يعرف معظم مختصينا ومثقفينا السبب الذي دفع العلامة المؤرخ الإجتماعي المرحوم علي الوردي الى التوقف عند حقبة تاريخية معينة لم يتمكن من مقاربتها أو الحديث عنها هربا من سياط السلطة التي إبتدعت ـ على شاكلة أجدادنا السلاطين ـ تهمة الزندقة التي كانت تطلق على كل من يخالفها الرأي. وكان الوردي رحمه الله يدرك بحسه الأكاديمي المرهف مدى حساسية هؤلاء المتسلطين المتنفذين من حقائق التاريخ التي قد تصيب مصابا يخدش مناقب هذا القبيلة أو تلك الفئة الحزبية أو تلك الشخصية ذات المناقب عند طبقة المهرجين والمطبلين ووعاظ السلاطين المخضرمين. ولعل عزوف الوردي عن التطرق الى ما آل إليه الحكم بعد رحيل الملك فيصل الأول خير دليل على فطنته تلك، فلم يأت - مثلا- على ذكر شخصية الملك غازي، الشاب الذي إختلفت فيه الآراء وترك خلفه الزوبعات.
وسنأخذ شخصية الملك غازي مع شخصية حاكم عراقي آخر هو عبد الكريم قاسم كمثالين نوضح من خلالهما الطريقة التي يتعامل بها (مؤرخينا) مع الشخصيات والرموز والأحداث لنقف على الكم الذي نتعاطاه من الضبابية والتحريف والتشويه والتزوير عندما نريد أن نؤرخ لحادثة أو لشخصية أو عندما نريد أن نقيّم مرحلة من مراحل تاريخنا، حتى نستنتج من الآن ما سيؤول له الحال مستقبلا عندما ستمتلأ بطون الكتب بحكايا الأمس القريب الذي ودعناه ورجالاته، وبما ليس له من علاقة بالواقع، وكيف سيطلق بعض الكتاب والمؤرخين المأجورين العنان لخيالهم ليتفتق عن قصص وبطولات و(كرامات) يسبغونها على من كان ولي نعمتهم دون مراعاة لذمة دون إحترام للأمانة التاريخية.
سنقارن بين هذين الشخصيتين المثالين لنتعرف على الأساليب التي إنتهجها (كتابنا) في توثيق تاريخهما، ولنكتشف إن كانوا قد نقلوه لنا بصدق وأمانة وشرف، أم زوّروه وحرفوه؟ حتى نقيس (منطقيا وإفتراضيا ) في ضوء ما كتبوه مصداقية هذا التأريخ الذي وصلنا من قرون مديدة عديدة.
عندما وصلت الى إنوف أصحاب الأقلام المأجورة رائحة تنم عن رغبة السلطة السابقة في تبجيل فخامة الملك المعظم غازي (لأمر في نفس يعقوب) تسابق وتطوع كل منهم الى تسطير مآثره وخصاله الرفيعة، وهو ما تحقق فعلا ولاحقا عندما أصدرت دوائرالدولة (الثقافية) الكتب والمؤلفات التي تمجده، فيما رُصدت ميزانية مالية ضخمة لأنتاج فيلم سينمائي روائي يستعرض مناقب هذا الملك الأنوف العطوف البديع الوديع الشهم الشجاع الهمام الكريم الرحيم، وليبرز مدى حكمته وأدبه ودماثة خلقه ورؤاه ( الوطنية والقومية)، كما تهافت كتاب السلطة على إضافة ما تفتق عنه خيالهم الموسوعي من تفاصيل شخصية وعائلية ورسمية تجبرك على تصديقها وتناقلها، كل هذا لكي (يحفظ) التأريخ مآثرهذا الملك خوف الضياع أو(التزوير) من قبل أعداء العروبة والإسلام.
ولكن كان هناك في المقابل لدى بعض مؤرخي ومدوني السير الشخصية وموثقي التاريخ العراقي الحديث قصص مخالفة تماما لما كتب عن الملك غازي، والتي تجعلنا في حيرة من أمرنا، ومن التناقض والتضاد والتضارب في الروايات والتفاصيل لدرجة تبعث على السخرية والأسى والأسف على ذاكرة أمة يأبى فقهاؤها إن يدعوها سليمة سالمة آمنة من التشويه والتفتيت والتعتيت والتعتيم.
فهناك على سبيل المثال وثائق وروايات على لسان رجال عاصروا تلك الحقبة تتحدث عن غباء هذا الملك وطيشه وتهوره، وكيف أن المدرسة الخاصة والراقية التي أرسل لها في لندن عجزت عن تعليمه حتى جدول الضرب الحسابي، فكتبت الى والده الملك فيصل معتذرة عن إمكانية تعليم (هذا الصبي لغباءه ولعدم قدرته على إستيعاب أي شيء!!)، بحسب المراسلات المحفوظة والموثقة.
وقيل عنه أيضا بعد تتويجه، إنه كان شاب متهور متهتك بل وشاذ جنسيا ومحاط بزمرة من الشباب الفاسقين المنحلين، مما تطلب الأمر تدخل رئيس الوزراء آنذاك ياسين الهاشمي لفرض حصار عليه وعلى القصر الملكي ومنع هذه الزمرة الفاسقة من الإتصال به حفاظا على الذات الملكية (كما جاء في الأمر الوزاري الموجه الى الحرس الملكي) والذي تزامن مع هروب شقيقته الأميرة مع الطاهي اليوناني، مما دفع بالملك الذي ضاق من هذا الحصار الى التآمر مع بكر صدقي أحد العسكريين الكبار لقيادة إنقلاب عسكري ضد السلطة الشرعية وإسقاط وزارة الهاشمي.
وقيل كذلك عن حادثة مقتله التي حولها بعض الكتاب الى أسطورة ومأثرة من المآثرالوطنية مدعية أن (مؤامرة إستعمارية) إستهدفت توجهات مليكنا الوطني القومي التقدمي، فيما جاءت رواية أخرى على لسان رواة الظل الذين ظلوا يخشون المجاهرة بالحقيقة لسطوة (أصحاب المآثر) والتي موجزها أن الملك الشاب كان مخمورا ذات ليل كعادته مع زمرته المنحلة في قصر الرحاب وجاءه إتصال هاتفي بأن (معشوقه) ينتظره في قصر الزهور، فركب سيارته وقادها بسرعة (وكان قد عرف عنه ولعه بالقيادة السريعة ) في شارع منحدر ملتو ٍ مظلم للقاء غلامه، فإصطدم بعمود الكهرباء ومات.
ترى أي الروايات نصدق؟
وعود على بدء، نتساءل مجددا: لماذا يتحمل تاريخنا كل هذا التأويل؟ ولماذا نقرأ أكثر من رواية مختلفة لأكثر من راو ومؤرخ عن حادثة واحدة وشخص واحد بعينه؟ فهل يعقل إن كتاب سير ذاتية ــ بعضهم وزراء ورؤساء وزارات وشخصيات سياسية نافذة وأساتذة مبجلين ــ يتعاطون الكذب والتزوير؟
فعندما نقرأ خمس روايات لحادث واحد، فلابد إن هناك أربعة منهم ــ إن لم يكن جميعهم ــ كذابين ومزورين؟
فإذن، كيف لنا أن نعيد كتابة التاريخ وفق منطق التاريخ؟ لا وفق أرادة أحد الحكام المبجلين الذي أمر بإعادة (تزوير التزوير!!).
أن الإستقرار السياسي والإجتماعي وتوفير الضمانات الكاملة التي تكفل حرية التعبير والتأليف، هو الأساس الذي يهيأ للمؤرخ مناخا إيجابيا وصحيا يمكنه من نقل ونقد وتدوين الأحداث وسيرالشخوص بصدق وتجّرد وحيادية وإنصاف، وأمانة تسمى الأمانة التاريخية.
والسؤال هنا، متى كانت منطقتنا مستقرة وتعيش مناخات تحترم حقوق وحريات الإنسان حتى يتمكن المؤرخ من نقل الحقائق التاريخية بتفاصيلها وملابساتها ومباذلها ومحاسنها بأمانة وصدق؟ وحتى لا نذهب بعيدا فإننا عاصرنا ولمسنا عن قرب مدى الغلو الذي كان عليه الرجل الذي تحكم بمقدرات البلاد لأكثر من ثلاث عقود من السنين، عندما كان يشرف بنفسه على إعادة (كتابة) التاريخ.
ونستشهد بمقابل شخصية مليكنا الشاب هذا بشخصية عراقية أخرى حكمت العراق هو الزعيم عبد الكريم قاسم، لنتعرف أكثرعلى الطريقة التي يكتب فيها تاريخنا، فقد تعرض هذا الرجل الى التشويه والتسفيه والقذف والطعن واللعنات ما لم يتعرض له أي سياسي أو قائد آخر في تاريخ العراق بمجموعه، دون أي مبرر منطقي دون أي مسوغ سياسي كاف يستحق ذلك، ولم نعثر عن تفسير واضح ومقنع غير الأحقاد الشخصية البحتة المبيتة منذ أن تدخل المرحوم الحاج سعدون التكريتي (أحد القادة الوطنيين في العراق الملكي ) ليكشف إرتباطات خيرالله طلفاح المشبوهة بالجواسيس (علاء الدين الوسواسي وخليل كنة) أمام ثوار تموز متسببا بإعفائه من منصب مدير معارف الكرخ (المنصب الذي قلدته الثورة الفتية)، ما دفع بأبن شقيقة طلفاح الشاب المشرد الذي تبرأت منه عشيرته صدام حسين ليطلق النار على الحاج سعدون التكريتي ويرديه قتيلا في منطقة الحارة بتكريت من أجل كسب ود خاله طلفاح (الذي كان أحد المتبرأين منه)!!، وأثر هذه الجريمة التي أشفت غليل الخال، قرر طلفاح تهديد الأمرأة الشاهدة التي أخبرت الشرطة بالقاتل صدام فسحبت شهادتها وإطلق سراح القاتل ليهرب الى بغداد مع خاله الذي أسكنه معه وأنقذه من تشرده، ليشارك لاحقا في محاولة إغتيال الزعيم قاسم. (1)
إن أي مراقب لتاريخنا المعاصر يكشف بسهولة فعل الضغينة وتأثيرها في عملية كتابة الكثير من فصوله، أما ما تبقى من حكاية قاسم فيعرفها الجميع، فقد أنفقت الدولة من المال العام الكثير لأستئجار المؤرخين والكتبة ولإكرام المؤلفين المتطوعين للنيل ما إستطاعوا من شخصية عبدالكريم قاسم، فإمتلأت سوق الكتب بالإصدارات والمقالات والمنشورات التي صبت كل سيئات الكون على رأسه وجردته من أي حسنة أو صفة إنسانية حميدة (2)، بل ذهبوا حد التشكيك بعراقيته وعروبته، وهذا ديدن آخر إشتهرنا به أيضا.
لنعيد السؤال مرة أخرى: كيف علينا تصديق ما كتب من تاريخنا، ما دمنا قد عاصرنا وشاهدنا كيف تتم عملية تزوير التاريخ؟ فكلما كانت هناك فسحة فسيحة للمتزلفين من الكتاب الذين تعودوا أن يعتاشوا على فتات موائد الحكام في كل زمان ومكان، كان هناك تزوير للتأريخ.
فمازلنا في خشية من أمرنا ونحن نقلب صفحات الحاضر هذه المرة، فكل من هو حولنا يؤثر السيف والترس على القرطاس والقلم، وربما سنظل نحمل أسئلتنا هذه معنا أينما نحل وأينما نرحل بحثا عن عقلاء أسوياء متحصنين ضد مُعديات موروثنا وأوبئته، موروثنا المليء بالدم والقتل والذبح وقطع الرؤوس وحشوها بالتبن والإغتصاب والتعذيب والتمثيل بالجثث والتباهي بالبطش وزهق الأرواح، مع المقبلات الأخرى كاللؤم والخبث والأنانية والدناءة والخسة واللصوصية والتفنن في تشويه السُمَع. وأخيرا الكذب والتزوير.
ويبدو أن بيننا جهابذة في مثل هذه الصنعة، والأمر لا يحتاج الى أدلة وبينات وبراهين، فها نحن اليوم وبرغم كل ما عشناه وعايشناه ولمسناه من سياسات أضاعت بلد بأكمله (بشريا وإجتماعيا وإقتصاديا وماليا وعلميا وتعليميا وتربويا وثقافيا وقضائيا وصناعيا وزراعيا وصحيا وخدميا وعمرانيا وبيئيا وأخلاقيا) على مدى ثلاث أجيال، فأننا نجد من يخرج علينا بدون أدنى شعور بالحياء بدون أدنى وخز للشرف لينكرعلى ذلك النظام كل مساوئه وليسبغ عليه ما إمتلأت به معاجم العرب اللغوية من نعوت التمجيد والتأليه.
فهل هذه هي طريقتنا في كتابة التاريخ وتوثيق أخباره وشخصياته؟
وهل ستظل ذواتنا وعواطفنا وأحقادنا وميولنا وإنتماءاتنا وعصبياتنا القبلية والطائفية حاضرة معنا عندما نريد أن نؤرخ أو ندوّن أخبار زعيم أو تفاصيل حدث؟
هل بيننا من يريد أن يقول للعالم نحن أمة لا تجيد صناعة الصدق قدر إجادتها للكذب والمبالغة والتطنيب والتطبيل والتسفيه والتسفيط وتزوير الحقائق؟
أم هي قبل كل هذا وذاك أزمة شرف عند البعض؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) للمزيد من المعلومات راجع الصفحة 507 من الجزء الخامس من وثائق محكمة الشعب 1959.
وقد روى لي هذه التفاصيل الأستاذ الشيخ نزار العايد التكريتي أطال الله عمره عام 2004.
(2) وكنت قد حصلت على شهادات المرحومين العميد محمد خضير التكريتي الذي كان عريفا ثم نائب ضابط مع الزعيم قاسم منذ الأربعينات وحتى سقوط النظام الملكي العراقي، والتاجر عبد القادر الموصلي أحد أصدقاء عبد الكريم مذ كان برتبة نقيب وحتى إستيلائه على الحكم، واللذان لم يوفرا أي حديث في مدح قاسم والثناء على شجاعته وعصاميته ودماثته وثقافته.
أوردت هذه الشهادتين كمثالين لأدعم فيها مقالي فقط لتوضيح تناقضاتنا في تدوين تاريخنا، فنحن لسنا من المعادين للنظام الملكي ورجالاته أو من المنحازين لقاسم (الذي أسقط مؤسسات دستورية كنا سننعم بفضائلها اليوم بدل سلسلة الإنقلابات التي أورثتنا الكوارث).
عبدالجبارالبياتي
التعليقات