من المثير للريبة الفكرية في المعارضة السورية أننا نجد وبخلاف غالبية معارضات العالم الديمقراطية ـ وكم بقي منهم في العالم ـ نسخة خاصة من الديمقراطية! مفهوما منزاحا أيديولوجيا دوما، في زحزحات سياسية ليست مبتكرة على صعيد الفكر الديمقراطي وتنمياته المختلفة. بل هي زحزحات ناتجة عن موقف سياسي محدد وآني أكثر منه موقفا أيديولوجيا في الحقيقة! وللتدليل مباشرة على هذا الأمر هو طغيان المقالات التي تربط بين الديمقراطية والليبرالية بشكل سلبي وتربط بين اقتصاد الحماية ( لقطاع الدولة والذي هو بالمؤدى الأخير سوريا هو قطاع سلطة وليس قطاع دولة ) بشكل إيجابي.

وهذه التوليفة يستطع المرء مشاهدتها عند الكثيرين ولكن الأكثر وضوحا هو ما نجده عند مفكرنا الدكتوربرهان غليون، وكلنا يذكر حواره المكتوب مع الصديق المعتقل الدكتور كمال اللبواني ـ والذي صدر بحقه حكما بالإعدام وخفف إلى 12 عاما ـ حول الليبرالية والديمقراطية. ومن جهة أخرى هذا ما نجده عند الباحث سلامة كيلة، والواضح جيدا في وثيقة التجمع الماركسي الجديد في سورية ( تيم ) ومن ثم جاءني ردا على ملاحظاتي النقدية بخصوص وثيقة تيم من الباحث الدكتور نايف سلوم، يعتبرني فيها عراب الشر الأمريكي. ومحدث نعمة! المهم بعيدا عن تلك التوصيفات وجدت من المناسب العودة لإطلالة نقدية بسيطة على هذا الزيف الأيديولوجي المطروح سوريا في جعل الديمقراطية نسخة سياسية مباشرة ناتجة عن الهم السياسي في توصيفاته الآنية. ولكن يحدوني سؤالا مهما ودوما علينا طرحه على أنفسنا والذي مفاده:
قبل عام 2004 والتمديد للرئيس اللبناني إيميل لحود أين هو الشر الأمريكي في سورية؟ نريد لأحد ما أن يجعلنا نلمسه أين كان يتموقع هذا الشر الأمريكي سواء على صعيد المجتمع السياسي السوري أو على صعيد الاقتصاد السوري وناهبيه؟ لكي نتخلص من عواقب الفهم الذي يحيل الفكر إلى سلطته بشكل مباشر حتى يتم دوما إحالة المطلب الديمقراطي على الأجندة الأمريكية بدلالاتها السلبية؟! نجد أننا نطرح على هذا الفكر سؤال نفي الديمقراطية بطريقة أكثر عمقا أيضا وتحديد المطلوب:
إما نفي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أو مواجهة المخطط الأمريكي الشرير، هذا الأمر ببساطة يحيل المرء إلى فهما مسطحا لقيام هذا الربط بين الديمقراطية ونسخها الجافة والضيقة أيديولوجيا. في الديمقراطية التي تستوعب الجميع تستطيع هذه التيارات أن تهيمن دعاويا وسلميا على المجتمع وتشكل كتلتها التاريخية من أجل إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. أما أن تسوق لمقولة هي في جوهرها معادية للديمقراطية ( الديمقراطية الخاصة ) مهما كانت أشكالها ماركسية أو إسلامية أو قومية أو ليبرالية! فإنها تلغي المضمون التاريخي للديمقراطية لكونها ليست برنامجا سياسيا محددا بل هي تقوم برغبة المجتمع ومصالحه المتنوعة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وبكل توضعاته التاريخية والمذهبية والطائفية والحزبية والسياسية حول اتفاق بسيط دعونا نتنافس سلميا ونتعايش تفاعليا في فضاء دولة ديمقراطية الجميع متساوون فيها أمام القانون، دولة تكفل الحقوق الإنسانية كلها وأهمها أن يسمح للتيارات التي تنظر للديمقراطيات الخاصة بأن تشكل أحزابها وتجمعاتها من أجل أن تحوز على أكثرية اجتماعية وبعدها لتطبق برامجها. ولكن حتى ذلك الوقت هل من داع لهذا السيل من الزيف الأيديولوجي والذي تنخرط ضمنه المقولة السلطوية السائدة في سورية وهي أن دعاة الديمقراطية هم عملاء لأمريكا. وعندما تصبح هنالك ديمقراطية اطردوا هؤلاء العملاء لأمريكا من ملكوت صناديق انتخابكم. وأقيموا أنظمة حماية للطبقات الشعبية بنسخها الفكرية المتعددة بتعدد المصالح الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية.


هل هذا أمر عصي على التدبير؟ حتى يحتاج إلى كل هذه التبريرات اليومية من أجل تخصيص الديمقراطية في قالب ايديولوجي محدد!والسؤال المحرج في الحقيقة لبعضهم هو: من الذي يمتلك إرادة منع الديمقراطية في سورية؟ ربما يوحي هذا السؤال إلى شيئ من الغباء والسذاجة ولكنه حقيقي في وضعية الديمقراطيات الخاصة المشتقة من التيارات الأيديولوجية التي لم تقم بتجديد هياكلها فمابالنا بتجديد فكرها.فهذه التيارات لاتطرح على نفسها هذا السؤال! لماذا هذا الربط الدائم بين الديمقراطيات الخاصة هذه واتهام الآخرين بالعمالة للشر الأمريكي! هل الشعوب التي دفعت ثمنا باهظا من أجل الديمقراطية قبل أن توجد أمريكا / نفسها / لا بل الشعب الأمريكي دفع أيضا هذا الثمن كل هذه البشرية هي عملاء لأمريكا؟


أليس عجيبا غريبا ألا نرى اللوحة المصرية أو الأردنية أو المغربية أو اليمنية؟ هل كل التيارات التي ناضلت وتناضل من أجل الديمقراطية على اختلاف تلويناتها هي عميلة لأمريكا؟ ماهذه الترنيمة الأخآذة؟ تذكرني بترنيمة بعضهم الذين يخرجون علينا كل يوم باتهام الشعب السوري بكل مكوناته السياسية والدينية والطائفية بأنه طائفي ماعدا السلطة وكتلتها التاريخية هي وحدها ليست طائفية! ومن قال أن تاريخية الدعوة للديمقراطية تتخلى عن طبقيتها او دينيتها أو طائفيتها أو قوميتها؟


هذا الفهم المعلب للديمقراطية يحاول دوما إزاحة الكتلة التاريخية للسلطة من دورها في منع التحول الديمقراطي في سورية. وإزاحة كل ما من شأنه محاولات رفع الغطاء عما تخفيه التفاعلات التاريخية داخل كتلة السلطة هذه.هذا الغطاء الذي لا يغطي العتمة بل يحجب أنوارا كاشفة في الحقيقة فلسنا أمام طلاسم وتلموديات سرية محضة لا يعرفها سوى قلة! أبدا بل نحن أمام ضوء مبهر من آليات تفكير هذه السلطة فمن يفصل زوجة أنور البني من عملها بقرار رئاسي شفهيا ورئيس وزراء كتابيا ويبقي على عارف دليلة رغم كبر سنه لا نعتقد أن في هذه الزحمة من الأصوات وفي هذا الصخب تحت هذه الأضواء الكاشفة يحتاج المرء لكثير عناء حتى يكتشف من هي الجهة صاحبة المصلحة الحقيقية في كل هذا العداء للخارج بشقه الحضاري وللديمقراطية التي عرفتها البشرية وتعيشها في أغلب دولها الفقير منها والغني؟ لماذا كل هذا الخوف من الشعب السوري وتصويره وكأنه وحش جهادي سلفي يتربص بالأقليات السورية؟ من قال أن مخاطر التغيير الحقيقية هي من طرف الأكثرية؟


من هو الذي أبدع هذا المانشيت؟ هل الأكثرية هي من تمنع حقوق الكرد مثلا؟ وهل الأكثرية هي من استثنت مسيحيي سورية من صلاحيتهم وحقوقهم في أن يكون منهم رئيسا للجمهورية؟ أن تمتلك السلطة كل هذا الهول من القمع والأمكانيات أمرا مفهوما في كل سلطة ديكتاتورية! أن تمارس قوى المعارضة تكتيكاتها السياسية لاعتبارات كثيرة أمر أيضا مبررا أخلاقيا وسياسيا، ولكن ما هو غير مبرر في الحقيقة هو تصدير هذا التصور للمطلب الديمقراطي السوري بأنه إما غير مشروع أو أنه عميل للخارج!
وللحديث بقية...

غسان المفلح

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف