هل كان كارل ماركس وفردريك إنجلز واهمين عندما كتبا في بيانهما الشيوعي (Manifesto) الشهير قبل مائة وستين عاماً بالتمام والكمال أنهما يريان شبح الشيوعية يحوم في سماء أوروبا؟ ليس أسهل من الإجابة على هذا التساؤل بالإيجاب وإعفاء النفس بالتالي من تجشم عناء البحث في صدقية هذه البشارة. بل هل كان كارل ماركس سيجيب بالإيجاب بعد أن وجد أن الأممية الأولي (First International) التي كان قد شكلها عام 1864 ليست مؤهلة للقيام بالثورة الإشتراكية التي دعا البروليتاريا العالمية للقيام بها وذلك لأن كوادر البورجوازية الوضيعة كانت قد تسللت إليها وتقدمت صفوفها الأمر الذي دفعه لحلها عام 1873؟ لا أعتقد أنه كان سيجيب بالإيجاب وذلك لأنه كان يرى بأم العين مجمل الإنتاج العام في أوروبا يتم بطريقة الإنتاج المجتمعي(Associated Production) وهي الأسلوب الشيوعي في الإنتاج المعيب فقط آنذاك بملكية الرأسماليين لأدوات الإنتاج. لا أعتقد ذلك لأن رفيقه إنجلز ظل يرى شبح الشيوعية بعد رحيل ماركس فأقام الأممية الثانية(Second International) عام 1889 المكلفة باستحضار الشبح إلى الأرض والقيام بالثورة الإشتراكية.

إذا كان ماركس وإنجلز غير واهمين فلماذا إذاً لم يتحقق حلمهما خلال أكثر من قرن طويل ونصف القرن؟ ـ هذا أهم سؤال يقوم عائقاً صعباً على طريق الذين ما انفكوا يسيرون على طريق الشيوعية، وما زالوا يدعون أنهم يرون في البعيد البعيد الشبح الذي كان يحوم في سماء أوروبا قبل أكثر من قرن ونصف، شبح الشيوعية. سيكذب الناس بُشراء الشيوعية هؤلاء إن لم يجيبوا إجابة صحيحة ومقنعة على هذا السؤال العقبة!!

أشرنا إلى قيام ماركس بحل الأممية الأولي عام 1873 بسبب وقوعها ضحية الخطابات الصاخبة التافهة للبورجوازية الوضيعة التي عبر عنها فوضويو ميشيل باكونين. الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية في الأممية الثانية كانت قد اتخذت قراراً في مؤتمرها العام في شتوتغارت 1907 بتحويل أية حرب استعمارية قادمة إلى حرب طبقية وثورة اشتراكية تستولي فيها البروليتاريا الأوروبية بشكل خاص عل السلطة في بلدانها. في عشية الحرب العالمية الأولى نقضت هذه الأحزاب قرارها وشاركت في الحرب 1914 ضد بعضها البعض وشاركت البروليتاريا الألمانية في قتل البروليتاريا الفرنسية والإنجليزية والعكس صحيح أيضاً. عادت البورجوازية الوضيعة لتحتل الصفوف الأمامية في أحزاب الأممية الثانية الأمر الذي دفع بلينين ورفاقه البلاشفة إلى الإنشقاق عن الأممية الثانية وإدانتها بقوة. تبدت خيانة الحزب الإشتراكي الألماني ـ وهو دائماً موئل الخيانة ـ في موقفه من الثورة الإشتراكية في بافاريا وقيام السلطة السوفياتية فيها عام 1919. اغتال الإشتراكيون الألمان السلطة السوفياتية ليقيموا جمهورية فايمار التي مهدت الطريق لنازية هتلر. وأكدت الأممية الثانية طينتها البورجوازية فأعلنت في العام 1922 دون حياء أو خجل تخليها نهائياً عن الماركسية ـ بالكاد يرى المراقبون الفرق بين جمهورية الإشتراكيين الفرنسيين بقيادة متيران وجمهورية الاتحاديين اليمينيين بقيادة شيراك. وفي ذات السياق يمكننا أن نؤكد أن حرف مسيرة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي وانهيارها بالتالي جرى على أيدي البورجوازية الوضيعة متمثلة بقيادة الجيش ومجمع الصناعات العسكرية ورجلهم الأول خروشتشوف.

كان كارل ماركس قد كشف عن التناقضات الرئيسة في نظام الإنتاج الرأسمالي والتي من شأنها أن تعمل على تهديمه في أربعينيات القرن التاسع عشر أي قبل أن ينضج ويتكامل نموه حين كان روث الخيل يغطي شوارع لندن كما لاحظ أحدهم. دعوة ماركس المبكرة للثورة الإشتراكية استندت أساساً إلى التناقضات المادية في نظام الإنتاج الرأسمالي لكن إنجاز الثورة في وقت مبكر من حياة النظام الرأسمالي ما كان ليكون دون توظيف الوعي الإنساني في إدراك مساوئ الرأسمالية كنظام بالغ الوحشية في استغلال الإنسان وإدراك حسنات الشيوعية بالمقابل في تحرير الإنسان من مختلف عناصر القهر والخوف والقلق وكل الأدران التي ورثها الإنسان عبر تاريخه الطويل في المجتمعات الطبقية. أمّل ماركس كثيراً في توظيف الوعي الإنساني لاختصار التاريخ ووضع نهاية مبكرة للنظام الرأسمالي.

الأمر الذي فاجأ ماركس بقوة هو القدرة الفائقة للبورجوازية الوضيعة في استخدام أدواتها في صراعها ضد الطبقات الأخرى وخاصة البروليتاريا. توظف الثقافة والفكر ولها فيهما حصة كبرى في تضليل البروليتاريا وجرها إلى ساحات معارك خاسرة. تتسلل إلى صفوف أحزاب البروليتاريا وتتقدم هذه الصفوف بسهولة فائقة وتوقع بالتالي خسائر فجائعية بالبروليتاريا. حدث ذلك في تقرير مصائر الأمميات الثلاث المأساوية.

لا أعتقد أن اعتبارات كارل ماركس حول إنجاز الثورة الإشتراكية كان من بينها الحروب الإستعمارية الكبرى التي ساعدت على تجديد شباب النظام الرأسمالي الإمبريالي وعطلت بالمقابل النشاط البروليتاري الثوري نحو إنجاز الثورة الإشتراكية. الدرك الإجرامي الذي انحط إليه الرأسماليون، وقد اختزنوا من أدوات الإجرام الشيء الكثير التي استخدمت في إبادة عشرات الملايين من الجنس البشري، لم يكن ليتصوره ماركس أو إنجلز سواء كان ذلك في حرب البوير(Boer) الأولى 1880ـ1881 أو حرب البوير الثانية 1899ـ1902 أو في الحرب العالمية الأولى 1914ـ1918 أو الحرب العالمية الثانية 1939ـ1945. كان أول من نادى إلى الوقوف بوجه الإستعماريين وسوق البروليتاريا للموت في حروبهم الإستعمارية هو لينين ورفاقه في مؤتمر شتوتغارت السالف الذكر. في مواجهة إلغاء الأممية الثانية لقرارها السابق في مؤتمرها في بازل 1912 كي تسمح بتجنيد البروليتاريا في الجيوش المتحاربة انشق لينين والبلاشفة وأدانوا القرار ونجحوا تبعاً لذلك في وقف الحرب واستلام السلطة في روسيا 1917. كما نجح البلاشفة مرة أخرى بقيادة ستالين بتحويل الحرب العالمية الثانية إلى ثورة اشتراكية في شرق أوروبا وشرق آسيا، وفي خلق الأمم المتحدة كمنظمة مسؤولة عن صيانة السلم الدولي.

ما لا يجب أن يغيب عن الذهن في هذا الشأن هو أن الحرب العالمية الثانية التي جسدت المؤامرة الكبرى على الثورة الإشتراكية العالمية ومركزها موسكو عاصمة الإتحاد السوفياتي، أن تلك الحرب الهمجية بكل المعايير كان من تداعيات نتائجها السلبية انهيار الثورة الإشتراكية العالمية والإتحاد السوفياتي.

خلال ما يقارب القرن (1880ـ1975) استطاعت الرأسمالية العالمية أن تبقي على نظامها بواسطة الحروب الكبرى. في سبعينيات القرن الماضي لم تستطع الرأسمالية أن تخوض حرباً كبرى فكان أن انهارت تماماً ونعاها إعلان رامبوييه 1975 الصادر عن الدول الرأسمالية الخمس الكبرى.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة بدأت الدول المحيطية في فك الروابط مع مراكز الرأسمالية الإمبريالية في العالم فاستقلت الهند عام 1947 واستقلت الصين عام 1951 وهما أكبر البلدان التابعة إذاك. مع تراجع قدرة الأسواق المحيطية كان يرافق ذلك بالطبع تراجع مواز ٍفي الإنتاج الرأسمالي الجمعي أو المجتمعي (Associated Production) وزيادة موازية أيضاً في الإنتاج غير الرأسمالي، إنتاج الخدمات الفردي(Individual Production). فيما بعد إعلان رامبويية تدهور الإنتاج الرأسمالي، الإنتاج المجتمعي، بصورة خطيرة الأمر الذي انتهى سريعاً لانهيار النظام الرأسمالي في العالم كله.

شبح الشيوعية كان يحوم في سماء البلدان الرأسمالية المتقدمة فقط وهي الدول التي كانت وحدها تقرر مصير العالم. من هنا بالتحديد قال ماركس بثورة اشتراكية عالمية وليس في بلد واحد وإن كان بسعة الإتحاد السوفياتي الذي شكل سدس اليابسة في الكرة الأرضية. مع انكماش الإنتاج الرأسمالي الجمعي في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية انكمشت طبقة البروليتاريا وتهمش دورها الإقتصادي والسياسي فكان نتيجة ذلك أن حلق شبح الشيوعية فيها بعيداً في الأعالي حتى أنه لم يعد يرى. ولذلك يطرح التساؤل التالي نفسه على الجميع.. أين هي الشيوعية اليوم؟! ينبري الكثيرون من أعداء الشيوعية للقول بأن الشيوعية إنما هي يوطوبيا توهمها كارل ماركس في مخيلته غير السوية (!!) وهي ليست من محطات التاريخ لهذا العالم. واليوم كثيرون من الشيوعيين سابقاً يقولون قول هؤلاء وإن لم يعلنوا عن ذلك كيلا يخسروا أرصدتهم في امتهان السياسة.

إننا وبكل ثقة لا حدود لها نقول لهؤلاء المرتدين بفعل الغباء أو بفعل الوضاعة البورجوازية ولأولئك من كارهي الشيوعية أن الشيوعية قادمة ولا رادّ لها، قادمة قدوم الربيع بعد الشتاء. لقد استخدم أعداء الشيوعية كل أدواتهم ولم يبقَ في قوسهم من منزع بعد أن تمكنوا من إبعاد الشيوعية قرناً ونصف القرن، بل ونزعوا نزوع الإرهابيين الإنتحاريين ففجروا أنفسهم وخسروا حياتهم من أجل أن يطردوا شبح الشيوعية من سمائهم.

صحيح اليوم أننا بلا رأسمالية بعد أن انتحرت في محاولة بائسة لقتل الشيوعية، وصحيح أيضاً أننا لا نكاد نرى شبح الشيوعية في سماء أوروبا أو أميركا، لكنه صحيح كذلك أن العالم لا يستطيع أن يستمر في العيش على هذا النمط من الإنتاج. وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة الأميركية وهي تنتج حوالي 30% من إنتاج العالم تستدين يومياً ما يزيد على مليارين من الدولارات كيما تستمر في معاشها اليومي ولا تنهار. الحال في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا ليس أفضل منه في الولايات المتحدة. لن يستمر الحال على هذا المنوال! سيفيق العالم في يوم قريب ليجد الحياة فيه قد تعطلت تماماً ـ لا خبز ولا ماء، لا وقود ولا كهرباء. وسيكون العالم محظوظاً إن لم يرحْ إلى حرب نووية عالمية لا تبقي ولا تذر.

لن يستمر منتجو السلع طويلاً في تبديل منتوجاتهم في سوق ليست حرة على الإطلاق ب 30% من قيمتها بالخدمات خاصة وأن القاعدة التاريخية في الإقتصاد هي أن منتجي السلع لا يحتاجون الخدمات إلا لكي ينتجوا المزيد من السلع. إذا لم ينجح العالم في الأمد القريب في إعادة التوازن بين إنتاج السلع مقابل إنتاج الخدمات بحيث إنتاج السلع يساوي مثلي إنتاج الخدمات على الأقل أو ثلاثة أمثال فإن العالم سيسقط في هاوية لا قرار لها. إن إنعاش البروليتاريا في مختلف بلدان العالم وخاصة في البلدان الخدمية مثل الخمسة الكبار أو الثمانية الكبار هو مهمة إنسانية من الدرجة الأولى. إنها أولى المهمات التي تتعلق بحياة البشرية، بمستقبلها وبتقرير مصيرها. مضاعفة إنتاج السلع لمثلي أو ثلاثة أمثال إنتاج الخدمات من شأنه أن يعيد البروليتاريا إلى سابق عهدها بل لأن تكون صاحبة اليد العليا في قيادة المجتمع بدون أي سلطان للرأسماليين. بناء على مثل هذا السيناريو الواقعي جداً تتحقق مقولة الذين ما زالوا يتحققون من شبح الشيوعية، مقولتهم الدارجة فيما بعد انهيار مشروع لينين والتي تقول.. الإشتراكية أو الفناء.

فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01