الحلقة الثانية

العراق الأمريكي والعراق الوطني:

نشأ طرفان متقابلان في المعادلة العراقية، هما الطرف الأمريكي الأقوى والأشرس، وهو الطرف المهيمن على كل شيء، والذي يملي إرادته ورؤيته بكل الطرق والمناورات، بما فيها الإرهابية، والاغتيالات والاعتقالات ضد كافة المكونات التي لاتتبنى رؤيته وبرنامجه، والطرف العراقي الضعيف والمعتمد على الطرف الأول في الكثير من الأمور لاسيما، العسكرية والأمنية، والمادية، والمالية أوالتمويلية، والدبلوماسية وغيرها. لكنه مع ذلك، يتطلع للمزيد من الاستقلالية والسيادة والشرعية والاعتراف الدولي والإقليمية والمحلي أو الوطني به، والمتمثل بالحكومة العراقية الشرعية الناجمة عن انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة نسبياً أدلى فيها أكثر من 11 مليون ناخب بأصواتهم لاختيار من يحكمهم. والطرفان باتا هدفاً مفضلاً لضربات الإرهابيين والتكفيريين والمتمردين المسلحين ممن يسمون أنفسهم بـ quot; المقاومة الوطنيةquot; وهم في الحقيقة من شراذم النظام الصدامي وبعض القوى المهمشة أو المقصية عن العملية السياسية وبعض عناصر الجيش العراقي السابق ممن ألقت بهم إدارة بول بريمر على قارعة الطريق يواجهون مصيرهم بلا أي مصدر للعيش، فتلقفتهم الجهات التي
تملك الأموال والأسلحة للاستفادة من تجاربهم وخبراتهم العملية في العمل العسكري.
غالباً ما تنصب الانتقادات والاعتراضات على الطرف العراقي في المعادلة المذكورة كونه الحلقة الأضعف. والملاحظ أن نقل السيادة الشكلي مع مارافقه من طقوس ومراسيم وتغطية، أو ضجة إعلامية ضخمة ومبالغ بها في 28 حزيران 2004، لم يساهم على مايبدو في تقليل أو خفض حدة العنف وهجمات الإرهابيين الشرسة ضد المدنيين، مثلما هو الحال مع فرض الخطة الأمنية وفرض القانون التي نفذتها الحكومة العراقية منذ أسابيع ولم تعطي ثمارها بعد. إذ أن استراتيجية أو خيار quot; التعاون ولو على مضضquot; من جانب أحد أو مجموعة من الفعاليات المحلية العراقية مع قوة الاحتلال من شأنه أن يقود حتماً وبانتظام، إلى انبثاق استراتيجية مضادة، أو خيار بديل للرفض، سواء كان وطنياً مخلصاً أو العكس، لكنه يتذرع بذريعة الاحتلال، وسوف يلجأ بديهياً إلى quot;المقاومة المسلحة quot; أو quot;العنف المسلح، وسوف يعمل على تخريب عملية التعاون بين طرفي المعادلة المشار إليها أعلاه ودمغها بالعمالة للمحتل لكسب الراي العام العربي والإسلامي وبعض القوى المحلية المتضررة من العملية السياسية. وفي مثل هذا الظرف الشاذ والاستثنائي، تصبح الطريق ممهدة لحدوث انحرافات وتطرف، وتغدو
كافة رموز السلطة أهدافاً مباشرة أو كامنة، من أكثرها شهرة ونفوذاً إلى أصغرها أو اقلها شأناً: الجيش والشرطة وقوى الأمن الداخلي هي التي تدفع الثمن الأفدح، ويأتي بعدها بالدرجة السياسيين العراقيين بمختلف مراتبهم ومناصبهم، وزراء ووكلاء وزارة ومدراء عامين ونواب برلمان ومحافظين، وما يحيط بهم من حاشية ومرافقين شخصيين، وكذلك المقربين منه وأفراد عائلاتهم، كلهم مستهدفون مباشرة بالهجمات الإرهابية وبالاعتداءات والتفجيرات والاغتيالات وعمليات الخطف الفردية والجماعية والتي تحدث أحياناً بعمليات ضخمة تحدث دوياً إعلامياً كبيراً، كما حصل في عملية الخطف الجماعية في وزارة التعليم العالي وسط بغداد في 14 نوفمبر 2006. فالعراقيون الذين قبلوا التعامل مع الأمر الواقع للاحتلال الأمريكي ودخلوا اللعبة السياسية التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية، وضعوا أنفسهم في واجهة الصراع وتلقي الصدمات، وأصبحوا في وضع حرج وتحولوا إلى أهداف سهلة ومفضلة للعصابات الإجرامية والقوى الإرهابية والتكفيرية وفلول الصداميين، كما دلت على ذلك أخبار الاغتيالات السياسية الناجحة والفاشلة، التي تعرض لها سياسيون كبار والتي تصدرت عناوين الأخبار في الصحف ووكالات الأنباء العالمية منذ سقوط بغداد في التاسع من نيسان 2003: وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر شهادة زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق آية الله محمد باقر الحكيم في 29 آب 2003، بعد ثلاثة أشهر من عودته من منفاه الإيراني مما حرم الولايات المتحدة من محاور سياسي فذ وذو وزن كبير، وأحد مفاتيح التمثيل الشعبي السياسي في مشروع إعادة البناء السياسي لعراق ما بعد صدام حسين.وأعقبه شهادة الموظفة الكبيرة في وزارة الخارجية العراقية السابقة والأستاذة الجامعية وعضوة مجلس الحكم الدكتورة عقيلة الهاشمي التي أغتيلت في 25 أيلول 2003 على أيدي الصداميين الذين انتقموا منها لأنها غيرت ولائها ومدت يدها لأعداء النظام السابق وتعاونت معهم. وعبد الزهرة عثمان محمد في 17 مايو أيار 2004 وعز الدين سليم، ومحاولات اغتيال السياسي والقيادي البارز في المجلس الأعلى وزير المالية السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي والمرشح عدة مرات لرئاسة الحكومة العراقية الدكتور عادل عبد المهدي، والتي لم تنجح لحسن الحظ، حيث طالت يد الغدر أفراد من عائلته ومنهم شقيقه وعضو البرلمان ضاري الفياض في 28 حزيران 2005 والقائمة طويلة. مما خلق عقبات كأداء أمام تأسيس برلمان عراقي شرعي منتخب جماهيرياً وفعال في أدائه. كما أعتبرت قوات الجيش والشرطة أهدافاً quot;مشروعةquot; وتحليل ضربهما باعتبارهما quot; أدوات بيد المحتل quot; لتعاونها مع القوات المحتلة quot; حسب تأويلات وتعبيرات المناوئين للعملية السياسية بقوة السلاح كما تشهد على ذلك العمليات الانتحارية والتفجيرات وعمليات القصف بمدافع الهاون ضد مراكز التطوع للجيش والشرطة وضد مباني ومديريات الشرطة والأمن وثكنات الجيش في بغداد وباقي مدن العراق، لاسيما وأن هذه القوات الوليدة ليست مؤهلة أو مدربة أو مجهزة ومسلحة بما فيه الكفاية لمواجهة تلك الضربات الإرهابية الموجعة والمميتة والرد عليها والتحول من الدفاع إلى الهجوم. وهي علاوة على ذلك ليست متجانسة، بل شكلت وفق صيغة المحاصصة ودخلتها افواج من الميليشيات من مختلف الانتماءات، وهي مخترقة من قبل جميع القوى والتنظيمات، بما فيها التنظيمات الإرهابية، وهذا الأمر يضعف الحكومة المركزية الشرعية ويفقدها السيطرة على القوات المسلحة الوطنية. وهناك عدد كبير من السنة العرب، حتى من داخل العملية السياسية كجبهة التوافق، يعتقدون أن الجيش العراقي الجديد تغلب عليه الصبغة الشيعية، وبالأخص قوات الأمن والشرطة التابعة لوزارة الداخلية. لذلك فهم ينظرون إليها بعين الريبة وعدم الثقة.


إن تزايد الهجمات الإرهابية ضد الشيعة وقوات الجيش والشرطة باعتبارها حسب ادعاء الصداميين والإرهابيين التكفيريين ذات أغلبية شيعية، تجسد من خلال اللجوء إلى لغة القوة المعارضة quot;السنيةquot; واستخدام السلاح لمنع استمرار السيرورة السياسية السائرة حالياً في العراق، وبالذات من جانب بعض قيادات وكوادر وأعضاء حزب البعث المنحل الذين كانوا يمسكون بمفاصل السلطة سابقاً ووجدوا أنفسهم فاقدين كل شيء ومهمشين ومقصيين عنه،ا بل، ومطاردين وما عليهم سوى أخذ المبادرة وقلب معادلة العنف لصالحهم والتحول نحو الهجوم، مما دفع برئيس الوزراء العراقي الحالي، إلى التسليم بضرورة مراجعة بنود قانون اجتثاث البعث، وتعديل بعض بنوده، وإجراء بعض الإصلاحات الضرورية عليه حتى لايتعارض مع جوهر مبادرته السياسية للمصالحة الوطنية التي بدء بتنفيذها منذ 16 ديسمبر 2006، وفتح الأبواب أمام منتسبي القوات المسلحة وضباط العراقي النظامي السابق من كافة الرتب العسكرية ممن كانوا يخدمون في عهد صدام حسين وهذا القرار هو بحد ذاته يعتبر تلبية لإحدى مطالب العرب السنة كشرط مسبق للمشاركة في مبادرة المصالحة الوطنية. كما دعا رئيس الوزراء الحالي
الأستاذ نوري المالكي بعض أتباع النظام السابق، ممن لم تتلوث أيديهم بدم العراقيين، وغير المتهمين بجرائم ضد الشعب العراقي، إلى مراجعة مواقفهم واستراتيجياتهم وحساباتهم والانضمام إلى العملية السياسية، لاسيما بعد إعدام صدام حسين وعدد من أركان نظامه الإجرامي. والهدف من كل هذه الخطوات والمناورات، هو التخفيف من حدة الاحتقان الطائفي والاصطفافات الطائفية والعرقية والمذهبية والعنف والتطهير الطائفي الذي تأزم بعد تفجير قبتي الإمامين العسكريين في سامراء في شباط 2006، ومرشح لتأزم مرة أخرى بعد التفجير الثاني لما تبقى من أطلال المرقدين، أي المأذنتين الذهبيتين اللتين تم تفجيرهما في 13 حزيران 2007 على يد عناصر متطرفة وحاقدة من تنظيم القاعدة الإرهابي، أو بتوجيه وتخطيط من مخابرات أجنبية تعبث بأمن العراق ولا تريد له الاستقرار، وتسعى لتفجير حرب أهلية ـ طائفية بين مكوناته الإجتماعية التي كانت متعايشة جنباً إلى جنب منذ عشرات القرون، بحجة محاربة الاحتلال الأمريكي الذي يهدد أمنها ووجودها. وهناك إشاعات تقول بوجود مئات العناصر التابعين لتنظيم القاعدة مدربين ومجهزين للقيام بعمليات إرهابية وتفجير للمساجد والجوامع السنية والشيعية على حد سواء ينتظرون في إحدى الدول المجاورة للعراق التي يفترض أن تكون صديقة وحليفة للنظام السياسي القائم اليوم.


إن هدف دعاة العنف في نهاية المطاف هو سياسي، يسعون لتحقيقه ومعهم عدد لا بأس به من القوى السياسية والإجتماعية والشخصيات المهمة والفاعلة في الحياة العامة ممن شعروا بأنهم مقصيين عن العملية السياسية العراقية الجارية، وهم موجودون بين صفوف الشيعة والسنة العرب، أو بين صفوف التيار الصدري الواسع الشعبية والذي يتزعمه رجل الدين الشاب مقتدى الصدر إبن المرجع السابق محمد محمد صادق الصدر الذي اغتاله صدام في أواسط التسعينات، حيث أبدى مقتدى الصدر امتعاضه من بعض سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة ومعارضته للعديد من القرارات والخطوات السياسية التي تتخذها الحكومة العراقية التي يشارك فيها التيار الصدري بعدد من الوزراء وعدد من النواب في البرلمان. لكن ذلك لم يمنعه من ممارسة الضغوط والابتزازات، وكان آخرها استقالة وزراء التيار الصدري الستة من الحكومة احتجاجاً على لقاء الأستاذ نوري المالكي بجورج دبليو بوش في عمان في 9 نوفمبر 2006 وتعليق عضوية نواب التيار في البرلمان احتجاجاً على تفجير مسجد ومأذنتي الإمامين العسكريين. ودعا مقتدى الصدر إلى مسيرات احتجاجية والمطالبة بإعادة بناء القبرين والقبتين
والمأذنتين بأسرع وقت ممكن. كانت الاستراتيجية العسكرية في بداية المشروع الحربي في العراق تضمر نواياها الحقيقية، ألا وهي منع تحقيق أي تطبيع سريع في الإيقاع الحياتي واليومي للعراقيين يحدث خارج السيطرة والإشراف الأمريكيين. وبالتناغم مع ذلك، عمد التمرد المسلح الذي أشهره أتباع النظام السابق الفارين ومعهم التكفيريين من أنصار القاعدة الإرهابيين والطائفيين إلى عرقلة مشاريع إعادة البناء والإعما، ومنع مؤسسات الدولة من توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، فقاموا بتخريب شبكات توليد الطاقة الكهربائية ومصافي النفط وخطوط نقل البترول والمشتقات النفطية، وضرب البنى التحتية وإفراغ البلاد عبر القتل والخطف والاغتيال، والتهديد من الكوادر العلمية المؤهلة لتسيير عجلة المجتمع من أطباء ومهندسين وتقنيين وأساتذة جامعيين وصحفيين ومثقفين من مختلف الاختصاصات، وتصعيد عمليات العنف ومنحها زخماً إعلامياً كبيراً. وكرد فعل، ركزت الآلة العسكرية الأمريكية والعراقية على الملف الأمني وأهملت كلياً ملف الخدمات. وترتب على ذلك شل المجتمع وتوقف دورته الاقتصادية الطبيعية ونشاطه الانتاجي الاعتيادي ومراوحة العملية السياسية في مكانها. وهذا يدل على أن استراتيجية إطاحة صدام حسين بالقوة العسكرية لم تأخذ بالحسبان العواقب والتداعيات السياسية السلبية الناجمة عن ذلك. وقد اصاب من توقع نشوء دولة الفوضى على أطلال دولة القمع. ومجتمع الحرمان بدلاً من مجتمع التخمة الذي كان ينتظره ويتمناه العراقيون بعد عقد ونصف من الحصار والمقاطعة والعقوبات وتدهور الحياة المعيشية. فانتشرت نغمة quot; الماكوquot; على كل لسان بين المدنيين الأبرياء الذين يشكون من اختفاء كل شيء، وفقدان كل شيء. ولانسمع سوى أنين وتوسلات المواطنين وهم يبكون ألماً وحزناً وحسرة ويقولون quot; أفعلوا لنا أي شيء بحق السماءquot;. فما ذنب هؤلاء الذي أصبحوا رهائن بين ضربات الأمريكيين من جهة، والإرهابيين من جهة أخرى. وهذا هو بالضبط ما يريده الفاشيون والصداميون والإرهابيون التكفيريون، وقد نجحوا في ذلك، مع فارق وحيد هو أن المواطن العراقي لم يعد يخاف من عقاب الدولة وأجهزتها الأمنية القمعية كما كان الحال في الماضي، مما منعه من الجهر بآرائه ومواقفه علناً أمام وسائل الإعلام رغم تسلط قبضة الإرهاب والميليشيات السنية والشيعية المسلحة.

فغداة سقوط النظام الصدامي، ظهرت للوجود مئات الأحزاب والحركات والتنظيمات السياسية غير المعروفة من جانب الغالبية العظمى من العراقيين التي سمحت لنفسها باحتلال بيوت ومقرات ومباني وقصور أركان النظام السابق الرسمية وغير الرسمية، الحكومية والحزبية والمنظمات الجماهيرية التابعة للحزب الحاكم سابقاً. وانتشار مئات الصحف والقنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية الأهلية والحزبية. وقامت الفعاليات المحلية، الدينية والمدنية بتنظيم نفسها وعدم انتظار نتائج المفاوضات بين الإدارة الأمريكية وممثليها كالجنرال المتقاعد جي غاردنر وخليفته الحاكم المدني بول بريمر من جهة، وأحزاب المعارضة العراقية التي كانت موجودة في المنفى. وكانت الحكومة الأمريكية قد أقصت أو استبعدت فعاليات وأحزاب وشخصيات دينية وسياسية وعشائرية عراقية مهمة ومؤثرة في نسيج المجتمع العراقي كانت قد نصبت نفسها بنفسها كخليفة لغياب وانهيار جهاز الدولة الصدامية المنهار مستغلة فراغ السلطة والفراغ الإداري والقيمي، واختفاء المعايير الانضباطية.


اكتشف العراقيون لأول مرة منذ نصف قرن تقريباً لعبة التنافس السياسي سلمياً والتي غدت ممكنة بفعل غياب البديل السياسي القوي الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتمنى العثور عليه وتنصيبه بالقوة كأمر واقع خلفاً للنظام الصدامي القوي والمتجبر الذي كان يحكم قبضته بالحديد والنار. ومع فشل الولايات المتحدة في فرض البديل القوي تهيأت التربة أو ألأرضية الصالحة لإعادة نبش وإثارة النعرات والخلافات والاستقطابات الطائفية والقومية والعرقية والدينية والمذهبية المكونة للموزاييك العراقي. وأدرك البعض ما يمكن أن يكسبوه أو يخسروه في عراق ما بعد صدام حسين، ونشبت أول مباراة غير متكافئة بين quot;عراقيو الداخلquot; و quot;عراقيو الخارجquot; كما يحلو للبعض تسميتهم، لللاعبين السياسيين الحاليين ومن أشهر الشخصيات الفكرية والدينية التي تبنت هذه الأطروحة هو المرج الديني والمرشد الروحي لحزب الفضيلة الشيخ محمد اليعقوبي وغيره من الذين ركزوا على سلبيات السياسيين القادمين من الخارج وفشلهم في تحمل المسؤولية، وإخراج العراق من المأزق. سارعت الأحزاب الدينية ومعها الكثير من رجال الدين والمعممين من مختلف المراتب والمستويات إلى سد الفراغ وبسط سلطاتهم السياسية والإدارية والتنظيمية على الشارع العراقي، لاسيما في بعض المدن المهمة كالبصرة والنجف وكربلاء والعمارة والناصرية والحلة وفي بغداد نفسها خاصة في مدينة الثورة التي كانت تسمى بمدينة صدام أيام النظام السابق وسميت بعد سقوط صدام بمدينة الصدر. وفي خضم تلك الأجواء الفائرة التي كنت شاهداً مباشراً عليها وقريباً منها وعلى أرض الواقع هناك في داخل العراق. ففي العاشر من أيار 2003 وكان مضى على عودتي من منفاي الباريسي الذي دام أكثر من ثلاث عقود، ستة أيام بالكاد، عاد الزعيم الديني والسياسي العراقي المعروف الشهيد محمد باقر الحكيم من منفاه من طهران، وكنت أول من التقاه بعد ساعة من وصوله إلى النجف ودخوله إلى مقر المجلس الأعلى في هذه المدينة المقدسة برفقة الفريق التلفزيوني الفرنسي التابع للقناة الثانية الذي رافقني، وكرس برنامجاً تلفزيونياً لعودتي إلى العراق، وأجرينا أول لقاء تلفزيوني معه، وكان صريحاً وواضحاً وجريئاً. وقد تم استقبال السيد الشهيد بحفاوة بالغة وتكريم عالي من قبل الجماهير الغفيرة ذكرتنا بعودة الإمام الخميني من منفاه إلى طهران إبان الثورة الإسلامية، وسرعان ما امتدت يد الغدر الجبانة والمجرمة لتطاله وتغتاله في شهر آب 2003.

كما سمح الفراغ السياسي أيضاً للسنة العراقيين العرب في مناطق نفوذهم وغلبتهم العددية كالأنبار وتكريت والموصل وبعض مناطق بغداد، لإشعال شرارة التمرد المسلح ضد القوات الأمريكية والعراقية المأتمرة بأوامر قوات الاحتلال. وكان أئمة وخطباء الجوامع السنية في تلك المناطق هم الذين وضعوا اليد على إدارتها ونصبوا أنفسهم الناطقين باسمها وتشكلت مجالس محلية وعشائرية من وجهاء تلك المناطق لإدارتها بدلاً من مؤسسات النظام المنهار، وأرسلت مبعوثين عنها للتفاوض مع السلطة الأمريكية الحاكم التي تقودها القيادة العسكرية المحتلة. وبذلك، غدا هؤلاء الوجهاء هم المحاور الرسمي مع الأمريكيين ويقومون بتمويل وإدارة المستشفيات والمدارس والمراكز الدينية والتعليمية والتربوية والثقافية وخاصة الإسلامية منها، والتي ظهرت وانتشرت بكثرة منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام البعثي، بغية توفير الاحتياجات الأساسية للسكان عكس ما ادعاه وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد quot;بأن السلطة المؤقتة لقوات التحالف هي المسؤولة عن سد الفراغ في السلطة الناجم عن اختفاء نظام صدام حسين في بلد عاش عقوداً طويلة من الدكتاتورية، ولن نسمح للزعماء المحليين الذي نصبوا أنفسهم بممارسة مهمة الحكم والإدارةquot;.


ظهر منذ اللحظات الأولى للتغيير السياسي بالقوة في العراق مشروعان يسيران بالتوازي، هما المشروع الأمريكي، ومشروع اللاعبين المحليين والفعاليات المحلي، وكل واحد منها يواصل أجندته لتحقيق التحولات الإجتماعية حسب مصالح كل منهما ورؤية كل منهما لما يعتبره من وجهة نظره quot;استقرار العراق في مرحلة ما بعد صدامquot;. لقد طغى مشروع القوى العراقية الخارجة عن اللعبة السياسية والعازفة لسمفونية العنف الاجتماعي والمروجة للاستراتيجية العسكرية ـ السياسية باعتبارها الرد المنطقي على قرارات إدارة بوش الاعتباطية التي تجهل الواقع العراقي، وهو الأمر الذي قاد واشنطن لتغيير مفهومها الذي أسمته بـ quot; الاحتلال التحولي البناء quot; وراجعت مشاريعها الطموحة في quot;دمقرطة العراق من فوقquot; وبالقوة. دهشت أمريكا من حجم الصد والرفض الاجتماعي والسياسي العراقي ضد حضورها وتدخلها في كل شيء في العرا، هذا فضلاً عن الاعتراض المسلح من جانب بعض الفئات. وانتلقت من استراتيجية الهجوم والترهيب واستعراض العضلات، إلى استراتيجية الثبات والبقاء والدفاع عن النفس، أو الخروج بشرف والحفاظ على ماء الوجه فراجعت خططها وأجنداتها بصورة
راديكالية حتى توصلت في الأيام الأخيرة إلى الاقتناع بوهم الموازنات ومبادرتها إلى خلق وتسليح ميليشيات سنية جديدة من بعض عشائر المناطق السنية من خلال تمويلها وتدريبها وتسليحها بحجة محاربة تنظيم القاعدة في العراق، لأن هذا التنظيم يسعى إلى تهديم كل شيء ودفع البلاد نحو هاوية الحرب الأهلية ـ الطائفية. والواضح أن أمريكا لاتمتلك كعادتها نظرة عميقة وثاقبة وبعيدة المدى لما يمكن أن تقوم به تلك الميليشيات العشائرية والبعثية السابقة في مرحلة quot;مابعد القاعدةquot; إذ من المؤكد أن هذه القوى المسلحة الجديدة ستحول سلاحها نحو صدر النظام السياسي الشرعي القائم حالياً، وجر البلاد نحو نزاعات وصراعات مسلحة دامية ستكون، شئنا أم ابينا، مواجهات بين الشيعة والسنة العرب وبينهما الأكراد الذين سوف يسعون حتماً لاستغلال الفرصة والمطالبة بالانفصال حماية لأنفسهم ولمكتسباتهم التي حققوها منذ أوائل التسعينات بفضل الحماية الأمريكية والأوروبية لهم من بطش النظام الصدامي.


وإزاء تفاقم التدهور الأمني والمعاشي للعراقيين، وتباين المواقف وتناقضها في أعلى مستويات السلطتين التنفيذية والتشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية بشأن موضوعة الانسحاب من العراق وشروطه وتوقيته أو جدولته، تلقت القوى والعناصر المسلحة رسالة خاطئة مفادها أن أمريكا ستتخلى إن آجلاً أم عاجلاً، عن السلطة الحالي، وستكون الفئة الحاكمة فريسة سهلة للانقضاض عليها من جانب العناصر الإرهابية المسلحة بكل تنوعاتها، ولذلك سوف تثابر هذه الأخيرة على تسديد ضرباتها الموجعة ضد الجيش والشرطة العراقيين أولاً وضد الأمريكيين ثانياً وقبلهم ضد المدنيين العراقيين العزل ونسف المجتمع المدني وترهيب الشعب الأعزل لإثارة الفوضى والخراب وعدم الاستقرار ورائحة البارود والدخان والغبار والخرائب والشلل التام في المجتمع وإشاعة روح الخوف والرهبة والاستسلام، مما سيدفع السكان للنزوح الجماعي والهروب إلى المنفي حتى ولو بملابسهم الداخلية.


فإذا لم تنجح الحكومة العراقية الشرعية في تحسين الظروف المعيشية للسكان، والتي أصبحت لا تطاق في هذه الايام، ولم تنجح في وقف دوامة العنف والإرهاب وحماية أرواح المواطنين من القتل والتفجيرات، فإن أمريكا ستكون مستعدة للتخلي عن مثل هذه الحكومة بلا أي تردد بذريعة فشلها في تحسين أداءها، وعدم صلاحيتها في قيادة البلاد وإعادة النظر في تركيبة وطبيعة التحالفات وفق قاعدة quot; لا صديق أو حليف دائم ولا عدو دائم بل مصالح دائمة quot; وهي سمة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية البراغماتية. ويكفي النظر والتدقيق في تصريحات المسؤولين المريكيين عبر وسائل الإعلام للتأكد من تلك النوايا الخبيثة، لذلك لاينبغي منح الثقة الكاملة والمطلقة لأمريكا لأنها معروفة بالغدر والتخلي عن اصدقائها عندما تنتهي أوراقهم والفائدة التي تجنيها منهم كما فعلت بشاه إيران وغيره. وليكن من سيخرجها من العراق هو النظام الشرعي المنتخب والمدعوم بأصوات الشعب ورعاية المرجعيات، وليس بنادق الإرهابيين. فالمجموعات المسلحة، تعيش أحلام اليقظة وليس لها برنامج عمل سوى تدمير الوطن، ولكنها تدّعي أنها تملكه. وما يسمّـى ببرنامج عمل، فهو مجرد شعارات وتمنِّـيات تطلقها عبر وسائل الإعلام المتعاطفة والمؤيدة لها وأغلبها شعارات فضفاضة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، وصارت تلوح بالرغبة في التفاوض مع الأمريكيين حصراً إذا منحت ضمانات للنظر في طروحاتها، وسوف ترغم الولايات المتحدة الأمريكية عبر وسائل ضغط كثيرة الحكومة العراقية على قبول الكوادر البعثية وإعادة النظر في قانون اجتثاث البعث في سياق ما سمي بالمصالحة الوطنية من منظور أمريكي، وليس من منظور عراقي. لم يقتصر التخبّـط الأمريكي على هذا الحد المتمثل بـتسليح عشائر العراق ضد القاعدة، أي تعزيز قوة المؤسسة العشائرية كسلطة منافسة، بل ومهددة لسلطة الدولة مستقبلاً، فهنالك الكثير من القوى العراقية والإقليمية العربية وغير العربية التي تقوض عمل الحكومة وتسعى الى اسقاطها، بغية حمل رئيس الوزراء على التخلي عن موقعه و المجيء بآخر يرأس حكومة: quot; تنقذ البلاد من الدوامة السياسية التي تدور فيها اليومquot; وتمت مساندة هذه الحملة في الصحافة الامريكية ومنها مقال نشرته صحيفة لوس انجلوس تايمز الثلاثاء الماضي نال من شخصية السيد المالكي، وكان مليئاً بالاتهامات الباطلة والتشكيكات.


وهناك من يقوم يصب الزيت على النار ويطالب بإجراءات تؤدي الى انشقاق وحدة العراق وحمل شعبه الى التقاتل الطائفي والقومي بديلا عن الوحدة ويصروا على ضرورة الاسراع في تقديم التنازلات مهما كان الثمن من أجل إنقاذ سمعة واشنطن المتردية. فهل ستعي الحكومة العراقية هذه التحركات المريبة والخطط الكارثية التي تتربص بها وبمصير العراق؟

د. جواد بشارة

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف