها حق تقرير المصير.
إن المنطق يقول إن دولة الاحتلال هي من يجب أن يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني. فهي الجلاد والمغتصب، وعليها الاعتراف بجريمتها بحق الضحية. وأن يضغط المجتمع الدولي _إن أراد الاحتكام لمنطق العقل، ومعايير القانون الدولي الإنساني، ومعايير حق الشعوب في مقاومة المحتل_ على الجلاد ويجبره على الخضوع للشرعية الدولية لا أن تتحول اللجنة الرباعية إلى سوط آخر يفرض حصاره، وجام غضبه على الطرف الفلسطيني. وما يؤسف له هنا هو الموقف العربي المتخاذل الذي يبدو أنه سيفشل في تأمين الغطاء اللازم لاتفاق مكة. فخلال كتابة سطور مقالي (العاشرة مساء بتاريخ 24/2) بثت قناة الجزيرة الفضائية تصريحاً للعاهل الأردني يشير إلى quot;اتفاق عربي على وجوب التزام الحكومة الفلسطينية بمطالب اللجنة الرباعيةquot;، وهو يتحدث في المقابلة أيضاً عن رباعية عربية تتمثل في الأردن وجمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات المتحدة، وأن الرباعية العربية تطلب من حركة حماس الاحتكام للرباعية الدولية. وهذا يبرز بشكل جلي الموقف العربي الرسمي الذي يطالب الضحية الفلسطينية بقبول مطالب الرباعية والخضوع لها. وهو بحد ذاته يشكل انحيازاً عربياً رسمياً للجلاد في مواجهة الضحية. وتهرباً عربياً رسمياً من دعم اتفاق مكة ومواجهة الموقفين الإسرائيلي والأمريكي اللذين يتخندق وراء الناطق الرسمي لهما وهم اللجنة الرباعية. ويبقى التساؤل قائماً هل اعتراف الضحية الصريح بالجلاد سيفضي إلى اعتراف الجلاد بجريمته ويعمل على التكفير هنا، ومنح الضحية ببعض حقوقها كحق الحياة والإقامة في ملجأ للضحايا يتمتع بسيادة على موقعه فقط. وهل اللجنة الرباعية قد أوفت بالتزاماتها خلال السنوات السابقة حتى تجبر الطرف الفلسطيني على الإيفاء بالتزاماته، والاعتراف الصريح لفظاً وفعلاً بواقعة الاغتصاب، والتنازل عن حقوقه المترتبة على ذلك. إن ما يجري هو ملاحقة للطرف الفلسطيني في عملية استنزاف سياسي ومالي مقصود، وإشغاله بالاستجابة للشروط الدولية في مقابل إعطاء إسرائيل الوقت لفرض حقائق على الأرض تشكل أمراً واقعاً يجب الاستسلام له لاحقاً. وأن ما يجري هو لعبة سياسية تمارسها اللجنة الرباعية ومن خلفها الولايات المتحدة وبتواطؤ عربي للإجهاز على المشروع الوطني الفلسطيني. وأن ما يمارس هو إدارة للصراع وليس سعياً وراء إيجاد حل شامل له.
د. خالد محمد صافي
التعليقات