اربع سنوات على سقوط نظام صدام
المشروع الامريكي وحتمية الوضوح

المشروع الامريكي في العراق، وفي المنطقة عموما، مشروع يجهد اصحابه الامريكان على ان يبقوه غائما، وفق استراتيجية قد تكون فرعا عن استراتيجيتهم الشهيرة المعروفة بالفوضى الخلاقة، وذلك لتحقيق اهداف عدة، منها، ولربما اهما هو قراءة الانطباع العام المتولد لدى الشعب العراقي، ومن ثم التحرك وفق ما تقدمه تلك القراءة، ولكن هذ لا يعني انه غائم كما يتمنى الامريكان، فهو يتضح تدريجيا لدى شرائح ليست بالقليلة من العراقيين، اما لدي النخب العراقية، التي الفت قراءة ما يخبئه الامريكان من خلال علاقة، ليست ودية طبعا، دامت اكثر من عقدين، منذ اندلاع الحرب العراقية الايرانية عام 1981 الى سقوط نظام صدام حسين عام 2003، فهو واضح جدا، وان المتتبع لمجريات الاحداث يرى ان المنطقة كانت قد دخلت في خضم المشروع يوم اندلعت الحرب العراقية الايرانية، التي بدت مقدماتها مطلع السبعينيات، عندما سفّر احمد حسن البكر، الرئيس الذي تولى الزمام بعد انقلاب البعثيين على عبد الرحمن محمد عارف عام 1968، واطاحه صدام حسين عام 1979 ليتولى مهامه الحكومية والحزبية، سفّر اول دفعة من العراقيين بذريعة انهم من التابعية الايرانية، وتوالت الاحداث بوتيرة متصاعدة حتى كانت الحرب التي استمرت اكثر من ثماني سنوات، والتي بدت شرارتها الاولى بمباركة امريكية عربية واسعة لاهداف، منها وضع حد للمد الاسلامي الاصولي القادم من ايران بجيش عراقي متضخم ينذر بتنامي دور البعث القومي المزعوم على صعيد المنطقة، وقد كان احتلال الكويت واحدا من نذر البعث تلك، فهي، وبكلمة واحدة حرب بين اثنين سيكون المنتصر فيها، ليس احد المتحاربين، وانما طرف ثالث له مصلحة بتقزيم الدولتين المتحاربتين، ايران و العراق.


اليوم وبعد كل هذا الجدب الذي طبع الواقع العراقي، الملبد بالغيوم يجهد الامريكيونمن اجل ان يرسموا صورة مغايرة، اقل غيوما او اكثر اشراقا، من خلال ما يمكن ان ينطبع في الوجدان كإحساس أوَّليٍّ يمثل ردة الفعل السريعة المترتبة على الحدث، والحدث هنا هو اسقاط نظام صدام حسين، وهو حدث لايخلو من بهجة وسرور بالنسبة لمعظم العراقيين، الذين اكتووا بنار الطغيان، يجهد الامريكيون مستغلين ما تحمله الذاكرة من فصول قهر ومن ويلات، كان لنظام صدام حسين الدور الابرز في احداثها على صعيدين هما:
1ـ صعيد الواقع المتشظى، المتصادم مع بعضه بشكل ينذر بتفجر الازمة المزمنة للهوية الوطنية، التي فاقهمها البعثيون بممارسة متعسفة خرقاء، كنت قد اشرت اليها في مقالات سابقة، واوجزها الآن بانها ممارسة العقلية المتعصبة التي توظف الخطا لتحقيق مصلحة آثمة، وهي ازمة ستطيح بكل الاحلام الوطنية، وهي قد اطاحت، فالاحتلال الامريكي للعراق اثر من اثارها المدمرة، وان لم تعالج هذه الازمة فستكون لها اثار اخرى لست اقل تدميرا من الاحتلال، اذ ليس مستبعدا ان تؤدي الى اندثار الدولة العراقية الحديثة، وان لهكذا حدث امتدادت على صعيد المنطقة كلها.


2 ـ على صعيد الذات التي انسحقت امام السطوة المبالغ فيها من قبل البعثيين، وقد راى العالم كله بعض فصول تلك السطوة من على شاشات التلفزيون، مقابر جماعية ملات ارض العراق، فاختصرت الحلم الشعبي العراقي باية حكومة بديلة عن حكومة صدام حسين الجائرة، دون اي سؤال عن هوية تلك الحكومة.


وما اقطع به هو ان ذلك المسلسل المفجع كان قد حدث بشكل منظم من اجل ايصال العراقيين الى تلك الحال التي تجعل من الامريكي البشع جميلا، فكأن الموت الذي اشاعة صدام قد اوصل العراقيين الى ان يرضوا بالحمى، وكما يقول المثل الشعبي ( الذي ياتيه الموت يقبل بالحمى ).


ولكن الامور لا يمكن ان تسير على هذا المنوال، بنسج امريكي خاصة مع العراقيين الذين عرفوا بكونهم ذوي متطلبات مرتفعة، لا يرضيهم الحاكم ما لم يتمتع بحزمة صفات، قد تكون سني الجدب التي عاشوها ابان حكم صدام كفيلة بان تعيق هذا التطلب، من خلال خفض سقف المتطلبات ولكنها، ومهما كان جدبها قاسيا لا يمكن ان تستاصله من الاعماق.


هنا نرى ان الحقيقة التي اريد لها ان تغيب وراء الغيوم، راحت تتبدى تدريجيا للمراقب الذي يشهد عن كثب حركة الواقع، من خلال قراءة الماضي بما يتضمنه من ذاكرة تعني الاحتفاظ بالآثار لفترة زمنية قصير او طويلة تجعل الانسان قادراً على ترميزها والاحتفاظ بها، واستخدامها في السلوك المقبل، بهدف تسديد الحركة في اتجاه هدف يتطلب تحقيقه الاحتفاظ بكل عناصره لربطها بما سبق وما سيأتي، وما يتضمنه ذلك الماضي من من تراث، يعبر عن المنجز التاريخي الاجتماع الإنساني في المعرفة والقيم والتنظيم والصنع الحاضر في وعينا، وما يتضمنه من وجدان ايضا يعبر عن ردة الفعل السريع المتشكلة من معطيات الذاكرة و التراث، كاستجابة اولى لاي تحد، وهذا الوجدان ما هو سوى توجيه يرتكز على متبنيات الذاكرة التي ترتكز هي الاخرى على الموروث.


والذي عليه الحال، هو ان الامريكان، وبعد نشوة التخلص من حكم صدام، التي عاشها العراقيون كانعتاق من كابوس مرعب، وعاشها الامريكيون كانتصار استراتيجي، انهم سيواجهون اسئلة بالغة الدقة تنهال عليهم من العراقيين، ومن الامريكيين في الوقت نفسه، وهي اسئلة محرجة تزداد شدة حرجها مع مرور الزمن، ليس للامريكيين وحدهم فحسب وانما للاحزاب السياسية العراقية الاصيلة، التي سجلت حضورا كبيرا على صعيد المعارضة العراقية لحكم صدام، والتي انخرطت، وبحكم الواجب الوطني والشرعي في العملية السياسية، بغية تحقيق مشاريعها التي ناضلت من اجلها طويلا، وبغية تحقق شروط السيادة وانسحاب المحتل، وهنا يلاحظ المتتبع للاحداث ان الامور ستاخذ منحيين خطيرين يترتب احدهما على الاخر، هما:
الاول هو وصول العلاقة بين المهادنين للوجود الامريكي الذين انخرطوا في العملية السياسية بغية تحقق شروط السيادة، وصولها الى القطيعة، وان هذه القطيعة امر متحقق حتما في المستقبل، عندما تفشل الادارة الامريكية في ايصال الامور الى بر يحقق لتلك القوى ما املت تحقيقه من مشاريع وطنية كانت الهدنة هي ثمنها.


الثاني وهو بدون شك منبني على الاول، وهو يعني ان ترك تلك الاحزاب الوطنية الاصيلة لخيار القطيعة مع المشروع الامريكي الذي لم يف بما بما املت تلك الاحزاب تحققه، سيؤدي الى قطيعة مع الشعب، عندما يترتب عليه فقدان تلك الاحزاب لمصداقيتها امام محازبيها الذين قبلوا الهدنة على مضض مع الامريكي قبولا اجماليا، متحاشين الدخول في تفصيلات تخدش حسهم الديني الوطني.


اعتقد ان تاريخ بعض الاحزاب النضالي والجهادي بات الان يقترب من موقع المحك، خاصة وان الامريكان الذين استغلوا حاجة العراقيين للانعتاق من اعتى دكتاتورية، راحوا يقتربون من اللحظة التي ستضعهم مع تلك الدكتاتورية في مستوى واحد، عند ذاك سيكون الامر اكثر تعقيدا خاصة بعد ما يخبو الصوت الذي غطى بنبرته على حركة الوجدان الانفعالية السريعة التي مثلت استجابة ضرورية لفعل كان قد هدف على ما يبدو الى تحيقي الطموح العراقي في الانعتاق من البطش.


قد يتوقع المراقب، بل لا بد من ان يجزم، بان الامريكان سيضعون البدائل التي يعالجون من خلالها الواقع المترتب على تغير المعادلة وهو تغير حتمي سوف ينطلق من داخل ذات الانسان العراقي الى الخارجه المتمثل بالواقع، واي من هذه البدائل لا يخرج عن دائرة الاستعمار، وبكلمة واحدة، ان كل البدائل المتوقعة لا تعني سوى حقيقة واحدة، هي ازاحة ما يكتنف الصورة من غموض، اوفوضى خلاقة والكشف عن الوجه الامريكي الحقيقي.

حسن العاشور
العراق