يحتفل المسيحيون حول العالم اليوم بعيد القيامة المجيد، ذلك العيد الذي يحمل العديد من المعاني والرموز الروحية السامية التي تقدم رجاءً في الحياة الآخرة التي تقوم عليها معظم الأديان والرسالات. يؤمن المسيحيون بأن قيامة السيد المسيح بعد صلبه تعد نقطة تحول في علاقة الإنسان بالموت، إذ منحت هذه القيامة الإنسان الفرصة للانتصار على الموت الذي كان عرف طريقه إلى البشرية بسبب الخطيئة. ولكن قيامة السيد المسيح لم تحمل معاني روحية فقط وإنما حملت، برأيي، معاني ودروساً أخرى نبعت من الأوضاع والظروف التي كانت تسود المجتمع الذي عاش به السيد المسيح، وعلى رأسها النفوذ الكبير الذي كان رجال الدين يحظون به، وهو النفوذ الذي دفعهم، رجال الدين، للتآمر للتخلص من السيد المسيح.
لقد جاءت القيامة لتشكل انتصاراً رائعاً لرسالة التجديد الذي حملها السيد المسيح على الأمور العتيقة البالية التي تبناها رجال الدين عندئ حماية لمصالحهم الشخصيةذ. كانت مطالب قادة رجال الدين بصلب السيد المسيح بهدف التخلص من التحدي الذي كانت تشكله تعاليمه لهم. على الرغم من أن السيد المسيح أعلن أنه ما جاء لينقض التعاليم الدينية السليمة التي حملها من قبله العشرات من الانبياء، وإنما جاء ليكمل الرسالة، إلا ان رجال الدين رفضوا السيد المسيح لأن تعاليمه التجديدة كانت تعني انتهاء نفوذهم وتواري دورهم التسلطي على الشعب اليهودي. لقد رفض السيد المسيح متاجرة رجال الدين بالرسالات والعقائد، فكانت تعاليمه المبشرة بعهد جديد من العلاقة المباشرة بين الله والإنسان تنحي جانباً أي دور للكهنة ورجال الدين.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فالعالم لا يزال يشهد متاجرة رجال الدين، أو قل خلفاء قتلة السيد المسيح، بالعقائد والمقدسات لتحقيق أهداف شخصية ومكاسب مادية. فعلى جانب لقد تحولت الرسالة الدينية لدى البعض إلى ما يشبه العمل الاحترافي الذي يجلب الجاه والمال والمناصب والأضواء. وعلى جانب أخر لقد استثمر بعض رجال الدين النفوذ الروحي الذي استجلبوه لأنفسهم في فرض رؤاهم الشخصية في أمور الساسية والاقتصاد والاجتماع على الأفراد والمجتمعات دون وجه حق. وإذا كانت النظم السياسية العلمانية قد نجحت إلى حد بعيد في تحييد رجال الدين وإبعادهم بدرجة كبيرة عن لعبة السياسة، فإن العالم العربي يبقى هنا متفرداً في الساحة تاركاً الحرية لرجال الدين والمتمسحين بالدين للعبث بالعقول البسيطة عبر الفتاوى والأحكام الدينية التي تتراوح ما بين الترغيب والترهيب من خلال التحريم والمنع أو العقوبات والقتل.
ومن ناحية ثانية، فقد جاءت القيامة لتشكل انتصارأ أخراً للحق على مؤامرات رجال الدين ضد السيد المسيحز حطوال حياته ركز السيد المسيح على أن هدف رسالته الأسمى هو تحرير الروح من عبودية الخطيئة، لذا لم يدخل السيد المسيح في مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال الروماني. ولكن رجال الدين سعوا، في محاولاتهم التخلص من السيد المسيح، للإيقاع بينه وبين رجال الاحتلال الروماني، فحاولوا مراراً وتكراراً توجيه الأسئلة المحرجة المتعلقة بقيصر روما، ولكن السيد المسيح فطن دائماً لمساعي رجال الدين، وأجابهم بأن رسالته روحية خلاصية سماوية ولا شأن لها بالحياة المادية ومتاعب الجسد. فما كان من رجال الدين إلا التحالف مع قوات الاحتلال للتخلص من السيد المسيح، فقاموا بتسليمه للقوات الرومانية لقتله عبر الصليب. لقد اختار رجال الدين التعاون مع سلطات الاحتلال الروماني لقتل السيد المسيح ضماناً لاستمرار نفوذهم وتسلطهم على الشعب اليهودي.
مرة ثانية ما أشبه الليلة بالبارحة فاليوم لا يزال يشهد بيع رجال الدين، خلفاء قتلة السيد المسيح، لضمائرهم الوطنية طمعاً في المناصب والأموال. بعدما زال الاحتلال من معظم بلدان العالم، باستثناء عدد قليل، تحول الأمر إلى تحالف بين رجال الدين والنظم الدكتاتورية تكريساً لأوضاع تنال من حقوق الإنسان وتنتهك الحريات وتغتال الآمال في مجتمعات ديمقراطية منفتحة. لعل عالمنا العربي يحفل بالعديد من الامثلة على هذا التحالف الذي يبغى مصالح الطبقتين الحاكمة والدينية دون الشعوب. ما اكثر الفتاوى والأحكام التي تصدر عن رجال دين في البلدان العربية بغرض حماية الحكام الطغاة ونظمهم الدكتاتورية، وما اكثر الكوارث والمصائب التي تنتج عن تحالف رجال الدين مع الطغاة في العالم العربي.
على جانب ثالث، كانت قيامة السيد المسيح انتصاراً للعدالة على ظلم رجال الدين وتعسفهم وزيف ادعاءاتهم. لم يجد زعماء رجال الدين علة واحدةً في شخص السيد المسيح أو خطأً واحداً في تعاليمه. كانت حيرتهم كبيرة بشأن كيفية التخلص منه خاصة في ضوء شعبيته الكبيرة التي كان اكتسبها بين أبناء بعد الأعمال المعجزية التي قام بها بينهم، فما كان من حل أمام رجال الدين إلا عبر اتهام السيد المسيح بتهمة جزافية فضفاضة وهي التجديف. ولأنه لم يكن من حق الشعب اليهودي تنفيذ أحكام الإعدام، فقد كان على سلطات الاحتلال الروماني تنفيذ الحكم الذي أصدره رجال الدين. ومن ثم فقد كان قتل السيد المسيح عبر صلبه ثمرة للتحالف المشبوه بين رجال الدين والساسة الرومان. كان قرار صلب السيج المسيح جائراً بكل ما تحمل الكلمة من معان. لم يرتكب السيد المسيح خطيئة واحدة، فقد حثت تعاليمه على الخير والمحبة للعدو وللصديق كما لم يفعل أحد من قبله أو من بعده. كما كانت معجزات السيد المسيح العجيبة دليلاً على الخير الذي قدمه لشعبه دون تفرقة أو تمييز. ولكن مشاعر الحقد والكراهية والغيرة التي كنها قادة رجال الدين له حملتهم على إصدار حكم بصلبه.
مرة ثالثة، ما اشبه الليلة بالبارحة، فما حدث مع السيد المسيح قبل نحو ألفي سنة لا يزال يحدث في يومنا هذا في عالمنا العربي. مئات بل الاف الأحكام بالإعدام صدرت ولا تزال تصدر عن جهات رسمية أو دينية أو متطرفة إرهابية بحق مفكرين وكتاب لا لشيء إلا للتخلص من أفكارهم التجديدية والتصحيحية. لقد خسر ويخسر العديد من الأبرياء حياتهم بسبب الأحكام التعسفية التي صدرت وتصدر عن رجال دين يريدون حماية مواقعهم وأرزاقهم.
يخطيء من يظن بان اليهود هم من قتلوا السيد المسيح، ولكن من قتل السيد المسيح هم أصحاب الجاه والسلطان من قادة رجال الدين المحافظين ممن خشوا على نفوذهم ومناصبهم من التجديد الذي حملته رسالة السيد المسيح. بالطبع لم ينحصر رجال الدين المحافظين في عهد السيد المسيح فقط، إنما امتد ليشمل العصور التي سبقته والتي تلته أيضاً. فبعد قرون من انتشار المسيحية ظهر خلفاء قتلة السيد المسيح ممن خشوا تحديث الفكر الديني في أوروبا في الحقبات المظلمة التي سبقت عصر النهضة، حيث تمت محاربة كل فكر حديث أو معارض.ولكن أوروبا سرعان ما تغيرت بعد عصر النهضة وأصبحت تحتوي الفكر والفكر الأخر. وإذا كانت أوروبا قد تطورت قبل نحو خمسةة قرون من الزمان، إلا أن العالم العربي لم يتطور، فبقي يمثل المنطقة الوحيدة في عالمنا المعاصر التي تفرخ المئات والألاف من رجال الدين، أو خلفاء قتلة السيد المسيح، الذين يعززون أدوارهم ونفوذهم في كافة مجالات الحياة يوماً بعد يوم.
لا شك في أن قيامة السيد المسيح لا تعد انتصاراً على الموت الذي دبره له رجال الدين عندئذ فحسب، وإنما تعد انتصاراً إرادة رجال الدين الخاطئة. وإذا كانت قيامة السيد المسيح انتصاراً على مخططات رجال الدين المشبوهة قبل إلفي عام، فإن أوطاننا تعد في أمس الحاجة إلى انتصار العلمانية على النظم التي تخلط بين الدين والسياسة بغرض السيطرة على العقول والإرادات والمقدرات. لا يغفل على أحد أن الواقع المتردي في الكثير من بلدان العالم العربي يكشف مدى عمق الحاجة لنظم سياسية متحضرة تطبق بصرامة مبدأي فصل الدين عن الدولة، والوقف الكامل لتدخل رجال الدين في الأومر السياسية.
من المؤكد أن العلمانية لن تتحقق في بلداننا إلا بعد ان يتم تقليم أظافر رجال الدين، خلفاء قتلة السيد المسيح، الرسميين منهم وغير الرسميين. عملية تقليم الأظافر هذه تتطلب أن يقتصر دور رجال الدين على قيادة الصلوات في دور العبادة، دون لعب أدوار البطولة المطلقة في كافة المجالات. ولا شك في أن عملية تقليم الأظافر هذه تتطلب التوقف عن تكفير المحدثين والمعارضين التي تقود في كثير من الأحيان إلى صدور أحكام تعسفية بإزهاق دم أصحاب الرأي الحر ممن يختلفون في الرأي مع رجال الدين.
لقد تم المزج بين الدين والسياسة في بلداننا فتحولت السياسية إلى محرمات يستحيل الاقتراب منها ومعها تحول الساسة إلى قديسين يتعين عدم المساس بهم. واليوم أصبح رحيل الطغاة وتواري رجال الدين مطلبين أساسيين لقيامة شعوبنا من مستنقع التخلف التي تقبع به.
دعونا في عيد قيامة السيد المسيح نستلهم روح الانتصار على الموت والانتصار على تسلط رجال الدين حتى ننهض بشعوبنا وأوطاننا.
وكل عام وأنت بخير...
جوزيف بشارة
التعليقات