أثارت إحدى المقالات التي كتبتها مؤخراً، رد فعل غاضب وعنيف اتسم بشيء من البذاءة والتهكم، من أحد القراء الذي كنى نفسه باسم عمر، ويحمل، على ما يبدو، خلفية سلفية أصولية، نربأ بأنفسنا وبهذا المقام الرفيع عن نشر ما أتى به، فكان هذا الرد، الذي كان خاصاً، إلا أن فيه الكثير من العموميات التي ارتأينا نشرها للعلم والفائدة.
عزيزي الأستاذ الفاضل عمر: أولا تحية لك رغم أنك لم تحييني، وذلك لاعتقاد راسخ لديك بأنه لا يجب أن تحيي أمثالي من المختلفين معك في الرأي، وأنا لا ألومك في هذا، بل ألوم تلك الثقافة التي جعلتك تتصرف على هذه الشاكلة وعلى هذا النحو، ونحن على أية حال قد ألفنا هذا وتعودناه. وهذا على العموم، مظهر حسي آخر وملموس من مظاهر حضارتك الإنسانية التي تتباكى عليها.
ثانيا أعتقد أن لغة الحوار يجب أن تسمو عن الكلام البذيء الذي لا علاقة له لا بالحضارة ولا بالتحضر الذي لا أدري من أين نبشته وتلبسته لنا في غفلة، وفي آخر الزمان. ثم أعطني يا أخي الكريم مظاهر وأمثلة بيضاء على حضارتكم التي تتغنى بها، والتي انتشرت بالسيف وقطع الرقاب وسبي النساء واغتصابهن وغزو البلدان والأمصار، ولم تنتشر كالحضارة الغربية الحالية بالعلم والمخترعات والأفكار العظيمة، وتتغلغل بسهولة وتلقائية وانسياب في أقصى مسامات قرى استراليا وأدغال أفريقيا وحملت الخير والرفاهية والازدهار والصحة لمليارات البشر ويحاول جميع الناس تقليدها طواعية ودونما إكراه أو حروب ردة أو إدخالهم فيها أفواجاً وأفواج كالقطيع والأنعام. هذه الحضارة التي نتغنى نحن بها لا علاقة لها أبداً ببوش وبلير اللذان يعتبران النسخة البروتستانتية الأكثر تنقيحاً، وتصحيحاً لفكر بن لادن والظواهري والزرقاوي والسلفية الجهادية، ولكن تلك الحضارة العظيمة التي أنجبت أفذاذا، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، من مثل روسو وفولتير وكانط وهيغل وماركس وغاليلو واينشتاين...إلخ، والتي تتنعم بها وتعيشها يومياً وتتنكر لها، في نفس الوقت، وتدعو لاحتقارها ولإبادتها عن بكرة أبيها والعودة للصحراء والجمال. ثم القضية المحيرة، والأهم، أخي الكريم، وأنت تعلم أن الحضارات لم تكن تنقطع عن بلاد مثل العراق، والشام، ومصر ومنذ فجر التاريخ، فلِم ماتت هذه الحضارة، وانقطعت، واختفت، ولم تقم قائمة لهذه الشعوب منذ أن وطأها الغزاة الأعراب وأصبحت دولاً في الحضيض والقاع تعيش أسوأ الأحوال. وكلامك البذيء لا أعتقد أنه يعكس أية حالة من التحضر بل البداوة والتخلف السلوكي والهمجي بعينه الذي جلبه لنا الغزاة حين احتلوا بلداننا وأخضعوها لمنطقهم المتخلف، وأنت، هنا، تتقمص سلوكهم بكل أمانة وحرفية أحييك عليها.
ثم ما هي هذه الحضارة التي خلفت أمماً وشعوباً فقيرة متخلفة يعشش فيها الفقر والمرض والدجل والكذب والشعوذة والاستبداد والظلم والديكتاتورية والبلاء، ويسوسها القتلة واللصوص وقطاع الطرق والجباة وأبناء الذوات الذين يعتبرونها مزارع لا أوطان وسكانها رعية لا مواطنين ولا يملكون أي حق من حقوق الإنسان؟ ككاتب، عزيزي، مهمتي التوعية، وإيقاظ الناس من سباتهم، ولست قائداً سياسياً، أو زعيم حزب لديه برنامج سياسي، ولا أملك من مقتنيات في هذه الحياة سوى الكتب والدفاتر والأقلام وعصاب مزمن مما أراه من بلاوي وquot;شوفاتquot; يشيب لها الولدان. وحين تستيقظ أحياناً من غفوتك أنت وغيرك، حيت تقرأ، وتكتشف الهوة بين الواقع والخطاب الكاذب الذي تتجرعه كل يوم أعتقد، حينها، بأن الرسالة تكون قد وصلت يا أخي عمر.
أنت تتفق معي في كثير من الأشياء لكن عدم قدرتك على التحرر من أوهامك، والتنصل من أفكارك يشدك نحو الخلف، ويسحبك نحو الوراء، حيث انعدمت حبال الوصل مع الراهن والواقع، وترتد تلقائيا وعفوياً، نحو خنادقك وحصونك الفكرية التي تجد فيها الطمأنينة والأمان، وحيث وجدت نفسك فيها من غير إرادتك، ولا تدعك رزمة النواهي والزواجر والروادع الصارمة من أن تناقشها بل تفرض حولها طوقا من القدسية وهالة من العظمة والأبهات، وأن مجرد الاقتراب منها كفر وزندقة. اعترف يا أخي عمر بأننا أصبحنا أعداء، لأن هذه الثقافة التي جلبها لنا الغزاة لا تؤمن بالرأي الآخر ولا بالأخوة الإنسانية وتضع حكم السيف، الذي لا يقبل النقض والتمييز أوالاستئناف، فوق أي اعتبار. وتتلخص جوهر رسالتها العامة في وأد البنات وفرض الحجاب وأدلجة الجنس والحيض والنفاس..........إلخ.
هل تعلم أنه كان في قصر هارون الرشيد أكثر من ثلاثة آلاف جارية وغانية وغلام وسبية، وهؤلاء لم تكن مهمتهم طبعا عقد الندوات الفكرية والأمسيات الشعرية والمناظرات السياسية ووضع الخطط الاستراتيجية لمجتمعات عصرية تسودها قيم المواطنة والحرية، بل لإنتاج سلوك الحضارة العريقة التي تحن للعودة إليها والعيش فيها، والانطواء على الذات بعيداً عن التيارات العولمية والحضارية الكبرى التي تجتاح العالم من أقصاه لأقصاه، والتي تكشف فقرك الفكري المدقع، وتواضعك السلوكي المخجل، وتفضح عوزك الحضاري المزمن، وتظهر وضعك وبؤسك الإنساني المفلس؟ هل لديك هذه المعلومات؟ هل أزيدك من مظاهر حضارتك التي قطعت رؤوس المفكرين وكفرتهم وحرمت حتى اليوم الفلسفة وتركت لنا عقولاً ممسوخة ممسوحة شوهاء مغسولة الدماغ عصية على التكيف مع المستجدات ومسؤولة عما نعيشه من ترد وانحطاط قيمي ومعرفي وسلوكي عام أصبح السمة المميزة لهذه المجتمعات.
أنتم لا تريدون للأسف الاعتراف بهذا الواقع لأنه ينسف جوهر أيديولوجيتكم القائمة على خطاب دعوي رومانسي فضفاض وردي كاذب وزائف لا علاقة له بالواقع على الإطلاق. وهذا لعلمك لا علاقة له بصلب العقيدة والرسالة التي نحترمها ونجلها كعقيدة مجردة، ونحترم من يؤمن بها بعيداً عن تسييسها وتجييرها لأهداف سلطوية بحتة بعد أن فشلت في بناء دولة العدالة والمواطنة، ونعتبر التعرض لها نسفاً لأسس التعايش المجتمعي السلمي الذي ندعو إليه. وللعلم لم يكن للعرب يوماً كيان سياسي متكامل مركزي مؤسسي ومنظم وموحد وبالمفهوم الحديث للدولة المدنية، بل دولة دينية وتوتاليتارية شمولية وفردية تقوم على قدسية وعصمة الوالي والخليفة الأوحد المعصوم والمنزل من السماء وحواليه البطانة والأتباع والمحظيين والمحظيات، تجمع الخراج، وتجبي الأتاوات وتفرض الجزيات، وتضطهد وتحارب غيرها من الأديان والأقليات، وترغمهم على الدخول قسراً في الدين.
وإلى اليوم هناك دعوات في الإعلام الرسمي العربي عن عدم جواز السلام على من لا يشاركك نفس العقيدة والإيمان. ناهيك عن الدعوة علناً، وعلى رؤوس الأشهاد، لقتل الكفار والناس المختلفين بالرأي. هل هذه هي الحضارة التي تبكي عليها وتدعونا لتقمصها والسير على هديها ونصبح مثلك نمجدها ونهلل لها؟ لا أعتقد أنك وبعقلك الراجح وفكرك الواسع الصائب ورأيك الحصيف السديد تقصد هذا يا أخي العزيز عمر. فعن أية حضارة وتسامح تتحدث يا سيد عمر؟
يا صديقي العزيز، أنتم تعيشون عقدة نقص حضاري خطيرة، حين تقارنون أنفسكم مع الحضارات والشعوب الحالية وتكتشفون مدى الهوة العميقة التي تفصلكم عن أكثر شعوب الأرض تخلفاً. وهناك إشكالية كبرى وواضحة في علاقتكم وتعاملكم مع المحيط الخارجي، تتجلى، وبشكل رئيس، بعدم القدرة والعجز على التكيف معه، وهنا يكمن سر ردود الفعل العنيفة في سلوككم تجاه ما يعتريكم من خطوب. إن الافتقار لآليات التعامل العقلانية مع الأحداث والتناقضات والاختلافات هي أهم ما يميز تعاطيكم معها، إضافة إلى انعدام القياسات والنماذج المثالية في التاريخ التي يمكن الاحتكام إليها لمواجهة كثير من معضلات الواقع والتي يمكن أن تفضي إلى حلول واقعية وعملية وتوافقات غير عنفية. ولا أعتقد أن الحلول السحرية الجاهزة التي تمتلكونها وتمارسونها وهي فتاوى القتل والجز وقطع الرأس ولبس الدشداشة وترك اللحى وفرض الحجاب وتفجير الأطفال والأبرياء، كفيلة بأن تحقق لكم مبتغاكم للتأقلم والتكيف، ولردم الهوات الحضارية الهائلة والسحيقة مع بقية الشعوب والحضارات واللحاق بقطار التاريخ والعولمة السريع. ولأنكم لا تملكون الأدوات الفعالة والمناسبة التي تمكنكم من منافسة الآخرين ومغالبتهم حضارياً فتلجؤون بكل أسف لهذه الأساليب الإقصائية في التعامل مع الآخرين وهي مظهر من مظاهر العجز المزمن والشلل المستفحل الذي لا براء منه طالما أن تلك الأفكار السلفية مسبقة الصنع تتقمصكم وتتحكم بمجمل سلوككم العام.
أرجوك، أخي عمر، أن تأخذ الأمور بانشراح وروية، فبالله وتالله لا نتحدث عن الواقع إلا بصدق وكما هو، ولو كان على عكس هذه الصورة والشاكلة، لنقلناها بكل صدق وأمانة. ولا ضغينة ولا غاية لنا سوى استنهاض هذه المجتمعات وإفاقتها من كبوتها وغيبوبتها الكبرى مذ غزاها البدو الأجلاف قبل ألف وأربعمئة عام. ولكن إن أردتنا، كليبراليين وعلمانيين وحملة مشاعل وأقلام، أن نقول غير ذلك، ونقوم بالتلفيق والكذب والمداراة والمراءاة، فهذا، صدقاً، ما نعجز عنه، ولا طاقة لنا به على الإطلاق.
تحية، لك، مرة أخرى، أخي عمر، وإلى لقاء.
نضال نعيسة
[email protected]
Nedal Naisseh
[email protected]
التعليقات