quot; عندما تتسلل المحبة إلى عتمة النفوس، تطرد منها كل شبح، و تفرغها من كل شاغل آخر لِ تقطنها بِ مفردهاquot;لا أدري لِمَن هذا الكلام السماوي، ربما لِ هيرمن هيسه أو سوفوكل أو فيثاغورث، أو ربما لِ شكسبير أو لِسمير الحاج شاهين.


إنني لم أدقق وقتها في ملكية أو صاحب ذاك الكلام الجميل، لأني صادفته ضمن القصاصات و الملاحظات التي كنت / و لا زلت/ أدوِّنها عند قراءاتي و مطالعاتي، فَ كلّ ما وجدته، هو أنَّ القصاصات ( التي سوف أقتبس منها لِ هذا المقال) مكتوب فيها المصدر و الكاتب أو الباحث، إذْ أنّ الكتاب هو بعنوانquot; روح الموسيقىquot; و الكاتب هو سمير الحاج شاهين، على كلِّ حال، أنا أشكر العزيز سمير على نقله أو دراسته لِ روح الموسيقى، لأنه حقيقة نحن بحاجة إلى نماذج من أمثال ثقافة سمير و جوهر كتابه الرائع الذي يحضنا على العمل لِ أجل انتصار النور و الخير و أقانيم الفرح الثلاثة: التسامح، الرجاء و المحبة. على الظلام و الشر و مقومات الحزن الثلاث: القتل، الحقد و الكراهية. إنه انتصار النزعة الروحية و مناخات السماء و قلب الطفل الرائع في الأبدية، على الناحية المادية، و أجواء الأرض و دم الشيخ النابض في الزمان، و انحلال الجسد و تراخيه الكسول في مستنقع الشهوات ( الجنس، السلطة، الطغيان). نحن بحاجة إلى ثقافة تحثّنا على أن ننسى ذاتنا، أن نحملها لِ نَهِِبَها لِ الآخر بسخاء و دون تحفّظ، و كأننا نلقيها عليه قائلين: لا نريدها بعدْ، بل ينبغي أن نعطيك إيّاها لِ تتصرّف بها كما تشاء، لِ تدمجها بِ شخصك فنرتاح. أنظر كم هي جميلة الآن و قد تطهّرت من كلّ أدرانها و أصبحت جديرة بِ أن تقدَّم هدية إليك، حتى لَ نكاد، و قد اغتسل قلبنا من ماء البغض و الحقد، أن نتحول إلى أرواح و فراشات تتطير في ملكوت السماوات، و نلقي تحية الصباح على الروح الكبرى هناك فوق الغيوم بين النجوم خلف القمر، و هل هناك ألَذّ من أن يتحوَّل العدو إلى صديق، فلا نعود في حالة حرب مع أحد، و لا يبقى لنا خصوم، بل نتآخى و نتصالح مع جميع البشر الذين نشفق عل كلّ مَن يخطر على بالنا منهم في هذه اللحظة، و نستغفره نادمين لأننا حقدنا عليه في السابق، نتوحد معه في مصير مشترك، ما يصيبه يصيبنا نحن، و ما نملكه هو ملك لنا، و ها نحن نعانقه دامعين من حنان طالبين الصفح و الغفران عن كلِّ نوايا شريرة بيَّتناها ضده، فَ الألفة أشدّ ما تكون بعدَ النفور، و إذْ نتخلّص من الضغينة، ألا نمحو إحدى بشاعاتنا؟.
نعم إن في هذا التحرّر من الأنا الضيِّق و الاندفاع نحو الآخرين انعتاق و تطهّر يضاهي لذَّة الشعور بِ النظافة بعد حمَّام دافئ.


فَ الفن ليس مجرد لعب نافع أو جميل، إن مضمونه يشمل كل مضمون الروح، إنه يبيح لِ حَدسنا أسرار النفس البشرية، ما يحرِّك كوامنها و يهزُّ أغوارها، و هو يفعل ذلك من خلال المظهر الذي يعلو مقاما، حيث أنه يشحذ الوعي و الإحساس بِ الأشياء السامية، و هكذا يعلمنا بما هو إنساني فينا، و هدفه النهائي هو في تخفيف الهمجية و تهذيب الأخلاق، لأنه يترك الإنسان وجها لِ وجه أمام غرائزه و كأنها غريبة عنه؛ الفن هو كَ الدين و الفلسفة، وسيلة لِ التعبير عن أسمى حاجات و متطلبات الروح في تطابقها مع الأمور الإلهية، إنه همزة الوصل بين عالمي المادة و الروح.
إننا بِ التأكيد لسنل بحاجة لِ الفن، لأننا ndash; و بكلِّ بساطة- مجرَّدين من الروح، نحن منغمسون من باطن أقدامنا إلى قمة شعرنا في الماديات، و بالتحديد، الغرائز البدائية، أو قُلْ، الغرائز المشتركة بين الكائنات الحية كلها ( الجنس، الطعام )، و أننا شَرَّعْنا الحياة بناءا على هذه الغرائز و مفاعيلها كَ: القتل، الغزو، السبي، الغدر، المكر، الحقد، التقية، النفاق، الضغينة، الثأر...


لقد أخذنا عادات و تقاليد مجموعات من الكائنات الحية و جعلناها نبراسا لنا و قيَما مقدسة ممنوع تجاوزها، أو الابتعاد عنها في حياتنا اليومية، و وصل الأمر بنا إلى حدود قَتْل مَنْ يتطاول عليها،(حتى أننا بتنا نتهم السؤال و التساؤل بِ التطاول) لأنها أصبحت من المقدسات، و جزء كبير و كبير جدا منها هو طريقة عيش أناس في صحارى هذه البسيطة لا يعترفون بِ الآخر، و بالتالي لا يعترفون بِ حَقٍّ لِ سواهم، و أنهم قَسَّموا البشر إلى قسمين، جماعتين، أمتين. أمة مؤمنة، شريفة، نقية، صالحة اختارها الله من بين كلِّ الأمم، و أمة، أو باقي الأمم جميعها هم أنجاس و قردة و خنازير و كَفَرَة يجب قتلهم و قتالهم إلى أن ينضووا تحت سيف الأمة المقدسة، أمة الله.

إننا قسَّمنا العالم إلى أخيار و أشرار، إلى جيش الله و أعداء الله، إلى حزب الله، و حزب الشيطان، و بالطبع نحن هم الأخيار، نحن هم جند الله، و نحن هم حزب الله، و أما الآخرون، فَ هم الكفرة، أعداء الله، و لقد تقرَّر، لا بل، أمَرَنَا قائد حزبنا و جيشنا(= الله) بِ القتال إلى أن ترتفع رايته على قلاع و قصور المعمورة، و لقد أمرنا الله بأن نبقى في حالة نفير و استنفار و قنال دائم إلى أن ينتصر دين الله، و لذلك فَ نحن جنَّدنا أنفسنا و أموالنا و أبناءنا و نطافنا في سبيل زعيمنا و قائدنا المجاهد و المقاتل الجبار و المتكبر المنتقم الماكر الوهَّاب، و هكذا، فَ لا سلام بيننا، و لا أمن و أمان إلى أن يسود دين الله على الأديان كلها و في العالم أجمع، و لهذا فَ نحن لا نقبل بِ التنوّع إلاَّ إذا كنا نحن الأعلون، لا نقبل بِ الآخر إلاّ إذا كنا نحن الأسياد و يكونون هم الأتباع، يكونون هم أهل الذمة، أي أننا نمنُّ عليهم بِ الماء و الخبز و الهواء. هذه أبشع أنواع العبودية و العنصرية البغيضة، فَ الكلاب أيضا هي في ذمَة أصحابها، فَ هل يستوي الذمّي و العنصري الذي استعبده تحت شعارات و رايات و آيات إلهية؟ هل يمكن لِ أيِّ كائن أن يقتنع بأن النظام العنصري الفاشي هو نظام العدل و المساواة و المحبة؟


هل يمكن لِ أيِّ عاقل أن يقتنع بأن البلاد التي تمنع دخول غير المسلمين إلى مكة و يثرب بدعوى أنهم أنجاس، هي بلاد فيه ذرَّة من الإنسانية؟!


هل يمكن أن يتكون لديه انطباع بأن هذه الثقافة هي ثقافة المساواة و الحب و الحرية و التسامح، أم أنه سَ يلمس العنصرية لمْس اليد؟


إن هذه الدول العنصرية ستبقى في الظلام الدامس و مستنقعات الدماء و الأوحال لأنها تلقي خرزات النوم و الصمت الأبدي على نور الشمس، و تبقى غارقة في الرتابة التي تسلب الزمن مبرر وجودها، فَ التنوع يجب أن يتم من خلال تماثل، هو انسجام العمل الموسيقي، فَ أفراد البشر المتميزين عن بعضهم يظل بينهم قاسم مشترك هو وحدة النوع البشري الذي ينتمون إليه، و لأننا لا نؤمن بِ التنوع بِ الآخر المختلف، لذلك لا نؤمن بِ الفن الرفيع، و الذي ذروته هي الموسيقى العدَّاد الذي يشير إلى أين أصبح تيار حياتنا الداخلية، فَ الموسيقى هي سكرة من نوع آخر، من نوع تلك الانفعالات الجامحة التي تستيقظ فينا بِ فَضْل المخدّر أو عودة الربيع، و تنسينا ذواتنا، و عندئذ تتوثَّق الرابطة من جديد بيننا و بين كلِّ شخص، و يزول كل ما يفصل بين الإنسان و أخيه الإنسان لِ يَحلّ مكانه شعور بالاتحاد الكلي؛ إن هذه الخمرة قمينة بِ أن تبثَّ في جمهور كامل نعمة الفن الذي يحيطهم بِ حَشْد من الأرواح المتطابقة معهم تماما، بأن تجبر الأرض التي أصبحت غريبة أو عدائية إلى إحياء مصالحتها مع الإنسان، ابنها الشاطر، و إغداق هباتها عليه و توجيه الأوامر إلى صخورها و صحاريها و وحوشها الكاسرة بِ الاقتراب منه مستكينة بسلام، و بأن تحرِّر العبد و تلغي فجأة الحواجز المصطنعة التي وضعتها المنفعة و الصدفة بين البشر، و في هذا الانسجام الكوني لا ينصهر كل فرد مع قريبه فقط، و إنما يتوافق أيضا مع ذاته، فَ الحياة كما يقول نيتشه:quot; الحياة بدون موسيقى هي بكلِّ بساطة غلطة، تعب، منفى.quot;


نعم. إنه على حقّ، فَ للموسيقى قوة تتسلط على الأرواح و الأقوام، و تسيرهم كَ أنها وزير آمر أو قانون ينضوي له الناس و دولهم، و هناك منذ أقدم العصور في الصين، و كذلك في الأساطير عند الإغريق، فكرة تلعب دورا هاما، و هي فكرة حياة مثالية سماوية لِ الإنسان تسيطر عليها الموسيقى، و يضيف هيرمن هيسه: أن الموسيقى كانت في الأزمنة الغابرة وسيلة مشروعة لِ السحر الذي ظلَّ جوهره النقي يلازمها أكثر من بقية الفنون الأخرى، كما كانت حافزا مؤكدا إلى صهر جماعة من الناس في نغمة واحدة، و ضبط تنفسهم و نبضهم و حالتهم النفسية في نمط مشترك، و حثِّهم على مناداة القوى الأبدية و القيام لِ الرقص و الزحف، لِ النزال و الأعمال المقدَّسة. إن صفاء الأنغام هو التقدم بِ خفَّة و شجاعة و ابتسام وسط فظائع العالم و نيرانه، و احتفال بِ تقديم القرابين. من هنا، أن الموسيقى الكلاسيكية في رأي هيرمن هيسه، هي محور الثقافة الغربية، فيها يتجسد تراث العصور القديمة و الحضارة المسيحية، بفضلها يملك المرء طبيعة إيمان نوراني لا يُقهَر، و أخلاقا موسومة بِ الشهامة و النبْل، و الموسيقى كما عرَّفتها العزيزة هبة قوَّاس، هي طنين الله على الأرض، و أنا أقول يا أيتها الجميلة هبة: أنكِ أنت الوتر الأول و السابع في سلم آلة الله الذي يعزف عليها ألحانه السماوية، و أنت صدى صوته الخالد في هذا الأثير، و أنتِ صورته البهية على الأرض، تشتركين مع القمر في استفزاز الحواس و الروح، أنتِ كل الإناث يا هبة و كل المنحنيات من السماء إلى الأرض، أنت التي تربطين السماء بِ الأرض، و أنت التي تحاكين الله في المحبة و الجمال و السلام.


فَ الموسيقا في الصين الأسطورية، كانت تلعب دورا قياديا في حياة الحكومة و البلاط، و كان الصينيون القدماء يساوون بين ازدهارها أو تدهورها و بين ارتقاء أو انحطاط الثقافة و الأخلاق بل و الدولة بِ كاملها، إذْ أن جذورها تمتد بِ حَسَب نظريتهم في الواحد الأعظم الذي خلق قطبين، أبدعا بدورهما قوتي الظلام و النور، و هي لا تبلغ حَدَّ الكمال إلاَّ عندما يتوافق الليل مع النهار، و تنسجم الأرض مع السماء، و يسود العالم السلام، و تروح الأشياء و قد اطمأنت، تتبع في تحولاتها تلك التي تعلوها،
و تبتعد الرغبات و الأهواء عن مسالك الضلال، و هي في هذه الحال، إنَّما تنبع من التوازن الناجم بدوره عن العدل الذي ينشأ عن روح الدنيا، ذلك السرّ القادر وحده على سبر أغوار الجمال، لكن إذا كان الحكام الصالحون يحبون الموسيقى المرحة الصافية، و هي التي يتميز بها عصر منتظم ذو حكومة متزنة هادئة، فَ إنَّ الطغاة يفضِّلون الموسيقى الحزينة الصاخبة، و هي التي يتصف بها عهد مضطرب ذو حكومة منحلة معرضة لِ الخطر، و شعب متعصِّب عنصري صِدامي عِدائي كاره لِ الآخر غير مُحِبّ و غير مسالم.


و لم يكن شكسبير على خطأ حين قال في تاجر البنقية:quot; ليس ثمة مخلوق مهما بلغ من القسوة و الفظاظة و الوحشية، ألاَّ تفعل الموسيقى فعلها فيه فَ تبَدِّل طبعه، و الرجل الذي لا يشعر بِ الموسيقى، و لا تحرِّكه أو تثيره الأنغام العذبة، إنَّما هو مخلوق مطبوع على الغدر و الخيانة، مفطور على المكر و النهب، و أنَّ حركات روحه لا بدّ مظلمة ظلام الليل، و عواطفه داكنة مثل الجحيم، و مثل هذا الرجل حقيقٌ بِ ألاَّ يوثَق بهquot;.


و استطرادا أقول: الأمة، لا بل الأمم، التي تكره الموسيقى أو التي تحرِّمها و تمنعها، إنَّما هي أمة همجية، قيَمها لا تتعدَّى قِيَم الإنسان البدائي المتوحّش، الذي يرى في كلِّ شيء فريسة له، و الذي ردود أفعاله لا تختلف عن ردود أفعال أيِّ حيوان مفترس متحفِّز لِ الهجوم و الانقضاض على مصدر أيَّة حركة من أين أتت، لا يعرف الخيال و لا الابتسامة، كيف سَيعرفها و هو يحرِّم و يمنع و يضرب ( الأنثى ) الموسيقى؟!
فَهذه هي قِيَمنا، و تلك هي موسيقاهم.

فهان كيراكوس

نيسان/2007 سوريا
[email protected]