أحد أهم الدعابات السياسية التي نسمعها اليوم في سماء المنطقة، هي أن الحركات الجهادية والأصولية معادية للمشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة، وأنها تقف عقبة كأداء في وجه المخططات الأمريكية، وتطرح نفسها كبديل وطني لما عجزت عنه أنظمة القهر والتجويع والإفقار الممنهج والاستبداد. وسنبين، وباختصار شديد، كيف تعمل هذه الحركات بتناغم دقيق وعجيب مع المشاريع الأمريكية في المنطقة، هذا إذا علمنا مسبقاً، أن أحد أهم فروعها كان قد انطلق من مكاتب استخباراتية فاعلة في المنطقة حيث بدأت رحلتها الجهادية من أفغانستان، التي صبت في طاحونة حسم الحرب الباردة لصالح quot;الصليبيين والكفارquot;، وتستقر أخيراً في أزقة وزواريب الشرق الأوسط الجديد، شرق الطوائف والمذاهب والعشائر والتفتيت. إذ ليس من قبيل الصدفة البتة تزامن إطلاق مشروع الشرق الأوسط الكبير مع أسلفة ووهبنة عموم المنطقة وتورم ونضوج المشروع الأصولي والوهابي، وبلوغه مداه الأقصى بعد عقود من الزخم والدعم السلطوي له، والضخ المعنوي الكبير، وتهيئة كافة المناخات لعمله. لقد أخطأت الأنظمة القائمة بتحالفاتها المبهمة والآنية معهم فالثمن القادم باهظ وكبير جداً. إذ يعتبر اليوم الحامل الأساسي، والرئيسي للمشروع الأمريكي الشرق أوسطي في المنطقة، هي الحركات الأصولية والجهادية، بعينها، ولا شيء سواها، حتى وإن تلطت وراء عناوين وشعارات براقة ونازلة بـquot;الباراشوتاتquot; المقدسة من سابع سماء.
أولاً، وقبل كل شيء، من مصلحة أمريكا وإسرائيل بقاء العالمين quot;العربي والإسلاميquot;، (مع التحفظ على التسمية لعدم اكتمال المسمى لشروطه)، في حالة من التخلف والانحطاط والتدهور والسلفية بكافة أشكالها وخاصة السياسية ( الخلافة الإسلامية)، وخارج التاريخ والسياق الإنساني العام، وهذا ما تعلنه هذه الحركات، وتعمل، دؤوباً، ليل نهار، على تحقيقه، وهو جوهر ولب المشروع الأصولي العام ومن تقاليده وتراثه العداء المطلق للحداثة والعصرنة ورفض الأخذ، والاعتراف بمقوماتها وأدواتها، والعودة، كلياً، إلى الوراء بهذه الشعوب والجغرافيات المهلهلة إلى عصور بادت وماتت بكل ما في ذلك من تخلف عن اللحاق بالركب الحضاري الذي يتقدم بسرعة لا متناهية، وهو الوحيد (المشروع الحضاري) القادر على إحياء هذه الشعوب وإبقائها في دائرة المنافسة والحياة. ألم يصرح دونالد رامسفيلد، ذات يوم، وبالفم الملآن، عن عزمه إعادة العراق إلى العصور الحجرية؟ وقد أفلح في هذا، بعض الشيء، بمعية الجماعات الجهادية إياها. وهذا ما يصرح به أيضاً أمراء الجهاد، ولكن تحت يافطة من النوستالجيا الدينية المشبعة بالقداسة والرومانس، بالعودة، طواعية، وجماعياً، إلى زمن وأيام السلف الصالح رعاهم الله حيث تستحيل، وبالمطلق هذه العودة، وإعادة الإنتاج.
المشروع الأصولي الذي يحرص على تبني خطاب وثقافة ومبادئ وقيم أصبحت في حكم التاريخ والموات ولا تتلاءم مع روح العصر، تجعل من يحمل هذا الخطاب قاصراً وعاجزاً ومعزولاً عن كافة تيارات الحداثة والتنوير وتهمشـّه وتجعله غير منسجم مع روح العصر التي تتطلب الديناميكية والمرونة والإبداع، لا الجمود والتحجر والفكري. ومن هنا نرى الدعم الهائل واللا محدود من قبل أمريكا وإسرائيل لهذه المنظمات وتعويمها جماهيرياً وشعبياً وترويج طقوسها وثقافتها، عبر وسائل إعلامية تبدو إيمانية ودعوية وجهادية ومناصرة للحق في مظهرها، لكنها شرق أوسطية في نهجها وتوجهها وأهدافها واستراتيجيتها العامة.
أصبحت الحركات الجهادية والأصولية تشكل الآن جزراً أمنية وطائفية وسياسيية معزولة وشبه مستقلة داخل الأوطان، في لبنان، وفلسطين، والعراق، ومصر، والجزائر واليمن والصومال، وهذا، وكما هو معلوم، ومفهوم، لا يخرج قيد أنملة عن التصورات الشرق أوسطية التجزيئية، بحال، بل يصب في طواحينها في المآل، ويدعم بقوة هذا المشروع الذي انبنى أصلاً على التفتيت والتقسيم والانفلات. والحركات الأصولية حاضن، أيضاً، للاستبداد ومولدة له عبر ثقافتها الإقصائية والشمولية والعنصرية، أحياناً، والتي لا تخدم الحراك الديمقراطي والمشروع الوطني عبر استعدائها المدعـّم إيديولوجياً للمكونات الوطنية الأخرى، وهذا ما يقف حائلاً أمام الطموحات الخجولة للتحول الديمقراطي المأمول الذي يعني ازدهاراً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهذا ما لا تريده، في النهاية، لا أمريكا ولا إسرائيل.
ربما يعتبر ما حصل غزة- ستان اليوم هو النواة للشرق أوسطية، بالانقلاب الفج على المشروع الوطني الذي شطر الوطن الفلسطيني إلى توأمين متنافرين حتى الآن، وهذا ما تدعمه وتقف أمريكا وإسرائيل وراءه بشدة، وإن كانت تدينه علانية، لأنه يعني انهيار الحلم الوطني الفلسطيني نهائياً، وتأسيساً لدول الطوائف الذي ستكون فيه دولة بني إسرائيل quot;ديكاًquot;، وسط دجاجات هزيلة جرباء.
والفوضى الخلاقة هي أهم أدوات ودعائم ومرتكزات الشرق أوسطية الجديدة. فحين تحاول هذه الحركات الخروج عن القانون، ورفضها للقوانين المدنية، وإصرارها على المشروع الغيبي والقوانين و الدساتير الشرعية القاصرة، والمشروع الوطني العام والخروج عن الإجماع العام، كما حصل ويحصل في غزة ستان وجبال صعدة الحوثية، ومذابح الجماعة الإسلامية في الجزائر والصومال، والاستعراض العسكري لشباب الإخوان في جامعة الأزهر، وتهم التكفير والتخوين والارتداد، فهي تمهد، عن جهل أو قصد، في إحياء الفوضى الخلاقة وإكمال كافة أضلاعها. كما إن مواقفها المعلنة من المرأة والأقليات والمكونات الاجتماعية والوطنية الأخرى، التي لا تتوافق معها لا في الرأي ولا في المعتقد، يؤسس لنشوء صراعات عنيفة، وينذر باشتعال حروب أهلية ضروس شعواء، تأتي على ما تبقى من هيكل وسياج وكيان وطني. وهذا كله في النهاية يوضع في رصيد المحافظين الجدد وخياراتهم الجهنمية الشرق أوسطية الفوضوية. صحيح أن هذه الحركات تجاهر بخطاب دعوي وناري يدغدغ مخيلة الرعاع، إلا أنه في المحصلة وفي الجانب الآخر، يسعى لتقويض آخر ركائز البناء الوطني وتهديد الأمن الوطني العام، عبر إعطاء الذرائع والمبررات للقوى الدولية لشن حروب تفتقر لأدنى درجات القوة والتوازن العسكري، مما يفضي في النهاية إلى تدمير شامل للبنى التحتية والخدمية، المنهكة أصلاً، وهذا كله مسالك ودروب باتجاه الفوضى الخلاقة الوجه الأكثر قبحاً للشرق أوسطية.
إن شعوباً حية متنورة متحررة من الخرافات والدجل والكراهية والخزعبلات، وتؤمن بالتعايش والاختلاف وتقدس المواطنة، و تأخذ بكل أسباب الحضارة الحديثة ومقوماتها وثقافاتها ودساتيرها، وحدها، هي القادرة على النهوض بالمشروع الوطني العام والحفاظ عليه، وهذا ما ترفضه، بل وتعجز عنه معظم هذه الجماعات.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات