منذ سقوط صدام حسين وانكشاف ليس الوضع المجتمعي العراقي فقط، بل انكشاف مستوى الخراب الذي حل في المجتمعات العربية. فلم يكن ( احتلال / تحرير)العراق مجرد عملية احتلال عسكرية فقط بل هي نقلة نوعية في حياة المنطقة الشرق أوسطية ككل. وهذه النقلة في الحقيقة أصابت المجتمعات العربية بخضة لن نلمس نتائجها العميقة قبل فترة من الزمن! وإن كان ما يحدث الآن هو بداية لهذه النتائج التي بدت لبعضهم كارثية!
ولبعضهم الآخر: تحرير وإنقاذ من ربقة الاستبداد والقمع والفساد المزمن في هذه المجتمعات. وأول هذه النتائج هو ظهور ما بات يعرف في الإعلام العربي بخطر الفتنة المذهبية. حيث بلدان الشرق ألأوسط كلها قد اهتزت جراء هذه العملية وجراء انكشاف الخراب الثقافي والسياسي والقيمي والاقتصادي الذي كانت ولازالت السلطات الاستبدادية تشكل له غطاء وحاضن أمني من طراز خاص. حيث أصبحت كل هذه البلدان في دائرة التشظي المذهبي والطائفي والأثني! يهدد وجود البشر في هذه المنطقة التي تحولت دمائها إل سلعة رخيصة ونتيجة شبه حتمية من نتائج الاستبداد المزمن. حيث اتضح أن أهم ما يميز هذه ( الدول ) أنها بلامجتمعات وبلا حد أدنى من الهوية الوطنية. وتبين أن انهيار السلطة يؤدي مباشرة لانهيار الدولة! وهذا يعود سببه أيضا إلى أن السلطة القامعة وفسادها قد ألغت وجود الدولة بحد ذاته والتي لم تعد وظيفتها سوى ضامنا لاستمرار هذا النوع الهجين وربما اللقيط من السلطات. وبتنا من جديد أمام لحظة تأسيس كيانية بالمطلق وليس بالنسبي بالمعنى الموصوف للمفهوم. حيث الفرد نهب لطرائق تفكير ضيقة المعنى الإنساني وواسعة المعنى العدواني تجاه شريكه في الحياة! لأن الحياة حياة أي إنسان هي قيمة ثقافية بالدرجة الأولى. والفكر العربي والشرق أوسطي بشقيه بات أعجز من أن يلاحق حجم الكارثة، وبات شغله توصيفي ومحازب عموما للاستبداد بغطاءات شتى ليس آخرها هو وضع المسؤولية على ما يعرف بالعامل الخارجي وهنا ـ الاحتلال الأمريكي للعراق ـ ولنلاحظ أن من النتائج الخطرة: أن الأطياف التي كانت مظلومة في السابق سواء دينيا أو قوميا و طائفيا تعيد أنتاج نفس الأساليب الأقصائية لشركائها في مجتمعاتها. ودون أن يكون هنالك حصيلة معرفية وقيمية وسياسية وديمقراطية: لما جرى في العقود الخمسة الماضية وجاءت أمريكا لكي ترفع الغطاء عن كل هذا العفن. حيث قام بعضا من المفكرين بالدعوة من جديد لمشروع نهضة جديد كل منهم يلونه حسب معرفته وأيديولوجيته سواء كان إسلاميا أم قوميا أم ليبراليا. وكأننا دوما أمام حالة من التكرار الفكري لمحاولات تأسيس دائمة دون أن تتأسس. إن انهيار المجتمع الشرق أوسطي يعود بالأساس إلى جملة من العوامل ولكن الحاسم فيها هو العقد الاستبدادي الذي فرض على شعوب هذه المجتمعات على مدار خمسة عقود، وهو عقد فاسد من أساسه لأن قضيته ليست: اجتماعية بل عشائرية أو طائفية أو شخصانية أو قومجية في وقت انتهاء عصر القوميات! عقد فاسد لأنه جعل السلطة فوق الدولة! هذه الأنواع من السلطات التي هي لقيطة بين حداثوية الفترة الاستعمارية وبين شرط الواقع الداخلي الذي تسلمته القوى الاستعمارية التقليدية جثة هامدة من الرجل العثماني المريض! والمفارقة الأكثر مأساوية هي في تشكيل حالة صد وعطالة مزمنة للثقافة الاجتماعية التي تشكلت في ظل الفساد والاستبداد، والتي تحولت إلى عائق على كافة الصعد في وجه أية حداثة أو عصرنة.
المجتمع العراقي: تخلص من ولاية ديكتاتور فاسد وفاشي ليدخل في ولاية رجال دين: جعلوا من السياسية مشروعا دينيا ومن الدين مشروعا سياسيا مما جعل طرفي المشروع في أزمة عميقة من جديد نشهد نتائجها على الأرض العراقية. ببساطة كنتيجة أولى نسجلها: هو في أن الاستبداد وجد لكي يبقى قائما وحيدا في ظل عدم تشكل نسيج وطني دولتي معاصر. وإلا ما سبب هذا الانهيار في التعايش العراقي ؟ وهنا نتحدث عن عمق العلاقة المجتمعية وليس عن علاقة قوى سياسية! الاستبداد وصل إلى درجة أنه ليس فقط لم ينتج مجتمع ودولة بل حتى أنه خرب ما كان قائما من تعايش أهلي بين مكونات الحالة الاجتماعية القائمة منذ تسلمه السلطات في دول حديثة النشأة وهشة المؤسسات. في دمشق مثال:
كان التعايش الأهلي قائما بين كل الأديان والمذاهب: تذهب إلى باب توما تجد نفسك في حي مسيحي وتذهب إلى الشاغور تجد نفسك في حي إسلامي. صحيح أن التداخل والتفاعل كان ضعيفا لكنه تكرس أقله كحسن جوار. حتى حسن الجوار هذا قام الاستبداد بضربه بدلا من تطويره نحو عقد اجتماعي جديد. وقام بتخدير فاسد لكي ما من شأنه أن يتيح لكافة الصراعات أن تخرج إلى السطح سلميا: بحيث أنه جعل هذا التكوين الناشئ مجرد قطيع خلف راع، والقطيع لاتمايز بين أفراده إلا بمدى ولاءهم للسلطان. والقيام بإعدام أي تمايز آخر داخل مجتمعاتنا من أي نوع كان سياسي أو خلافه. حيث أنه هنالك عملية ترصيص وتنضيد من نوع خاص تخص جوهر آليات الاستبداد في جوانيته ـ رص الصفوف ـ خلف قائد ملهم. وهذه في الواقع ظاهرة محايثة لإعادة إنتاج الاستبداد نفسه.
فنحن لسنا آراءا ولا أحزابا ولا أثنيات أو أديان أو طوائف أو مصالح اقتصادية متباينة! بل نحن ( تبع ) الاستبداد وهو صاحبنا وسيدنا. هذا المحو لتناقضات المجتمع وتكويناته وطمس لمعالم الهويات الجزئية من جهة والاعتماد عليها من جهة أخرى / كتناقض من تناقضات الاستبداد / تحت غطاء من الشعارات العامة والمضللة في بثها الرسالي / أمة عربية واحدة.. أمة إسلامية واحدة.. وحدة وطنية..الخ لهذا نجد أنفسنا نحن العوام بلا هوية خارج ولاءنا للقائد! والشعارات التي تشكل العصب التسويقي للظاهرة الشمولية لا يقدر لها الاستمرار لأنها في حالة تفارق كاذب أو صادق مع الواقع في الحالتين الشعارات لا تدخل ضمن تفاصيل اليومي وحركيته الاجتماعية والاقتصادية للفرد ضمن هذه الجموع.
والجموع هذه تبحث عن شكل فردي لعلاقة ما بالسلطة: مصدر الرزق والجاه والتراتب الاجتماعي، السلطة هنا كلية في حضورها لذا العلاقة مع الدولة تتشخصن لدى الفرد! وتأخذ طابعها الشخصي من علاقة هذا الفرد بأحد رجالات السلطة ـ حيث تصبح مؤسسة الدولة بلا قيمة خارج تنميطها في أيد محسوسة سلطوية للتقبيل أو للدعوة عليها بالكسر! منحيا بذلك كل ما يميزه ككائن يفكر وله مصالحه التي يمكن لها أن تتعارض مع مصالح رجل السلطة هذا. فهو مضطر للتخلي عن هذا التمايز إلى حين! ليس نهائيا بالطبع. والملاحظ لهذا التحليل أن الاستبداد العربي اعتمد على الفكر الرسالي ( الوعد بالقادم وكأننا دوما أمام مشاريع مهدي منتظر أو خلافة عادلة قادمة أو جنة إشتراكية واعدة ) الذي يمحو حضور الدولة بكل ما تحمله من معاني / حتى جهاز القوة والقمع هو يخص الأشخاص في السلطة وليس الدولة. مع ذلك لو كانت هذه الشعارات والوعود الرسالية ذات منحى تفاعلي في الواقع العربي في تفاصيله المعاشة للمواطن لما يضطر الاستبداد لاستخدام القمع يوميا بحق المواطن. فهذه الوعود سرعان ما تصطدم بالسلطة المطلقة كمفسدة مطلقة على حد تعبير الباحث محمد عمارة. وقد مرت هذه المفسدة المطلقة بمرحلتين:
الأولى: مرحلة السلطة الانتقالية من القطري إلى القومي بمفهومه الرسالي كي تتمكن من تسويق نفسها أيديولوجيا.
والثانية: مرحلة السلطة القطرية مع ازدياد حدة الهوة بين الواقع والوعود، وتغطية هذه الهوة باستمرار القمع والفساد جعلت المواطن يرتد إلى ما هو أدني من الانتماء للدولة القطرية لأنها لم تعد محسوسة أمامه، فقد ابتلعتها هذه السلطة! ولم تعد أمامه حتى مجردة كمعنى مجازي يتعاطى معه كما يتعاطى مع سلطة الدين أو غيرها من السلطات الرمزية! أمامه فقط حالة من السلطة الفاسدة، يرتد نحو ضامن غريزي: ديني أو طائفي أو عشائري.
الفتنة الأساس أن الاستبداد أوصل حالتنا إلى معادلة خطيرة جدا:
إن التركز الشديد والمزمن للسلطة التي تغولت بفعل الزمن وابتلعت الدولة القطرية الهشة أصلا وابتلعت المجتمع وثروته معا، هذا التركز يجعل انهيار السلطة في غفلة ما: هو انهيار للمجتمع والدولة معا! حيث أننا كما قلنا التضامنات الأهلية قد أنهتها السلطة من قبل! لايبقى سوى التضامنات الماقبل مدنية عبر قنوات السلطة التي تعيد صياغة هذه التضمانات الماقبل مدنية بناء على وجود السلطة في مركزها وهي المولدة للسلوكيات العصابية والتعصبية. وهي التي تشكل الأرض الخصبة للفتنة ما لم تقوم دولة القانون والمؤسسات والعلمانية.
غسان المفلح
كاتب سوري
التعليقات