لازلنا نقتبس من النور المبين ونبحث في خبايا الكنز الدفين في رحلتنا مع الكلمة القرآنية وقبل أن نبحر في أعماق القرآن التي لا نهاية لها أدعوكم معي لنذهب سوية إلى عصر ما قبل الإسلام لنطلع على ما يحصل هناك.....

إنهم يقيمون أسواقاً للكلمة والأمة الوحيدة التي كانت تقيم للكلمة معارضاً هي أمة العرب آنذاك وسوق عكاظ الشهير يشهد بذلك حيث كانت تضرب قبة للنابغة الذبياني ويتبارى فيها الشعراء على مسمع ومرأى من الناس.. وكيف إنه عاب على حسان بن ثابت بعض الكلمات التي وضعها في غير موضعها..... وإليك مختصر القصه التي تروى في قصص العرب وسيرهم: عندما ضربت القبة وجلس النابغة الذبياني كان أول من ألقى قصيدة هي الخنساء وقد رثت أخاها صخر في قصيدتها الشهيرة التي تقول في أولها.. قذًى بعينك أم بالعين عوار...... أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار.. إلى أن قالت... وإن صخراً لمولانا وسيدنا........ وإن صخراً إذا يشتو لنحار.. أغر أبلج تأتم الهداة به........ كأنه علم في رأسه نار... ولما أتمت قال لها النابغة لولا وجود ( أبو بصير ) يقصد الأعشى لقلت أنتي أفضل الشعراء ولكنك أفضل النساء شعراً عند ذلك إحتج حسان بن ثابت وقال أين أنا فقال له النابغة لنسمع ما عندك فوصف حسان نفسه بالكرم بقوله..... لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحا.... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما.... ولدنا بني العنقاء وابني محرق....... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا إبنما... ولما أتم قال له النابغة هناك بعض الكلمات وضعتها في غير موضعها.... أولاً: قلت الجفنات وهذا جمع قله.. فقللت العدد وكان الأجدر أن تقول الجفان.. والجفان يعني القصاع التي تعد للطعام كما في قوله تعالى: ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ) سبأ 13.. يعني قصاع كالحياض...

ثانياً: قلت يلمعن بالضحا وكان الأفضل أن تقول: يبرقن بالدجا.. لأن الضيوف أكثر طروقاً وقت الليل.... ثالثاً قلت: وأسيافنا يقطرن فقللت عدد من تقتل وكان الأفضل القول: يجرين.... رابعاً: إفتخرت بمن ولتهم أنت وأختك والعربي يفتخر بآبائه.... الذي جعلني أسرد لك هذه القصه.. هو لأجل أن تقارن بين كلامهم وهم أهل البلاغة والفصاحة وبين كلمات القرآن.. التي أين ما حلت كأن الموضع مرسوم لها كما مر عليك في المقال السابق ثم إن القرآن يوصل لنا الكلام بأقرب الطرق إختصاراً فلا يوجد فيه زيادة على الأصل المنتظم من الكلام وعلى سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) البقره 179... فإن مادة هذه الآية ( القصاص حياة ) ويقابل هذه المادة القرآنية عند العرب قبل الإسلام ( القتل أنفى للقتل )... وعندما نلاحظ المادتين نجد المادة القرآنية مكونة من كلمتين والعربية ثلاث كلمات والقرآنية عشر حروف وعند العرب أربعة عشر حرفاً وعند بعضهم ( الدم أنفى للدم ) وحتى عند هذا الإختصار تبقى الكلمات ثلاثه والحروف إثني عشر حرفاً فهنا تكمن البلاغة القرآنية والكلمة القرآنية مع حفاظها على أصل المعنى الذي وضعت له نجد موقعها في السياق القرآني يضفي عليها حلة قرآنية تأخذ بالتجديد في كل مراحلها الإنتقالية من آية إلى أخرى فمثلاً كلمة ( آية ) التي معناها ( العلامة ) نرى هذه الكلمة
تعطينا معاني مختلفة في كل مرة حسب السياق الذي وضعت فيه مع حفاظها على الأصل فمثلاً قوله تعالى ( قال رب إجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) مريم 10... فهنا معناها الحجة والدليل.. وفي قوله ( وأنزلنا فيها آيات بينات ) النور 1 يعني الآيات القرآنية وكذلك قوله ( ماننسخ من آية أو ننسها ) البقرة 106.. وهذا كثير... وتأتي بمعنى العلامات الكونية كقوله ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) الإسراء 12.. وتأتي بمعنى البنايات الكبيرة كقوله تعالى ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون ) الشعراء 128.... وذهب غير واحد من المفسرين إلى إن أكثر الكلمات التي تأتي بحلة جديدة كل مرة هي كلمة ( أمة ) ومن بين هؤلاء ( إبن كثير ) في مقدمة تفسيره ثم كرر ذلك في الآية الثامنة من سورة هود حيث قال: والأمة تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة فيراد بها الأمد كقوله في هذه الآية ( إلى أمة معدودة ) هود 8... وقوله ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ) يوسف 45....

وتستعمل في الإمام المقتدى به كقوله ( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ) وتستعمل في الملة والدين كقوله إخباراً عن المشركين إنهم قالوا ( إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) الزخرف 23... وتستعمل في الجماعة كقوله ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ) القصص 23... وقوله ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) النحل 36... وقال تعالى ( ولكل أمة رسولاً فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) يونس 47.... والمراد بالأمة ههنا الذين يبعث فيهم الرسول مؤمنهم وكافرهم أما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل كما قال تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) آل عمران 110.. وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة كقوله ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) الأعراف 159... إنتهى كلام بن كثير ( رحمه الله ) أقول نعم قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) هذا عام يراد به الخصوص كقوله تعالى ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) الإسراء 70.. وإلا كيف يفضل الإنسان الذي يفجر أمامه على الملائكة وغيرهم وهو تعالى قد وصفه بقوله ( أؤلئك كالأنعام بل هم أضل أؤلئك هم الغافلون ) الأعراف 179... في القادم الجديد سأتكلم عن ( الروح في القرآن الكريم )...

عبد الله بدر إسكندر المالكي