تشكل الثقافة المصرية بعناوينها المختلفة جزءا هاما من ثقافة بقية شعوب المنطقة لغزارة المنتوج الثقافي المصري في مختلف مجالات الحياة الفنية والأدبية والصحفية وغيرها. ويقف الفن المصري تحديدا ( السينمائي والتلفزيوني) في مقدمة ينابيع تلك الثقافة التي يتابعها المثقف. ولا أخفي على القاريء الكريم بأنه بسبب سد منافذ الخارج على المثقف العراقي عموما والكردي على وجه الخصوص في العهد الصدامي الظلامي، فلم تسنح لنا زيارات وجولات الى خارج العراق للتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى، فكانت الإعمال الفنية والأدبية هي المنفذ الوحيد الذي أطللنا منه على ثقافة الغير.وأنا بطبعي متابع نهم للثقافة المصرية عبر ذلك المنفذ، ولكن رغم تلك المتابعة على مدى سنوات طويلة، لم أطلع سوى على الجزء المعلن من سياسة الدولة أوأساليب حكمها وكيفية تعاملها مع مواطنيها. وكم كنت منبهرا ببعض اللقطات التي أراها في أفلام مصرية على مدى إحترام الدولة للقوانين، خصوصا تلك المتعلقة بحرية المواطنين.. فقد كنت أرى في معظم تلك الأفلام كيف أن المواطن المصري يحق له الإطلاع على أذونات القاضي في حال طلب الدخول الى أحد المنازل لتفتيشها، وكيف كان الضابط يقول لصاحب الشقة ( معايا أمر من النيابة بتفتيش الشقة )!!. وهذه حالة كانت مفقودة في عراقنا العزيز طوال سنوات حكم البعث، فقد إعتادت أجهزتنا الأمنية لا أن تداهم البيوت في الفجر، بل كان مجرد هروب أحد أفراد العوائل العراقية عن الخدمة العسكرية مبررا كافيا لهدم بيوتهم بالجرارات والبلدوزرات على رؤوس ساكنيها ( الخونة)!!..
على كل حال الأوضاع تغيرت الآن وأصبح الأنترنيت والفضائيات المنهل الأساسي للثقافة والمعرفة في شتى بلدان العالم، وأصبحنا نحن بدورنا على دراية بكل صغيرة وكبيرة تحدث خلال هذه الساعة في أي جزء من العالم.
ورويدا رويدا تفتحت عيوننا على خفايا وحقائق الكثير من الأنظمة والحكومات التي تحكم الدول العربية، فسباق نشر الغسيل وتصفية الحسابات بين الحكومات جارية بإستغلال شاشات الفضائيات،ولم نعد بحاجة الى مصادر إستخبارية للكشف عن المستور الذي تحاول الحكومات إخفائه عن الناس،والمثقف أصبح الرابح الوحيد من سباق نشر الغسيل القذر للحكومات على الملأ. فيا رب زد وبارك..
مضمون هذا المقال دعاني اليه الإستفتاء الذي جري مؤخرا في مصر لتعديل بعض مواد الدستور. وهالتني تلك التغييرات الكبيرة على الدستور المصري التي لم أكن أنتظرها من دولة محترمة كمصر التي تفتخر بديمقراطيتها في المنطقة، وهي تغييرات فرضت قيودا كبيرة على الحريات المدنية والسياسية والشخصية، وما زاد من إستغرابي أكثر هو عدم وجود أي مبرر لتقييد تلك الحريات النسبية أصلا تحت يافطة الحرب على الإرهاب، لأن مصر تكاد تكون ( الفرقة ناجية) من الإرهاب الى حد ما، رغم تعرضها الى بعض العمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة، ولكنها لو قيست ببقية الدول ومنها العراق الذي يذبح فيه كل يوم عشرات الناس على أيدي الإرهابيين،لكانت النتيجة ليست لصالح الدولة العريقة في المنطقة،حتى العراق المبتلى بالإرهابين الداخلي والخارجي لم يضع قيودا بذلك الحجم على الحريات السياسية والمدنية، بل أن الحكومة العراقية التي لم تجرب قط وطوال تاريخ الدولة العراقية الحديثة أي نوع من أنواع الديمقراطية، تسير فعلا نحو ترسيخ أسس الديمقراطية رغم التهديدات الإرهابية، وبالمقابل نجد مصر التي تتبجح كثيرا بدساتيرها وأساليب حكمها وتفتخر بتجاربها الديمقراطية، تتراجع مئات الخطوات الى الوراء.
فعندما يترشح الرئيس حسني مبارك لولايات رئاسية دامت أكثر من 25 سنة، أضف اليها فترة توليه منصب نائب رئيس الجمهورية، فلا أتصور أن يكون مختلفا كثيرا عن دكتاتور العراق السابق صدام حسين الذي إغتصب السلطة بإنقلاب عسكري.حتى صدام أراد في فترة من فترات حكمه أن يقلد مبارك بتنظيم إنتخابات رئاسية تحت عنوان البيعة والترشح للرئاسة بغية إسباغ نوع من الشرعية المزيفة على حكمه للدولة.ورغم نجاحه في ذلك أسوة بمبارك لكن العملية كانت مفضوحة وهزيلة.
وبما أن الدكتاتور ميال بطبعه الى التشكيك بولاء الشعب، وهذا يجر الى التشكيك حتى بأقرب معاونيه، فمن الطبيعي أن يعتمد هذا الدكتاتور على عدد قليل من الأعوان والأزلام والمستشارين الذين يربطون عادة مصائرهم بمصائر الرئيس، وهذا ما يخلق باٌلإضافة الى الدكتاتور الأكبر، عددا من الدكتاتوريين الصغار. ففي العراق مثلا كان صدام حسين يعتمد على عدد صغير من الأعوان لازموه منذ بداية تأسيسه للأجهزة الحزبية البوليسية حتى وقوفهم معا في قفص الإتهام، ولم يغادروا كراسي الحكم إلا الى القبر مع سيدهم ( طه الجزراوي نموذجا )، الذي لم يرد مفارقة سيده حتى في القبر، فأوصى بدفنه الى جنبه في قرية العوجة رغم أن الجزراوي كردي الأصل من مناطق الموصل.وكذلك نجد عددا من رموز النظام المصري يلازمون رئيسهم كوزراء لعقود طويلة الى اليوم الذي يودعون فيه التراب..
تحضرني في هذه المناسبة طرفة أرددها مرارا عند الحديث عن مثل هذه الحالات، ولا ضير أن أكررها الآن لمن لم يعرفها. ففي سنوات الثمانينات، وهي سنوات قوة النظام البعثي كانت في العراق دار نشر كردية تتخذ من بغداد مقرا لها..ورغم أن هذه الدار كانت تصدر جريدة كردية موالية للنظام وكان من المفروض أن يكون مقرها في مدينة كردستانية، ولكن النظام أبقاها في بغداد وجعلها جزءا من الشعبة الثالثة التابعة لمديرية الأمن العامة المختصة بملاحقة الأكراد المعارضين،وعين لها مديرا عاما من الأكراد يحتل منصب عضو فرقة في حزب البعث العربي الإشتراكي الحاكم. وكانت هذه الدار تصدر جريدة ومجلتين شهرية وأخرى فصلية،وكان المدير العام إذا أراد إجراء تغييرات في المناصب داخل مديريته يعين أحدهم رئيسا لتحرير جريدة ( هاوكاري) وآخر لمجلة ( بيان) وواحدا لمجلة ( رنكيين) وبعد شهرين أو ثلاثة يغير مواقعهم بتعيين رئيس تحرير الجريدة رئيسا لتحرير المجلة الشهرية ورئيس المجلة الفصلية رئيسا لتحرير الجريدة وهكذا كان يجري التغييرات حصرا بمواقع هؤلاء الثلاثة. وعند سؤاله في إحدى المرات عن جدوى هذه التغييرات الدورية المحصورة بالإشخاص الثلاثة كان يجيب: يا حسرة منين أجيب آخرين،لا أملك غيرهم؟؟!!!
يبدو أن الدكتاتوريين لا يختلفون عن المدير العام الكردي هذا، فهم لا يملكون غير حفنة من الأزلام والأعوان يمسكون بتلابيبهم من المهد الى اللحد!. وقديما قيل ( لو خليت قلبت).
في الدول الديمقراطية ليس هناك رئيس أو وزير مدى الحياة، ففي أمريكا مثلا يمنع الدستور أي رئيس أن يحكم أكثر من ثماني سنوات، وكذا في العديد من دول العالم الديمقراطية.. صحيح أن الحكم في أمريكا يتداوله الحزبان الجمهوري والديمقراطي، وفي بريطانيا العمال والمحافظين، ولكن هذا لا يعني أن يتكرر مرشحيهم في الدورات الإنتخابية، هناك منافسة حقيقية بين هذه الأحزاب لصالح المواطنين، وأعتقد أن سياساتهم ومبادئهم هي التي تخلدهم وليست الزعمات الحزبية.
أستغرب كثيرا ما حاوله الرئيس المصري حسني مبارك بتعديلاته الأخيرة على الدستور، فبرغم أنه وصل الى أرذل العمر ولكنه طبعا لن يكون مخلدا أبد الدهر،لأن هذا أمر محال، مع ذلك وبرغم أن المصريين شبعوا من حكمه حتى أنشأوا حركة باسم ( كفاية)، لكن يبدو أن مبارك لا يرتاح له البال حتى في قبره إذا ما ترك بلده يسير نحو الديمقراطية. فنراه بتعديلاته الأخيرة على الدستور يقوي من سلطات الرئيس القادم ليكون أكثر منه دكتاتورية.وبذلك فهو لا يريح ولا يستريح، لا يرحم ولا يدع رحمة الله تنزل على عباده.
فمن يقرأ التعديلات الأخيرة على الدستور التي تنص على تخويل سلطة إحالة المدنيين الى المحاكم العسكرية بأمر الرئيس، والسماح لسلطاته الأمنية بدخول المنازل وتفتيشها من دون أوامر قضائية، والتنصت على المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية وألغاء حق المستقلين في الترشح لمنصب الرئيس وإلغاء الإشراف القضائي على عمليات الإقتراع في الإنتخابات، ومنح الرئيس سلطة حل مجلس الشعب وغيرها الكثير من السلطات والصلاحيات الموسعة للرئيس مقابل تضييق كبير لحريات وحقوق المواطنين.. ولا أدري بماذا يختلف الرئيس حسني مبارك عن رئيسنا المنبوذ والمقبور صدام حسين في مثل هذه الحالة؟؟؟!!!
كما ذكرت آنفا فالرئيس مبارك وصل الى عمر متقدم قد لا يمكنه حتى من إكمال فترة رئاسته الحالية، (الأعمار بيد الله)، وليس هناك غير تفسير واحد لهذا الإصرار العجيب منه على إجراء تلك التعديلات الدستورية وطرحه في الإستفتاء الهزيل، وهو تمهيد نجله جمال مبارك ليحتل مكانه، ولا أدري كيف يمكن لرئيس يدعي إنتخابه بطريقة ديمقراطية أن يورث الحكم ( الديمقراطي!.) لنجله؟؟!! هذا ما لم يفعله حتى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي خرج ملايين المصريين الى الشارع لثنيه عن التنحي من الحكم طواعية!
لست معنيا بتلك التعديلات ولا بأحوال مصرالسياسية، فبنا كعراقيين ما يكفينا وزيادة، ولكن ماذا أفعل وأنا خلقت في منطقة الشرق الأوسط التي أعتقد أنه كان من المفروض أن ينشأ متحف يجمع فيها تماثيل رؤوساء دولها، وتعرضها للعالم كعجيبة إضافية لعجائب الدنيا السبع..
شيرزاد شيخاني
التعليقات