(العقل وكيل الله عند الإنسان) الجاحظ

قيل عن ابي عثمان عمر بن بحر الجاحظ (ت 255 ) بأنه موسوعة تمشي على قدمين. هذا القول اجحاف بحق الجاحظ، فالجاحظ لم يكن مخزنا للمعارف، فاليوم بأستطاعة قرص مدج (C. D ) ان يضم معظم ما كُتب في عصر الجاحظ. الجاحظ كان عقلاً يقارع عقولاً، فهو الذي وقف أمام (ارسطو) عقلاً لعقل، يقبل منه ما يقبله عقله، ويرفض منه ما يرفضه عقله، حتى انه كان احياناً يسخر منه، فهو لم يقف منه موقف التلميذ الخاضع لأستاذه المعجب بكل مقولاته، في الوقت الذي وقف الكثير من الفلاسفة والمفكرين مصدقين ومبهورين بالفيلسوف الفذ (ارسطو). لقد رفع الجاحظ راية العقل وجعله المرجع في كل شئ وجعل العقل قائما على النقل، بل كان يستخف بالنقليين الذين اهتموا بالنقل على حساب العقل ولم يسلم منه حتى بعض من تأثر بهم وأخذ عنهم، فهو الذي يقول في أبي زيد الأنصاري :( إن أبا زيد أمين ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الاخبار التي يرويها....) كان الجاحظ يعتمد الملاحظة الدقيقة في عصر لم تتوفر فيه الأدوات المتطورة للملاحظة ولكنه كتب وبدقة أروع الكتب في علم الكلام والأدب والسياسة والتأريخ والأخلاق، وكتب في عالم الحيوان والنبات واحوال الناس من نساء ورجال من حيث الأجساد والاشكال والمواقع والأحوال، فكتب عن السلطان والجند والولاة والقضاة واصحاب الحرف والمهن حتى اللصوص لم يفته ان يذكر احوالهم ونوادرهم، ولم ينس الجواري والقيان، حرر اللغة من قيود الصنعة وسعى لتحرير العقل من الخرافة والتقليد.


لم يبلغ الجاحظ تلك المنزلة العلمية بالتمني، بل كان شديد الحرص على طلب العلم، فكان يبيع الخبز والسمك على نهر البصرة وفي الليل يستأجر دكاكين الورّاقين يبيت فيها ليقرأ ما تحويه من كتب مؤلفة ومترجمة، حيث اطلع على الثقافة الفارسية واليونانية والهندية وغيرها اضافة لثقافتة العربية، فكان على اتصال بثقافات عصره.


ان الحديث عن الجاحظ، هذه الشخصية العملاقة وبمقال محدود كهذا لا يأتي بجديد، ولكن الذي يسترعي الوقوف على اعتاب هذه الشخصية هو ان المسافة الزمنية التي تفصلنا عنها ليست بالقصيرة، فهو عاش النصف الثاني من القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث الهجريين تقريباً، ونحن الآن نعيش في القرن الخامس عشر الهجري، فالذي بيننا وبينه ما يقرب من 1200 عام، وكأننا نعيش قبله بـ 1200 عام او اكثر. ماذا يقول الجاحظ لو حل اليوم ضيفاً على مدينته البصرة التي من على ارضها انطلقت افكاره العظيمة، سيجد نفسه غريباً حيث لا صلة بينه وبين القوم، سيرى العقل الذي رفعه وناضل من اجل ان يسود ويكون المرجع والملاذ، سيراه ممرغاً بوحل الخرافة وممزقاً بأنياب الحقد والطائفية والتعصب، وربما سيجد من لا يتعرفون عليه هم الأكثر، واذا ما وجد من يعرفه، فسيعرفه اسماً وليس له من علمه ومنهجه نصيب، سيجدهم مشغولين عنه بفتاوى القتل والتكفير ونهب البلد. هذا اذا ما افترضنا انه سينجو من القتل الرخيص بل المجاني. ولنا ان نتصور ماذا سيقول له الجهلة والمتعصبون اليوم على آرائه الجريئه والتي لم يبتزها الشائع من الآراء، كرأيه في صحابة رسول الله (ص) مثلاً، حيث رفض وضعهم في مكانة اعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد ان يتعرض لاعمالهم ويقيمها وينقدها، فهو يرى ان من حق الباحث والمؤرخ والمحقق ان يتناول اعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة او معصومين، فإن اعطتهم صحبتهم للرسول (ص) التوقير فهي لم تمنحهم الحصانة الدائمة ضد النقد والتقويم، إنه من كان يؤمن بالشك الذي يؤدي الى اليقين، فهو لا يؤمن بشئ من دون دليل او برهان، كما هاجم رجال الحديث الذين لا يحكمون عقولهم فيما يجمعون ويروون، وكما هو معروف ان الحديث الذي يروى عن الرسول (ص) يدخل ضمن ( فضاء المقدس ) سواء صح هذا الحديث أم لم يصح لأن اغلب الناس تتعبد بما يُروى ولا تبحث عن صحة المروي، وهذه التفاتة واعية من الجاحظ وادراكاً منه لخطورة هذه الظاهرة، ظاهرة (عدم تحكيم العقل عند النقل)، ولم يصدر الجاحظ في ملاحظاته الدقيقة من ثقافة نظرية بقدر ما هي ثقافة استقاها من قربه من الناس وملاحظة احوالهم بالمعايشة، فهو العالم الميداني. ( أول أديب عربي نزل الى السوق فصور لنا احوال الشعب، يمكن مقارنته معlt; فولتيرgt; ) هذا ما شخصه الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في الجاحظ ومنهجه الذي اعتمد الملاحظة الدقيقة، فهو لا يقبل المسموع من تجارب الآخرين، فكر بعقله لا بعقول سابقيه، كان يقول أنا ابو عثمان الجاحظ ولست قساً بن ساعدة ولا سحبان وائل ولا اكثم بن صيفي. ما احوجنا اليوم الى هذه الثقة بالعقل والنفس حتى لا نختبئ وراء غيرنا او نجعل غيرنا يفكر بالنيابة عنا، او نقف خانعين امام مقولة يرفضها وكيل الله عندنا (العقل) على حد تعبير الجاحظ، وننسى علاقة العقل بالشرع، حيث ورد في الأثر، ( الشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل )، انها جدلية عظيمة تؤسس لعلائقية وظيفية تتجاوز الشكلية الى التماهي و التفاعل الخلاق.

حسين السكافي