يبدو أن النظام السوري يعول كثيراً على مؤتمر قمة الرياض، فهو يتوقع منها أن تساهم في إخراجه من دائرة الأزمات المستعصية التي أوقع ذاته بذاته فيها؛ وهي أزمات بنيوية عميقة، تتصل بطبيعته وماهيته، وعدم قدرته على الانفتاح على شعبه، طالما أن الزمرة المهينة عليه تصر على امتيازاتها السلطوية والنهبوية، وتقاوم كل الجهود المخلصة التي طالبت بإستمرار بالمصالحة الوطنية على أرضية رفع المظالم والاعتراف بالحقوق؛ وترسيخ مقدمات التغيير الديمقراطي الحقيقي. وما يدفع النظام المعني إلى عقد الآمال على القمة المذكورة يتمثّل في عوامل عدة أهمها: الموازين الإقليمية الجديدة التي توحي بأنه سيتمتع لبعض الوقت بشيء من الاستقرار النسبي، وذلك بعد أن عاش هذا النظام منذ بداية سقوط الكيان الصدامي في العراق، وتداعيات مرحلة اغتيال الرئيس الحريري في لبنان حالة انعدام وزن، دفعت به إلى اتخاذ قرارات شرسة، بعيداً عن أي التزام وطني، أو قومي، أو ديني، أو أخلاقي. فقد كانت السلطة - وما زالت- هي الهدف والمبتغى بالنسبة إليه، وكانت - وما زالت- كل الطرق التي تمكّن من الاحتفاظ بها مباحة مشروعة، وفق المنظومة القيمية البراجماتية الخاصة به، وهي المنظومة التي لاتتقاطع من بعيد أو من قريب مع مصالح الشعب السوري بكل مكوّناته وتوجهاته.


لقد انقض النظام المعني، أو بتعبير أدق أطبقت الزمرة المهيمنة فيه على مجموعة القرار ذاتها في داخله؛ وقد كان اغتيال غازي كنعان هو القرار الأصعب وفق حساباتها وتكتيكاتها، لكنها اتخذته حينما وجدت أن ضرورات الملك تقتضي ذلك. وكانت اغتيالات ما بعد الحريري في لبنان مفضوحة مكشوفة، لكنها أقدمت عليها إسكاتا لأصوات حرة نادرة لا تتكرر دائماً، فكان اغتيال سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيير جميل؛ تماماً مثلما كان قد فعلت في سورية، حينما حكمت على الفاضل عارف دليلة بالسجن مدة عشر سنوات، وهو حكم إعدام بالنسبة إلى شخص على أعتاب السبعين، وفي مرحلة كانت البلاد بأمس الحاجة إلى جهوده وجهود أمثال من النبلاء، وقد فعلتها الزمرة ذاتها كذلك مع رياض سيف في أوج عنفوانه الوطني، كما فعلتها فيما بعد مع كمال اللبواني وميشيل كيلو وغيرهم من حواريي الكفاح الوطني السوري. هؤلاء الذين يستحقون التقدير والاعتزاز، خاصة انهم يواجهون واحدة من أعتى وأخبث الدكتاتوريات التي شهدتا المنطقة، إن لم نقل العالم بأسره في عصرنا الحديث.


لقد أُرغم النظام السوري على الخروج من لبنان أمام الانفجار الشعبي اللبناني، وفي ظل الظروف الدولية المناوئة له. لكنه ظل محتفظاً هناك بشبكة العملاء التي كان قد أسسها في جميع المناطق، ومختلف الأجهزة والمؤسسات اللبنانية، بعقلية أمنية شمولية على مدى أكثر من ربع قرن من وجوده المثير للشبهات في لبنان. كما انه تمكّن في ظل اختلال المعادلات من تسليم ملف الوطنية والمقاومة والإلهيات، والتخوين والتهديد إلى الحليف المشترك بينه وبين الراعي والممول الإيراني، حزب اله الذي تمكّن بناء على الخبرة المخابراتية المستلهمة من دغدغة مشاعر النزعة السلطوية، وشهوتها لدى الجنرال عون الذي فقد البوصلة الوطنية، وبات يتخبط خبط عشواء، يبحث بمنطق رغبوي كيدي عن تعليلات واهية لموقف خاطئ، الحق الأذى بالوطن والطائفة كمكوّن من مكونات الوطن، وليس كتوظيف ايديولجي للانقضاض على الوطن، مثلما يفعل حليفه الأقوى السيد حسن نصرالله.


وقد تمكن النظام السوري، نتيجة الأخطاء في العراق، والتحولات في فلسطين، والمتغيرات الدولية، من تصعيد الموقف المناهض للاستقلال الثاني، والتحول الديمقراطي في لبنان. وأرغم الناس من مختلف المكوّنات على الاحتماء بوحدات ما قبل الدولة الوطنية ومؤسساتها، وذلك خوفاً من المجهول القادم المفتوح على كل الاحتمالات. وقد راهن كثيراً على إحداث شرخ أو شروخ في جسم المعارضين لسطوته في لبنان، تارة بمغازلة طائفة السنة عبر تصريحات حلفائه ممن تمكنوا - ولو إلى حين- من أسر طائفتهم. وتارة أخرى عبر مد الجسور وفتح الأقنية من مختلف الاتجاهات مع الموارنة، والتهديد بما ينتظرهم عبر المثال العراقي. لكن الهدف بالنسبة إلى النظام المعني هو هو لم يتغيّر، آلا وهو ترويض الجميع، واقناعم بضرورة إعادة النير ثانية إلى رقابهم، والتسبيح بحمد وبركات الأسد الابن.
لكن اللبنانيين الأصلاء بكل طوائفهم، ومشاربهم، مللهم ونحلهم، قد أدركوا بالتجربة والبرهان أنه لا مناص إلا عبر الوحدة. وأن الخيار الأمثل لمواجهة هذا النظام الغادر يتمثل في المقاومة الوطنية الواعية المنضبطة، المنفتحة على شعبها ومحيطها والعالم الأوسع.


أما في فلسطين، فقد كان لفوز حركة المقاومة الإسلامية - حماس- الأثر الأكبر في انتعاش آمال النظام السوري باستعادة الورقة الفلسطينية، واستخدامها من جديد أداة لرفع سقف الصفقات الدولية والإقليمية التي كانت دائما تمده بالنسغ الحيوي، وتسدل عليه عباءة مشروعية المصالح، في مواجهة انعدام أية صيغة من صيغ المشروعية على الصعيد الداخلي، وقد كان تقدم حماس نتيجة انشغال فتح بالسلطة وأعبائها وفسادها، وغير ذلك من عوامل الترهل والمحسوبية، وتجاهل الفصائل الأخرى وتهميشها، فضلا عن المراهنة على اللعبة السياسية وحدها، وإهمال الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية للناس. كل ذلك مكّن حماس من استغلال الأخطاء - وهذا حق مشروع لأي حزب سياسي يسعى لتولي السلطة بمشروعه- والتغلغل عبر الثغرات، والاستفادة من خبرة حزب الله في ميدان الارتباط بالناس، من خلال دعمهم عن طريق المؤسسات الحزبية لا الوطنية. ودغدغة مشاعر الشباب الطامح في التغيير الدراماتيكي، والاعتماد على المال الخارجي - المشروط الشارط بطبيعة الحال- في ميدان الإعداد العسكري استعداداً لمواجهة منافسي الداخل في المقام الأول. في حين ظلت عمليات الاحتكاك الإعلامية وسيلة لخلط الأوراق، وذلك منعاً لأي تفاهم لا يخدم توجهات المحور السوري- الإيراني. هذا في حين أن الجميع قد بات على علم بأنباء الاتصالات السرية، والمصافحات العلنية بين النظام السوري وعدوه المفترض الإسرائيلي. كما أن صمت القبور الذي يهيمن على الجولان منذ اتفاقيات كيسنجر والأسد الأب، يؤكد لفاقد البصيرة والبصر معاً أن الخيارات الإستراتيجية للنظام السوري قد حددت منذ زمن بعيد. وما تحركاته وأحابيله سوى جهود تكتيكية، قد تبدو هادئة وردية هنا، عنيفة تدميرية هناك، إلا أنها تتمحور في الحصيلة حول سياسة الاستقواء بالخارج للانقضاض على الداخل.


وكما أسلفنا في البداية، فإن هذا النظام لا يلتزم بأية روادع وثوابت من أية فئة كانت، طالما أنها تتعارض مع مشروعه التسلطي، لذلك كانت بوادر الحرب الأهلية الفلسطينية والمسؤول الأول لحماس في دمشق. ولم تنجح كل المحاولات الفلسطينية المخلصة والمصرية والاردنية من كبح جماح المواجهات الأليمة؛ في حين أن تجاوب الأطراف المتنازعة مع المبادرة السعودية، وتوصلها إلى اتفاق مكّة، كان خطوة مطلوبة لتهدئة الأوضاع. ومن الملاحظ أن الأطراف جميعها عبرت عن رضاها لما تم التوصل اليه في مكة، حتى النظام السورية نفسه الذي وجد في الاتفاق المعني مدخلاً لفتح القنوات المسدودة مع المملكة السعودية، واستخدام نفوذ المملكة في تحقيق تقدم لصالحه في لبنان عبر احتواء مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي، والتمهيد لإعادة النفوذ السوري إلى لبنان وفق شروط جديدة، تتناسب مع طبيعة المتغيرات الإقليمية والدولية. وهذا ما يعطي النظام المعني متسعاً من الوقت لالتقاط الأنفاس، والضغط على المعارضة الداخلية بقسوة أكبر، لتغدو هذه الأخيرة محبطة مشتتة، الأمر الذي يصادر على احتمالية أي تغيير مستقبلي، حتى ولو كان محدوداً؛ وقد أعلنها وزير الخارجية السوري صراحة بأن نظامه لن يقبل سوى بالمحكمة التي تتطابق والقوانين السورية. وحقيقة لا نعلم عن أي قانون يتحدث المعلم. هل هو قانون الطوارئ الذي يهيمن على البلاد منذ سيطرة حزبه على البلاد والعباد بقوة السلاح عام 1963؟ أم أنه قانون العار الذي ينص على إعدام كل من ينتمي إلى جماعة سياسية؟ أم أنه قانون سليم كبول الذي قرر اطلاق النار على الناس العزل في شوارع قامشلي بعد الفخ الذي أشرف هو بنفسه عليه، وبناء على تعليمات قيادته الأمنية؟ أم انه قانون الاغتيالات الذي يسنه ويشرف على تنفيذه الأمراء اللامرئيون في الأجهزة الاستخباراتية التي بها ومن أجلها يقوم النظام؟ أم أنه قانون الإحصاء والحزام العنصريين، وقد نص الأول على تجريد الكرد من الجنسية السورية، وما زال ساري المفعول على الرغم من مرور 45 عاما على تطبيقه. في حين أن الثاني ( الحزام) رسّخ -بناء على نزوع عنصري مقيت- الأسس لأحقاد عنصرية من الصعب أن تندمل بسرعة، فقد نص على اغتصاب الأرض من الكرد عنوة، ومنحها للعرب الذين جلبوا إلى المنطقة عنوة، ليكونوا آداة في مشروع استخباراتي بين سورية وتركيا، يقضي بفصل كرد كردستان سورية عن أشقائهم في كردستان تركيا.


إن القانون الذي يتحدث عنه المعلم لايعرف هو نفسه كنهه وماهيته، هذا المعلم الذي ارتضى لنفسه أن يكون تلميذاً لحفنة من الأميين ليس في ذهنهم سوى الكيد والمؤامرة والجريمة، طالما أن كل ذلك يمكنهم من الاحتفاظ بالعرش، مصدر النعمة والسلطة.


أما في العراق، فقد اتخذت الأمور منحى أكثر تصعيدا، إذ تقاسم النظام السوري مع النظام الإيراني الأدوار، وذلك في اتجاه التصعيد وتوتير الأجواء بين المكوّنات العراقية، خاصة السنة والشيعة، فقد التزم النظام الإيراني مهمة احتضان القوى الطائفية من الشيعة - وليس الجسم الأكبر من الطائفة المعنية الكريمة- دافعاً بهم نحو تغليب الولاءات الإقليمية ذات النزعة الطائفية، على الانتماء القومي الوطني. في حين ان النظام السوري أخذ على عاتقه وظيفة بناء الأواصر مع رفاق الأمس، مستغلاً الشعارات القوموية ستاراً لترسيخ علاقات كيدية مع فلول البعث، وأولئك المتباكين على الحق السني، وكأن هذا الأخير يتماهى مع الصدامية في أكثر وجوهها دموية وقتامة. وهكذا بدأ النظام الإيراني يشرف على فرق الموت؛ يمدها بالمال والسلاح والخبرة، والتغطية الدبلوماسية. في حين انصرف النظام السوري إلى تدريب الارهابيين واليائسين من مختلف المشارب والاتجاهات، وفتح الحدود أمامهم من دون رقيب أو حسيب، هذا على الرغم من أن النظام نفسه كان قد أغلق تلك الحدود بصورة محكمة في الثمانينات، وذلك قطعا لدابر السيارات المفخخة التي كان النظام العراقي يرسلها إلى سورية في ذلك الحين، وذلك في إطار لعبة المصالح والحكم بين الرفاق-الأعداء.


إن النظام السوري يتباكى اليوم على وحدة العراق، ويعبّر عن استعداده للاسهام في التهدئة، بعد ان كان المساهم الأساس في إيصال العراق إلى حافة التمزّق، وذلك بمعية حليفه ومرشده الإيراني. ولكن لكل شيء ثمنه، والثمن بالنسبة إلى النظام المعني هو البقاء وصياً على رقاب الناس، بموجب عقد جديد، يستمد روحيته من واقع المستجدات والمغيرات التي شهدتها - وستشهدها - المنطقة في السنوات الأخيرة، وتلك القادمة.


إن ما يقض مضاجع بشار وصحبه ن دائرة المتنفذين الضيقة جداً هو الخوف من اتفاق ايراني- سعودي، تحصل ايران بموجبه على ما تريد، وتتخلى عنه طالما انها وصلت إلى الهدف. وما يزيد من حدة الخوف اكثر هو معرفة النظام بقواعد واصول منطق المنفعة، المعتمد أساساً في السياسة الايرانية، وهي السياسة اللاهثة خلف المصالح المغلّفة بالعقائد.


ويبدو أن بوادر التوافق السعودي- الإيراني التي بدت في لبنان عبر لقاء الحريري لم يستسغها النظام السوري، فأطلق المعلم - بناء على الأوامر - صيحة التهديد التي انعكست آثارها في لغة الجسد الباردة التي ظهر بها البري في مؤتمره الصحفي الأخير على غير عادته. فاضطر إلى تقمص دور الخصم، وهو الذي يحبذ دور الوسيط الراعي القادر على إذابة الجليد في الأنفس. إلا أن هيئته الأخيرة أمام عدسات الصحفيين أكدت أن الرجل يستحق الشفقة والتعاطف قبل أي شيء آخر.


وفي إطار لعبة البحث عن البدائل، يراهن النظام السوري على الحليف المنتظر الروسي، علّه يمكنه مجدداً من أداء دورٍ اقليمي مؤثر، يذكره بفردوسيات الحرب الباردة، يوم كان نظام الأسد الأب يداهن الغرب والشرق، وتمكّن بفعل ذلك من استخدام الأوراق الأساسية في المنطقة، وهي اللبناينة والفلسطينية والكردية. وفوق هذا وذلك صمت الجميع أمام نزوعه الدكتاتوري، كما فعل الأمر نفسه مع صدام. وهكذا تسنى له كبت أنفاس المجتمع والدولة بأجهزة اخطبوطية، تعشعش في كل الزوايا وتتغلغل. لكن خيوط القيادة والسيطرة جميعها كانت تنتهي عنده.


وبعد رحيل الأسد العجوز القدري، ومجيء خلفه المعد بطريقة أكثر من مستعجلة، هلل جهز الإعداد والمصالح للرئيس الشاب المنفتح، وأغدق عليه من الصفات والخلال الحميدة ما لم يحظ بها الأنبياء. والأغرب في الأمر هو أن اللعبة قد انطلت على جموع مثقفينا، خاصة بعد الرسالة المفتوحة الجرئية التي وجها المفكر الراحل، الاستاذ انطون مقدسي إلى الرئيس الجديد، عبر فيها بصدق عن أماني الناس وتطلعاتهم؛ فانطلقت لجان المجتمع المدني بعد صدرو البيانات الشهيرة؛ واعتقد الجميع أن نسائم الربيع قد هبّت، وان في استطاعة المثقفين إنجاز ما عجز عنه السياسيون الذين كانوا قد ارتضوا بقواعد اللعبة التي فرضها عليهم الأسد الأب في بدايات عهده، وذلك حينما اسس لجبهة الوطنية التقدمية بهدف تدجين المنافسين، وإفسادهم لا اشراكهم في القرار السياسي، بل اتخاذهم مجرد أبواق دعاية ومصدراً لتشريع اللامشروع. وانسجاماً مع ذلك، منعهم من العمل ضمن القوات المسلحة والجامعات. وسيطر على النقابات جميعها، فكانت الحصيلة كما نراها اليوم: معارضة ضعيفة في مواجهة سلطة تستقوي بالجميع، ما عدا أبناء الوطن. تتباحث مع القوى الاقليمية، وتلهث خلف تلك الدولية الفاعلة، من أجل أن تتمكن من التصرف على هواها في الداخل.


والسؤال الذي يفرض ذاته بمناسبة قمة الرياض التي نحن بصددها هو:
تُرى هل سيتكاتف النظام الرسمي العربي من أجل عدم تكرار تجربة العراق؟ وبالتالي سيحاول بطريقة ما انقاذ النظام السوري من مصيره المجهول، الأمر الذي يفتح المجال أمام الكثير من التكهنات التي قد لاتُحمد عقباها.


أم أن النظام المعني - الرسمي العربي- سيقر بواقعية بضرورة الاصلاح وحتميته، وذلك لإعادة الحيوية إلى الكيانات الهرمة التي باتت مرتعا لزمر الفساد والإفساد، وموئلاً لنزعات التطرف اللاعقلانية التي تتمرد على الوضع القائم، لكنها لأسبابها الخاصة بها تعجز عن تقديم البديل المطلوب.

د. عبدالباسط سيدا