من الحقائق التاريخية والسياسية المرتبطة بشأن العلاقات الفلسطينية الكردستانية هي احتوائها على صفحات إيجابية كثيرة مشرفة للطرفين، خاصة منها تطوع الكرد العراقيين في صفوف الحركات الفلسطينية كفدائيين للدفاع عن القدس وعن شعب ارض ميلاد المسيح ومنبت دين النبي موسى (عليهما السلام) وعن ثاني القبلتين في الإسلام، والمشاركة العسكرية العراقية في حرب عام 48 بقيادة ضباط وجنود كرد، والعلاقات الأخوية التي ربطت بين القيادات الفلسطينية والزعامات الكردية خلال مسيرة الحركة التحررية الكردية لنيل الحقوق الديمقراطية للعراقيين والقومية للكردستانيين في العقود الماضية لإرساء علاقات أخوية متسمة بسمات مشتركة بين الشعبين الفلسطيني والكردستاني، ومن أهم السمات المشتركة بين الشعبين هي الكفاح المشترك لنيل الحقوق الأساسية في العيش وتشكيل الكيان السياسي والتعايش المشترك واختيار النهج الديمقراطي في إرساء سلطة الشعب، والكفاح الذي دام لعهود طويلة قاده رجال شجعان هم الفدائيون في فلسطين والبيشمركة في كردستان العراق.
ولكن بسبب اتجاه بعض الحركات الفلسطينية نحو العنف المتشدد والتطرف في العمليات الفدائية العسكرية، فقد التصق بعض الأوصاف غير اللائقة بالفدائيين من ناحية عدم إنسانية ومدنية وحضارية الأسلوب المسلح الذي مر بها مقاتلي الحركات الفلسطينية خاصة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مما أثرت بصورة سلبية كبيرة على سمعة القضية الفلسطينية، مقابل هذا التوجه ظلت البيشمركة الكردية محافظة على عهدها الرجولي وأسلوبها الإنساني في كفاحها المسلح ضد الأنظمة الجائرة التي توالت على حكم العراق، وهذا ما حدا بأغلب ضباط الجيش ممن عاصروا نضال البيشمركة أن ينظروا لها بعين الوقار والاحترام العسكري لخلو المسيرة الكفاحية المسلحة لهذه القوات الشعبية النظامية من أي فعل مرتبط بالإرهاب أو عمل مرتبط باستغلال المدنيين والأبرياء طوال عقود جاوز نصف القرن من الكفاح المسلح.
واليوم بمناسبة إصدار حكم الإعدام على مرتكبي جرائم الأنفال الكبرى التي أراد بها النظام السابق إبادة الشعب الكردستاني، وانطلاق مظاهر الفرح السعيد بهذه المناسبة المتزامنة مع استيلاء مسلحي حركة حماس على قطاع غزة في فلسطين بانقلاب عسكري، بهذه الاحتفالية نتذكر النية غير السليمة التي عبر عنها رئيس الحكومة الفلسطينية السابقة إسماعيل هنية الذي تحول الى رمز من رموز الإمارات الإسلامية المظلمة، تجاه العراقيين الكرد عندما وصف البيشمركة الكردستانية بوصف غير لائق في أحد خطبه معبرا عن نفس مظلم خافي غير سوي لم يخرج به ولم يكشف عنه الى العالم والفلسطينين الا في استيلائه الأخير غير الشرعي على قطاع غزة، وهي عين النية السيئة التي عبر عنها مجلة الحوادث اللبنانية في تحليلها لوقوع القطاع تحت سيطرة المليشيات الملثمة لخالد مشعل رئيس حركة حماس الخارجة من وراء دهاليز أجندات دولية إقليمية ومن أحضان رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين لإيجاد بديل منافس لمنظمة التحرير الفلسطينية.
لهذا ومن باب التذكير والاعتراف بالدور الريادي للبيشمركة الكردية لقيادة حركة المعارضة العراقية لبناء عراق ديمقراطي برلماني تعددي اتحادي، نتذكر صفحات طويلة، شاقة، ومؤلمة من نضال هذه القوة الكفاحية المسلحة الشعبية، البيشمركة الكوردستانية، كجيش نظامي حمى كردستان والعراق من براثن الجور والاستبداد، من خلال نضال ألاف مؤتلفة من كردستانيين من كرد وتركمانيين ومسيحيين وعراقيين عرب أحرار هبوا حياتهم فداءا للوطن والشعب تحت راية البيشمركة، وشقوا لطريق حياتهم عناء الزمن وصعاب الحياة وشقاء الدرب وزحمة السير لكي يمنحوا الشعب والأمة في زمن صعب أبناء بررة ليدافعوا عن الكرد وكردستان وعن العراقيين وعن العراق الموحد، ليحققوا حلم بناء بلد الرافدين بغير سلطان جائر، في زمن تسيد فيه الباطل وتغيب فيه الحق، في زمن كان للطغيان صولجان الحكم لعهود جائرة آسى منه الكرد بعظيم الأسى، وآلم منه أهل العراق بكبير الألم.
أجل عائلات كردستانية تتعدى عشرات ومئات الألوف، قدمت لكردستان وللعراق أعز ما تملك من بنون ومال، من quot;بيشمركةquot; أبرار، ليكونوا الروح المتجددة للشعب، ويكونوا نبض القلب لكل بشر وشجر وحجر في أرض كردستان وفي أرض بلاد النهرين حتى يستمر العطاء وتتواصل الحياة.
نعم quot;البيشمركةquot; ذلك الانسان الذي ناضل من أجل الشعب الكردستاني، ومن أجل عراق جدير بالحب في القلوب وقدير في العقول، هذا الانسان أصبح رمزا للحب وللحرية والعطاء، أجل هذه القدوة للرجولة والإنسانية منحت جبال الكرد رفعتها وهيبتها، ومنح سماء الكرد زهوها بتوفيق من رافعها الرحمن الرحيم ليحمي الكردستانيين من اضطهاد غير مسبوق على أرض البسيطة من قرون طوال.
أجل هذا الكردستاني والرمز العراقي الأصيل الذي بدأ يخاف منه أمثال الانقلابيين إسماعيل هنية وخالد مشعل وأهل الإرهاب والتكفير وفلول البعث البائد، هذا الرمز الوطني النضالي اتسم نضاله وعمله بالعمل الإنساني النبيل المغروس في قلوب الكرد والعراقيين، نضال منح العراق فخرا واعتزازا كبيرا، ومنح الكرد تاريخا مشهودا بالنضال الإنساني والفعل الأصيل النابع من الخلق الكريم، خلق نابع من نهج سليم في السلوك والكفاح الدءوب لتحقيق المطالب الوطنية والقومية للكردستانيين بصورة خاصة وللعراقيين بصورة عامة على حد السواء، وانتفاضة عام واحد وتسعين، خير دليل على ذلك حيث حصل الكرد على حريتهم قبل العراقيين بأكثر من عقد بفضل صبرهم وكفاحهم ونضال البيشمركة المتسم بأخلاقية فريدة على ساحة الحركات التحررية في المنطقة، وهي خلو المسيرة النضالية لهذا الرمز العراقي من كل فعل إرهابي إيمانا بالمباديء والقيم الإنسانية النبيلة، حيث لم تسلك الحركة التحررية الكردية وقوتها النظامية البيشمركة الباسلة في جميع مراحلها النضالية، حتى في أوج حالات الضغوط الشديدة والقسوة والعنف الوحشي، غير الوسائل الشرعية المتبعة في النضال المسلح والكفاح المدني.
وليس بخاف على أحد من القيادات الوطنية العراقية، أن القوة النظامية quot;البيشمركةquot;، إضافة الى نضالها الدءوب ضد نظام صدام ومهامها النضالية، كانت لها الفضل الكبير في توفير الأمان والحماية لهم طيلة فترة بقائهم على أرض كردستان، وهم يتذكرون بكل فخر يوم حمى هؤلاء الناس الشجعان كل أفراد المعارضة العراقية في جبال كردستان لعقود طوال، أيام النضال ضد أنظمة الحكم الجائرة، يوم لم يكن في أرض العراق من بقعة أمينة محررة للنضال الوطني، لترفع صوتها وقلمها وسلاحها ضد حكم الطغيان والاستبداد.
أجل هؤلاء quot;البيشمركةquot; منحوا كردستان في مخاضها ونهوضها وصعودها، شجرة مباركة بشهاب كردية تحت ظلال مقدسة من أرواح استنشقت شهادة السماء قبل ان تستنشق شهادة الأرض لتسرع من إشراق شمس حر، على أرض بلاد الرافدين في الانتفاضة العراقية الخالصة فحاطوا كردستان بهالة من النصر المبين، صالت ببريقها الى كل بيت في العراق، على رضابها وسهولها وجبالها، مانحة الأمة العراقية أملا راسخا بحياة جديدة على أرض افتخرت بها الأنبياء والرسل قبل أن تشق طريقها الى القلوب التي توارثت بقاءها ووجودها على بقعة سحرية، تغنت بها الطيور في السماء، والشهب في الفضاء قبل أن تتغنى بها حناجر الكردستانيين في غابر الأزمان.
أجل هذه اللحظات الأليمة المرتبطة بفراق نفوس غالية من بيشمركة شهداء، صالت مع أبنائها صولات النضال ضد طاغوت، طاغوت رصد كل ما في ارض السواد لزهق أرواح الكردستانيين، وقلع الجذور التي كانت تطلق نبتة وحياة كردية في أرض غرزت في أرجائها نفوس شبت ان لا تنادي بها إلا باسم كردستان، وأرض غرزت في أرجائها نفوس أن لا تنادي بها الا بإسم العراق.
أجل هذه الأرض المعطاء في العراق وكردستان، شهدت مسيرة أجيال متعاقبة من كرد وعراقيين أصلاء، لم ترضى إلا ان تمد من أرواح quot;البيشمركةquot; الشهداء بساطا مفروشا لقوم أصيل يوم نودي يا ملة العراق quot;ملة أور وبيتواتة إبراهيم عليه السلام quot;، يا ملة بردا وسلاما، حان قطف ثمار كفاحكم بثمار عراقية بهية، ثمار الأرواح العزيزة من البيشمركة ومن شهداء الحركة التحررية العراقية التي روت أرضا خصبا عزيزا من كردستان أرض الكرد ومن نبع وأرض الأمة العراقية، لتنبت كروما وتينا وجوزا وسماقا كرديا، ونخلة عراقية، وتنبت شجرة للأطفال العراقيين ليرفعوا بسيقانها علما زاهيا للحب وللحرية والكرامة وهم ينشدون لبغداد وكردستان بحناجر مصقولة بعذوبة الينابيع الجبلية، وممزوجة بعنفوان quot;البيشمركةquot; ذلك الكردستاني والرمز العراقي الأصيل، وينشدون لكل من أراد أن يرمي هذا الرمز العزيز على العراقيين برمية غير طيبة نابعة من نية سيئة من أمثال هنية ومشعل والملثمين وأهل الإرهاب والتكفير، لتخسأ قلوبكم التي لا تحمل نية حسنة تجاه شعبكم الفلسطيني فكيف تحملون نية طيبة تجاه الكردستانيين والعراقيين وتجاه رمزهم الوطني البيشمركة.
د.جرجيس كوليزادة
[email protected]
التعليقات