فلسطين تقف أمام محطة سوداء بين الصلح والتطبيع وهناك خمسة ملايين فلسطيني في الشتات يطالبون بالحقوق المدنية في أماكن تواجدهم وبحق العودة الى أراضيهم وعزائهم هو أن هذه السنين كانت مصدراً للعبر والإستفادة من دروس الأحداث المأساوية، ولم تنهار أحلام الشعب الفلسطيني بالتحرر من الإستعمار وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس رغم الهزيمة والدموع والتشرد والخوف وبطش التنظيمات الصهيونية والقيود العربية المفروضة عليهم.

إن الهزيمة هي نتاج تراكم الفشل العربي من جهة وتراكم النجاح الصهيوني من جهة أخرى، فإلى متى تبقى سياسة quot;صم بكم عميquot; هي المعتمدة عربياً تجاه اللاجئين ومعاناتهم اليومية وفقدانهم لحقوقهم عوضاً عن المجازر بحقهم سواء كانت على أراضي عربية أم داخل فلسطين على أيدي العصابات الصهيونية التي لم تعترف حتى يومنا هذا بالمسؤولية عن نكبة الشعب الفلسطيني أو يخففوا من تعنتهم إزاء حق العودة الذي كفلته لهم قرارات الشرعية الدولية.

إن العالم العربي بحاجة إلى دراسة أسباب الفشل العربي والنجاح الصهيوني ليتعلم أسس جديدة بعيدة عن الخلافات ويعطي مزيداً من الحريات للشعوب من أجل تحقيق الغايات الكبرى للأمة، وينبغي إعادة النظر في القرارات السلبية التي أتخذت بحق اللاجئين ومن ثم العمل على تطوير هذه القرارات بما يتناسب والمرحلة الحالية لتتغير طبيعة وجوهر الأداء ومستواه، والعمل الجاد للتغلب على الضعف والوهن والتجزئة والانقسام والتخلف لأن قواعد اللعبة قد تغيرت الآن.

إن إسرائيل لم ولن تسمح تحت أي ضغط دولي أو عربي لعودة اللاجئين الى ديارهم فهو بمثابة إنتحار لها كما يدعي زعماؤها، ويعيش نحو 1.7 مليون فلسطيني في الضفة الغربية، وأكثر من مليون آخرين في قطاع غزة، بينما يعيش داخل إسرائيل نحو 1.2 مليون فلسطيني ترى فيهم إسرائيل قنبلة موقوتة وتعتبر نفسها دولة لليهود فقط وليست دولة لمواطنيها.

والغريب في الأمر أن بعض الحكومات العربية تعطي التنازلات لإسرائيل من غير وجه حق ولا تعطي حقوق نصت عليها مباديء حقوق الإنسان للاجئين الفلسطينيين على أراضيها ولكنها لغة القوة التي تخضع لها النفس البشرية بشكل عام، فهذه الأحداث الإرهابية الأخيرة غطت بظلالها على مجمل الأوضاع السياسية في العالم وبدأت الحكومات تراجع سياساتها وأستجدت بعض المواقف لتعمل على التغيير في قوانين العمل ومنح الجنسية والإنفتاح وتقديم بعض التنازلات.

إن الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية أو تجارية مع إسرائيل مطالبة أكثر من غيرها بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين لديها فلا يعقل أن تقيم علاقات تجارية وسلام مع إسرائيل من جهة وتضغط على اللاجئين من جهة أخرى ولايعقل أن تسمح لليهودي أن يستثمر ويعمل فيها والفلسطيني يقبع في المخيمات ومحظور عليه العمل في معظم المهن إلا إذا كان هناك إتفاقات غير معلنة مع إسرائيل لمنع هذا اللاجيء من حقوقه المدنية المشروعة.

أما معنى المصطلحات والمفاهيم بخصوص ما يجري مع اليهود اليوم فالتطبيع مثلاً يمكن أن نستشف مفهومه من واقع ثلاث معاهدات أبرمت بين اليهود وبين السلطة الفلسطينية و مصر و الأردن وبهذا إستطاعت إسرائيل أن تتمكن من أراضي عربية، وعلى رقاب شعب مسلم، وتقيم سفارات، وبعثات دبلوماسية، ومكاتب تجارية، وملاحق عسكرية، وثقافية وفنية، لإستجلاب اليهود مما سيؤدي إلى إنشاء مراكز إقتصادية من فنادق ومطاعم وبنوك ومراقص ومسارح ولا يستبعد أن تتحول هذه المراكز الى أوكار للجاسوسية والماسونية والإرهاب.

اليهود إستفادوا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001م، وطالبوا بتغيير المناهج والسلوك لتسهيل عمليات التطبيع كذريعة ومقدمة للسلام، وعملت على إلغاء مفاهيم كثيرة تمس العقيدة والعادات والتقاليد بينما خسر العرب والمسلمون من تلك الأحداث ولازالوا تحت تأثيرها السلبي.

بدأت عاصفة التطبيع وستتحول الى إعصار يجتاح الساحة السياسية وبسرعة ستزيد من تطورات مراحله قبل التنبؤ بنتائجه، وكأن مكافأة المعتدي هي أسمى ما يلهث وراءه المطبعون لزيادة رصيد الإفلاس السياسي لديهم بإعلانهم الولاء الكامل دون أي تحفظات، وهي بوادر أزمة جديدة ستزيد من هوة الإختلافات العربية والإسلامية أو لنقل التخبطات السياسية التي ستؤدي بالعالمين العربي والإسلامي الى مزيد من التخلف والفرقة والتناحر والطائفية وبعداً عن الديموقراطية الأمر الذي يهدد كيان الأمة.

ولكن ما الفرق بين التطبيع والصلح؟

المقصود بالتطبيع هو إقامة علاقات تجارية وسياحية ودبلوماسية وثقافية وتاريخية طبقاً للمفهوم الغربي وليس طبقاً للمفهوم الإسلامي، ويعني التطبيع عندهم الإستسلام التام لهم ليعلوا شأنهم، وهو الضياع للمعتقدات الإسلامية وفقدان المزيد من أراضي عربية وإسلامية ونحب أن نؤكد أنه لن يسود السلام إن هم بعثروا الحرية وجعلوها تحت الهيمنة الدولية وينبغي أن يعلموا أن المفهوم الإسلامي ينبغي أن يأخذ بعين الإعتبار.

أما ما يقصد بالصلح فلايهمنا منه إلا ما أصطلح عليه شرعاً والمجمع عليه من علماء الأمة وهو:
الصلح مع اليهود إن دعت المصلحة على وضع الحرب مدة معلومة إن كان عقدا ملزماً، أو مدة مطلقة إن كان عقدا جائزا ممكن الفسخ وقت الحاجة، هذا هو حدود المفهوم الإسلامي بالإجماع، أما المصالحة المتضمنة تنازلات عقدية وإلغاء لأحكام شرعية فهذا صلح باطل شرعا بالإجماع ولا يجـوز.

وبالإمكان فهم التطبيع من معاجم اللغة لندرك المفهوم اللغوي أولاً قبل الخوض في تفسير الظاهرة وأبعادها، ومراحل تطورها، فهناك أمثلة في معاجم اللغة تقول: طبع الإنسان وسجيّته، وطبع الله على قلب الكافر،ومنه أيضاً طبْع السيف والدرهم، وتطبّع النهر إذا إمتلأ، فهل نستطيع القول - وفقاً لما يحدث الآن على الساحة السياسية - أن التطبيع هو الوصول بالمنطقة الى حالة من الإحتقان السياسي؟، أو حالة من التماثل بين اليهود والمسلمين في العادات والتقاليد؟.

والتطبيع من وجهة نظر إسرائيلية هو الضغط على الأطراف المطبعة لكبح جماح المقاومة الشعبية التي أصطلح عليها ( منظمات إرهابية ) حتى يتم تطبيعهم أو ترويضهم أو كسر شوكتهم أو نحو ذلك وهي ما أصطلح عليها quot; الاستراتيجية التطبيعيةquot;.

وسيتم التطبيع على عدة مراحل الأولى منها هي quot;التطبيع بالمفاوضاتquot; مع دول الجوار والسلطة الفلسطينية كما حدث مع مصر والأردن من خلال معاهدات السلام وتم تهميش دوريهما وتقييدهما بمعاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة حتى أصبحتا الآن طرفان لتسوية النزاعات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعدما تم تحييدهما بالكامل بعد التطبيع، وبالإتفاقيات كما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد مفاوضات أوسلو التي أفرزت السلطة الوطنية الفلسطينية.

ظهرت بعد ذلك المرحلة الثانية وهي quot;التطبيع بالتشجيعquot; وهي محاولة دخول دول إسلامية في التطبيع ظهرت بوادره في لقاء الباكستان مع إسرائيل لتسير قدماً نحو التطبيع يتبعها بعد ذلك دول أخرى مثل ماليزيا وأندونيسيا والمبررات التي سيقت هو تشجيع إسرائيل للقبول بقيام دولة فلسطينية وتتبنى هذه المرحلة كلاً من باكستان وقطر وفي رأينا أن هذه المرحلة فاشلة، فقد حصل أن تحركت عجلة التطبيع إلى الأمام قليلاً في المرحلة السابقة، لكنها لم تشجع الإسرائيليين على التنازل بل انحرفت عن مساراتها تماماً وإرتدت خاسرة الأمر الذي أدى الى تنازلات عربية وإسلامية أكثر مما ينبغي دون التطرق الى أسس حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وإسرائيل ماتزال ترفض عودة اللاجئين الى أراضيهم.

وذكرت وزيرة خارجية إسرائيل quot;تسيبي ليفنيquot; مرحلة جديدة وهي المرحلة الثالثة وأسمتها quot;التطبيع قبل الحلquot; وفي نظرنا أن هذا هو التطبيع دون شروط فعلى الراغب من العرب أن يطبع علاقاته مع إسرائيل دون شروط فهو مقبول في رحمة إسرائيل وأمريكا والدول الغربية وماعدا ذلك فسيطرد من رحمة القوة المادية الغربية التي تمتلك القوة والحضارة والتأثير على المجتمع الدولي.

وستأتي المرحلة الرابعة لتصبح متجددة في أهدافها وهي quot;التطبيع بالإنسحابquot;، إذ تعلن إسرائيل عن رغبتها في الإنسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة والقبول بميادرة السلام العربية وخارطة الطريق لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة جنباً الى جنب مع الدولة اليهودية وهو ماظهرت بوادره هذه الأيام لتستعيد إسرائيل علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، وفي الجانب الإسرائيلي هناك من يرى أن أي إنسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية ومنهم بنيامين نتنياهو quot;ستشجع الإرهابquot; وتهدد مسار عملية السلام بل ويعتبرها إنتحاراً لإسرائيل، أما الجانب الفلسطيني فيرى أن إنتفاضة الأقصى منعت الدول من الهرولة نحو التطبيع بسبب ردة الفعل الإسرائيلية.

ومن وجهة نظرنا ستأتي مرحلة لاحقة وهي الخامسة وأسميها quot;التطبيع بالقوةquot; وعلى غرار غزو العراق وأفغانستان سيتم إستخدام القوة ضد السودان وسوريا وإيران إذا لم تستجب أي منها الى المطالب الدولية، وهنا نستنتج أهم تطور مراحل التطبيع حسب المفهوم الإسروأمريكي هي مرحلة quot;التطبيع بالقوةquot; ومنح إسرائيل مقعد دائم لها في الأمم المتحدة بل وحق الفيتو أيضاً حتى تتبوأ مكانة القوة العظمى التي تتولى ولاية العهد فيها بعد إنتهاء ولاية أمريكا على عرش العالم وسقوطها الأكيد رغم قناعتنا بأن المشروع الصهيوني في المنطقة هو مشروع فاشل طال الزمان أو قصر.

مصطفى الغريب

كاتب فلسطيني