حينما يجد الفرد نفسه وبشكل مكثف منتمياً بالكامل لمنظومة ثقافية تحكمها وتديرها بصلابة وصرامة وشمولية الأيديولوجيات الدينية عبر مؤسساتها ذات المكونات السياسية والتحزبية والتنظيمية والعقائدية المؤدلجة، فأنه يتحول إلى مدافع شرس عن صحة ومثالية ويقينية ولا زمنية تلك الأيديولوجيات كما يؤمن بها في نظره واعتقاده ووعيه وفي لا وعيه أيضاً، ويناضل من أجل أن تبقى حاملةً دائماً لتلك الصفات في يقينه ومعتقده وفكره ووجدانه، وأن تبقى أيضاً متصفة بهذه المميزات في الوجدان والوعي الجمعي للبيئة الاجتماعية التي نمت عليها وترعرعت بين جنباتها وتماثلت معها ثقافياً ومسلكياً وآمنت بها، ولكن من خلال تجربتي السابقة مع الأيديولوجيات الدينية أستطيع القول بأن المؤدلج الديني في حقيقته الداخلية لا يدافع عن أيديولوجيته الدينية بقدر ما أنه واقعياً يدافع عن وجوده ونفسه وكيانه، لأنه قد وجدَ نفسه واقعاً بالكامل في مرحلةٍ متقدمة في براثنها ولا يستطيع الفكاك من أسرها وأغلالها، فأصبح يرهن وجوده بوجودها في أعماقه متأججةً بالعنفوان اليقيني والاعتداد الإيماني، وأية نهاية لأيديولوجيته تعني في نظره نهاية لوجوده ونفسه وكيانه، وأيّ شرخ قد يصيب أيديولوجيته في مقتل، فأنه يجد أن ذلك الشرخ قد جرحَ وجوده وكيانه ونال من مكانته ورمزيته ونال أيضاً من تاريخه ومقدساته..
ولذلك كثيراً ما نجد أن الصراع الذي يحتدم ضراوةً وشراسة بين التيارات الدينية المؤدلجة على اختلافها، في حقيقته هو صراع اثبات وجود ودفاع كامل عن أحقية كل تيار بقيادة الناس والمجتمع والعالم وفقاً لأيديولوجياته الدينية، تلك التيارات إنما تتقاتل وتتصارع وتفتك بعضها بعضاً، ليس دفاعاً عن أيديولوجياتها الفكرية بقدر ما هو دفاع مستميت عن وجودها الكياني في توسعاتها الجغرافية المكانية، وفي الوقت ذاته دفاع عن ذاكرتها الزمانية التي حوتها الأمكنة تلك وتطهرت بها وتداعت إليها، وهو دفاع عن كينونتها الداخلية وعن شخصيتها وعن وضعها الاعتباري والرمزي، ودفاع عن مكتسباتها الاستحواذية وكلما توسعت التيارات الدينية المؤدلجة في رقعتها الاستحواذية، كانت أكثر شراسة وصلابة في الدفاع عن وجودها وعن شخصيتها الثقافية والرمزية..
وحينما أعود الآن بذاكرتي إلى مراحل تلك التجربة أتذكر أمراً كنا ننصاع إليه تلقائياً ونندرج في برمجياته الثقافية غير مدركينَ تماماً لخطورته آنذاك على واحدة من أبسط حقوقنا الإنسانية في أن نعيش بإرادة مستقلة حرة، وأن نُقبل على الحياة بمتعة فلسفية خلاقة ورحبة مشرعة على فضاءات الإبداع المعرفي ومشرعة على تلويناتها المختلفة، وهو أن الأيديولوجيات الدينية تعمل على خلق مناخ بيئي يهدف إلى تحقيق الاستجابة الكاملة لها تتمثل هذه الاستجابة في الانصياع لتعاليمها وأدبياتها وفروضاتها الثقافية والأخلاقية بشكل فطري وتوارثي وتلقائي، وما يجعل ثقافة الانصياع قيد الإثارة والتوهج هو تركيزها الدائم على البعد العاطفي والحماسي فقط، لأنها ثقافة خالية من أية أساسات فكرية رصينة ومتينة، وخالية من أية فلسفات إنسانية عميقة، وذلك لكي توفر للفرد التحاماً عاطفياً وحماسياً مع مكوناتها التي تتراسل كما هي دوماً في بيئته ومحيطه شفهياً ومنبرياً ووعظياً وتوجيهياً ووراثياً، ولذلك حينما انفتحتُ بعد تلك التجربة على الفكر الإنساني الرحب، اكتشفتُ أن الأيديولوجيات الدينية لا تمثل سوى نسبة ضئيلة جداً من التراكمات المعرفية والفلسفية للفكر الإنساني العام، وتكاد تخلو من أية مساهمات فكرية أو فلسفية أو أدبية فعالة ووهاجة في انتاج وثراء وتطور الفكر الإنساني الحر..
وأتذكر أني منذ اللحظة التي بدأت فيها ممارسة حقي الطبيعي في التفكير والنقد لتجربتي تلك، صحوتُ على وهم كنا متسربلينَ فيه حد الثمالة مستمتعينَ بلذائذه الشعورية والنفسية والعاطفية والحماسية، حيث أسررتُ لأحد أصدقائي ممن كان يتواطؤ معي في اقتراف متعة التمرد على الأيديولوجيات الدينية، حيث قلت له: ألم يكن وهماً كبيراً إننا نحن المؤدلجين الدينيين في ذلك الوقت كنا نعتقد ونؤمن وكأننا نحكم العالم وأن الأمور في هذا الكون ستؤول إلينا لا محالة، وإن العالم في الألفية الثالثة سيجد خلاصه في ديننا وتعاليمنا وأحكامنا؟ ألم نكن نفكر على هذا النحو الحماسي والعاطفي والشعاراتي الفارغ؟ وبعدها وجدنا أنفسنا نصحو على خيبتنا وأوهامنا وضعفنا ونرجسيتنا الزائفة وهشاشتنا الفكرية، وكل ذلك كان بطبيعة الحال نتيجة الشحن الديني الذي يقوم على سياسة التعبئة العاطفية والحماسية والشعاراتية، وتتفنن من خلالها الأيديولوجيات الدينية في ممارسة الخداع عبر صناعة الوهم في الخيال الجمعي لأفرادها وتغذيته بانتاج المشهديات التخيلية المعاكسة للواقع والمنطق والظروف المعاصرة، وهو الوهم الذي يجعلهم ينسجون من حماستهم وعاطفتهم وتبعيتهم الأحلام الكبيرة والتهويمات المستحيلة والمشاريع الطوباوية، ومن المهم جداً أن تمارس الأيديولوجيات الدينية فنون الخداع والوهم لكي تجعل التابعين لها يقتاتون طويلاً من رحيق هذا الخدَر اللذيذ، وينغمسون في نعيمه الأبدي مغيّبين عن الواقع والعقل والمنطق والتفكير وعن مجريات العصر، وثقافة الوهم الذي تصنعه الأيديولوجيات الدينية وتوجده في أفرادها ليس بالضرورة يقوم على الفراغ أو الكذب، لأنه الوهم الذي تقوم بزراعته وترسيخه بكثافة في تجاويف الوجدان والخيال والعاطفة، الأدبيات الأيديولوجية المفعمة بثقافة الغيبيات والقدريات واليقينيات الماورائية المطلقة..
وحينما تكون الأيديولوجيات الدينية مهيمنة على المؤمنين بها بفيوضاتها الثقافية والروحية والعاطفية واليقينية وتشملهم دائماً برعايتها الأبوية والسماوية، فإنها في هذه الحالة تبقى متفوقة عليهم تحولهم إلى مجرد متلقينَ مطيعينَ لها تسلبهم من دون أن يشعروا خاصية التفكير والقرار، وتسعى الأيديولوجيات تلك إلى أن تبقى دائماً محتفظة ببريق التفوق على أفرادها، هذا التفوق المغلف بهالة من التقديس والأسطرة والعلو، بحيث تُبقيها بعيداً عن مخاطر التساؤل أو النقد أو التفكير أو حتى مجرد اجتراح الاحتمالات على سبيل الفرضيات، لأنها متفوقة عليهم بمكوناتها الغيبية الخارقة العصيّة على الفهم البشري المحدود والقاصر..
وعادةً ما تقع مسؤولية تثبيت وترسيخ وتعميق قناعة التفوق للأيديولوجيات الدينية في تجمعاتها الإيمانية على عاتق قادتها الدينيين الذين يتمتعون بصفة القداسة الرمزية، أولئك القادة الذين نذروا أنفسهم لحمايتها من العابثين والمتطاولين والشكاكين والمخربين، وأتذكر في هذا السياق كيف كان يسبغ الدينيون المؤدلجون صفات الطهارة والنقاء والنبل والقداسة والبياض والبطولة والشهامة والرفعة وربما حتى الألوهية على قادتهم الرمزيين ويمنحونهم تالياً من التقدير والتبجيل أكثر مما يستحقون وربما فوق ما يتصورون، ويسيرون في ركابهم حيث ما يسيرون، وكل ذلك يتم وفقاً لآلية دينية ديناميكية مغلفة بالدهاء الناعم، تتمثل في أن قادة الفكر الديني المؤدلج في الحقيقة هم مسكونونَ دائماً بفضيلة التمجيد لأنفسهم ومكانتهم، لأنهم يقدمون التضحيات الجليلة ويحملون فوق أكتافهم هموم الأمة والرسالات ومثقلين بالجهود الجبارة ويصنعون الانجازات العظيمة للبشرية، ولذلك يفرض الواجب على التابعين لهم والمؤمنين بهم أن يمجّدوا في مقابل ذلك ثقافة التبعية والطاعة لهم والقبول بهم على أنه استعداد كامل من قِبلهم بالتضحية من أجلهم ومن أجل أفكارهم وستراتيجياتهم ومشاريعهم..
وفي جلسةٍ جمعتني بأحد الأصدقاء فاجأته بسؤال مباغت: ما أول قناعة دينية مؤدلجة استطعت أن تحطمها في طريق تمردك على تلك الأيديولوجيات.؟ فأجابني سريعاً من غير تلكؤ: أسقطت الرمز من حساباتي، ومعه تهاوت البقية الباقية من الأدلجات الدينية الأخرى، ذلك الرمز الذي لطالما وجده يتمثل في حتمية السلطة المطلقة لقادته الدينيين وأحقيتهم السلطوية عليه وعلى حريته وتفكيره وقراره وحتى على حياته، ومن ثمَّ أيقنَ إنها ليست سوى قناعة مؤدلجة صنعتها وغذتها في أعماقه الأوهام الزائفة والمخاتلة، ربما كان صديقي يحدق ملياً فيما حوله باحثاً عن حقيقةٍ ما وهو يقف خارج تلك الاكراهات والأثقال الوراثية، وربما بالنسبة لغيره قد تكون أولى القناعات الدينية المؤدلجة التي أسقطها من حساباته، تلك التي تمثلت في وثنية النص اللاهوتي، وحينما سألته ثانيةً: لماذا أسقطتَ أخيراً هذه القناعة من حياتك.؟ أجابني بنبرة منشرحة: ببساطة، وجدتُ أنني لستُ بحاجةٍ إليها في حياتي..
محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]
التعليقات